طفيات الشريف الرضي دراسة في البِنية الفنيَّة ــ القسم الثاني

بقلم: الدكتور علي كاظم المصلاوي

المبحث الثالث: البنية الداخلية (اللغة الشعرية)

1ـ الألفاظ


لا شكَّ في أن الألفاظ ليس لها قيمة كبرى بعيداً عن معناها الموضوع لها، أو المعنى المتشكل في السياق الذي وضعها الشاعر فيه. وهي بذلك تختزن طاقات وجدانية خيالية موسيقية تثير الانطباعات والتداعيات المختلفة في ذهن الإنسان خاصة إذا لم يستعملها في سياق مألوف أو متعارف عليه مما يفقدها لحظة الاصطدام بذهن المتلقي فتحدث فيه المفاجأة أو التأثير المطلوب.

لم يكن شاعرنا الشريف بشاعر يجهل ما لقيمة الألفاظ من أثر في تشكيل المعاني المرادة والدلالات التي تشع منها فهو إذ يضعها يتحسسها بحس شعري مرهف مكنته إياه ثقافته الواسعة واطلاعه العميق على نتاجات العرب في الجاهلية حتى عصره عارفاً بتطور الأساليب والعلامات المتميزة في مسيرة الشعر العربي فكان دقيقاً بصيراً في صياغته الشعرية، لم يبتعد عن أساليب القدماء ولكنه كان يتخذ منها منطلقاً نحو حداثة هو مبتدعها ومشكِّل هويتها.[1]

وهو إذ يزاوج بين القديم والجديد تظهر على سطح نتاجاته بعض الألفاظ والتراكيب المنتمية لغير عصره، وربما كان وراء ذلك ثقافته اللغوية الشديدة الارتباط بتراث العرب القديم، فقد كان الشريف الرضي "على حظٍ عجيب من المعجم الفصيح مما مكَّن اسلوبه من القوة وطوع التغير، فجاء وسطاً بين تعقيد المعري وتركيز المتنبي"[2]. وهو إذ يصنع ذلك يشير إلى نمطٍ مخلص لثقافة قومه وتأريخهم، في وقت بدأ التنصل من تلك الثقافة وتأريخها يتخذ منحىً خطيراً خاصة وقد تقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات وإمارات صغيرة، ودخل في العرب من يريد أن يصنع الفتن من أقوام غاظها ما للعرب ولغتهم من أصالة عريقة.

ومهما يكن من أمرٍ فإن الطابع البدوي كان سمة لا تغادر شعر الشريف الرضي كله، مما أهَّلَه لأن يترأس مدرسة خاصة به كان إشعاعها ممتدّاً إلى عصرنا الحاضر[3]. وإذا ما تصفحنا طفياته فإننا نجدها مليئة بتلك الروح البدوية. قال الشريف[4]:

هذي المَنازِلُ بالغَميمِ، فنادِها *** واسكُبْ سَخِيَّ العَيْنِ بَعْدَ جَمادِها
إنْ كانَ دَينٌ للمَعالِمِ، فاقْضِهِ، *** أوْ مُهْجَةٌ عِنْدَ الطُّلُولِ فَفادِها
يا هلْ تَبُلُّ مِنَ الغَليلِ إليْهِمُ، *** إشْرافَةٌ للرَّكْبِ فَوْقَ نِجادِها
نُؤْيٌ كُمُنْعَطِفِ الحَنِيَّةِ دُوْنَهُ *** سُحْمٌ الخُدُودِ لهنَّ إْرثُ رَمادِها
ومَناطُ أطْنابٍ وَمَقْعَدُ فِتْيَةٍ، *** تَخْبُو زِنَادُ الحيِّ غيرَ زِنادِها
ومَجَرُّ أرْسانِ الجِيادِ لِغلْمَةٍ *** سجَفوا البُيُوتَ بشُقْرِها وَوِرادِها

وأنت تقرأ هذه الأبيات لا تحسُّ بأن شاعرها عاش في قمة ازدهار الحضارة الإسلامية ونشأ وترعرع في عاصمتها بغداد، وإنما تحس أنه شاعرٌ بدوي يبتدئ كما ابتدأ الشعراء القدامى بالوقوف على الطلل واستذكار مواضع الأحبة، وسكب الدمع على ما حلَّ بهم، ويمعن النظر فيما تركه الأحبة من رماد وأطناب وأماكن للوقود ونجد الشاعر في طفية أخرى يقول[5]:

وراءَكَ عنْ شاكٍ قليلِ العوائِدِ *** تُقَلِّبُهُ بالرَّمْلِ أيْدي الأباعِدِ
يُراعي نُجُومَ الليلِ والهمَّ، كلَّما *** مضى صادرٌ عني بآخِر وارِدِ
توَزَّع بيْنَ النَّجْمِ والدَّمْعِ طَرْفُهُ *** بِمَطْرُوقَةٍ إنْسانُها غيرُ راقِدِ

إنها علائم البادية، الرمال ونجوم الليل الساطعة في صحراء مترامية الأطراف، وبعد ذلك ينظر إلى الدار وكله اشتياق لها وهي هناك من رمل اللوى المتطاول[6]:

فيا نظرةَ لا تنظرُ العَيْنُ اخْتَها *** إلى الدّارِ مِنْ رَمْلٍ اللوى المتَقاوِدِ
هيَ الدَّارُ لا شَوْقي القَدِيمِ بناقِصٍ *** إليها ولا دَمْعي عليها بجامِدِ

وترى هذا الحسَّ البدوي أيضاً في قوله[7]:

صاحَتْ بِذَوْديَ بَغْدادٌ فآنَسَني *** تَقَلُّبي في ظُهُورِ الخَيْلِ والعِيْرِ
وكلَّما هجهجَتْ بي عنْ منازِلِها *** عارضْتُها بِجَنانٍ غيرِ مَذْعُورِ
أطْغى على قاطِنيها غيرَ مُكْتَرِثٍ *** وأفعلُ الْفِعْلَ فيها غيرَ مأمُورِ

فنلحظ الألفاظ (ذودي، هجهجت) من الألفاظ القليلة التداول، بدوية الحس، ولعل الشاعر لم يجد ما يعوض عنها دلالياً أكثر منها لذلك جاء استخدامه لها. فالذود تأتي بمعنى[8] (الطرد والدفع) أي يصبح المعنى صاحت بدفعي أو طردي، ولو استخدم واحدة منها لما اختل المعنى والوزن، ولكنه استخدم (ذودي) فأشعرنا بقوة الطرد وعظم تلك الصيحة ووطأتها الشديدة عليه، تمسّكاً منه بالقديم واعتزازاً به.

نلحظ في استخدامه (هجهجت) بتكرار حروفها قد أعطت معنى التردد والمعاودة في الفعل مما أعطى بعداً دلالياً صوتياً أكبر مما لو استخدم كلمة أخرى ترادفها في معناها. ونراه في قوله أيضاً[9]:

لــيتَ أني أبْـقى فأمْتَرِقُ النـا *** سَ وفي الكَفِّ صارمٌ مَسْلُولُ

قد استخدم كلمة (امترق) ذات الطابع والحس البدوي التي يتقارب معناها من كلمة (اخترق)[10] ولكنه لم يستخدمها على الرغم من عدم تعارضها أو إخلالها بالوزن الموسيقي للبيت.

ولعل إيثار الشاعر هذه اللفظة على سواها من حيث توافر معنى السرعة والقوة، وهذا ما لم تعطه لفظة (اخترق) وكأن الاختراق يكون من الموضع الصعب القوي، والامتراق من الوضع السهل المتمكن الذي يطمح إليه الشاعر. وهذا كله لا يعطيه المعجم ولكن الشاعر بحسه المرهف وعمق درجة تحسسه للألفاظ ومعانيها يضعها في المكان المناسب ولا يضع غيرها وبهذا تكن المفاضلة بينَ الشعراء.

لقد جاء غريب الشريف الرضي طبيعياً متناسقاً مع نفسه، قريباً إلى روحه وأكثر مساساً بتجربته الشعورية والتعبير عنها باللغة فلم يكن متكلفاً ولا وحشياً مغرقاً بالبداوة. فدلَّ ذلك على تمكنه من لغته وتشبهه بشعراء العرب وسلوكه مسالكهم من غير وهن أو ضعفٍ، أو سوء تقليد فكان بارزاً في مضماره لا يشقُّ له غبار.

وعلى الرغم من هذه النزعة البدوية التي تلون بها شعر الشريف عامة فإنَّ سمة الوضوح كانت أيضاً حاضرة في شعره، فنجد السهولة والسلاسة في الألفاظ، متحدة بقوة السبك والصياغة في شعره. وهذا يدلنا على شيء أشار إليه أحدُ الباحثين الكبار وهو أنَّ الشريف الرضي "انتقائي في بناء شعره لا يلتزم طريقة واحدة معينة، فهو بدوي حيناً، وهو يحاكي البحتري حيناً آخر".([11]) ويعلل باحثٌ آخر هذه الانتقائية بقوله أنَّ الشريف الرضي كان "يدعو إلى ابتكار الصورة الشعرية بعد تأمل عميق وحس أصيل واستيعاب واعٍ لتجارب الآخرين"([12]) ولربما كان وراء ذلك "ممارسته الدائمة للقرآن والحديث وكلام الإمام علي قد أثرت في لغته وأسلوبه أحسن تأثير فصفت ديباجته ورقت حاشيته ووضحت عبارته وجمع بين جزالة اللفظ وفخامته ومتانة التعبير وعذوبته وخلا شعره من الفضول والحشو فكان مصداق قوله:

لا يَفْضُلُ المَعْنى على لفْظِهِ *** شيْئاً ولا اللفْظُ على المَعْنى[13]

ومن خلال هذا نتبين أنَّ الشريف الرضي كان واعياً لاستخدامه ألفاظه وعباراته متخذاً بها أسلوباً خاصاً به يميزه عن بقية الشعراء من القدماء والمحدثين وكان ذلك واقعاً.

وقد حققت سمة الوضوح هذه أشياء كان أبرزها استعمال الشاعر للأسماء، فإننا نجد أسماءً قد دللت على معانٍ معينة مثَّلت قيماً خلقية دينية مقدسة وأخرى مثَّلت قيماً مضادة لها، وكأنما يوحي الشاعر بنزاع أبدي بين هاتين الفئتين من الأسماء، فئة خيرة أخروية وفئة ظالمة دنيوية.

وعلى رأس هذه الأسماء التي مثلت قيم الخير الأخروية اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ما يدلّ عليه من لقبٍ أو كنية. فقد استثمره الشاعر في بناء قصائده وجعله منطلقاً نحو دلالات عدة سبقت الإشارة إليها في مبحث البنية الموضوعية.

أما الاسم الثاني الذي نراه يتردد في حضوره في طفيات الشريف الرضي هو اسم (فاطمة) عليها السلام، إذ كانت محوراً مهماً من محاور انطلاق الشاعر، وكأنه يوحي أنّ ظلامة فاطمة عليها السلام وغصب حقِّها في ميراث أبيها وما جرى عليها من مأساة[14] كان ممتدّاً ومتواصلاً مع ما أُلحق بالحسين من ظلمٍ وقتلٍ فيزيد الشاعر من ألم الفجيعة ونارها كيما يحرق القلوب قبل العيون. فهو يجعل فاطمة عليها السلام مرتكزاً انتقالياً بين بداية القصيدة وموضوعها فهو يقول[15]:

شَغَلَ الدُّمُوعَ عنِ الدِيارِ بكاؤُها *** لِبُكاءِ فاطمةٍ على أولادِها
لمْ يَخْلِفُوها في الشَّهيْدِ وقَدْ رَأى *** دَفْعَ الفُراتِ يُذادُ عن أورادِها
أتَرى دَرَتْ أنَّ الحُسيْنَ طَرِيدَةٌ *** لقنا بَني الطّرْداءِ عندَ وِلادِها

وهو دائماً يُقرنُ فاطمة بأبيها في محاولة منه للتأكيد على أنّ الحسين عليه السلام حفيدُ الرسول وابنه مع ربط مصيبة فاطمة عليها السلام بمصيبة الحسين لزيادة الأسى ومرارة الفاجعة فتراه يقول[16]:

ما يُبالي الحِمَامُ أينَ ترقّى *** بعدما غالتِ ابنَ فاطمَ غولُ

وتراه يقول متأوِّهاً على ما حلّ ببني فاطمة[17]:

كمْ رِقابٍ مِنْ بني فاطِمَةٍ *** عُرِقَتْ ما بيْنَهُمْ عِرْقَ المُدَى

وهو يشرك فاطمة عليها السلام مع أبيها وبعلها علي في البكاء على ميِّتِ الطفِّ[18]:

مَيِّتٌ تَبْكي لَهُ فاطِمَةٌ *** وأَبُوها وعليٌّ ذو العُلَى

ونجده يفتخر بحبِّه لأل البيت ويصرح قائلاً[19]:

أنا مولاكُمُ، وإنْ كنتُ منكمْ *** والِدي حيْدَرٌ، وأُمّي البَتُولُ

وإلى جانب اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام نجده يردد اسم علي عليه السلام والأئمة الاثني عشر عليهم السلام، إذ كانوا محلَّ افتخاره وتعظيمه، وهم لهم المكانة العليا عند الله، وهم الصفوة المختارة على العالمين، ومن تمسك بهم نجا، ومن تخلَّف عنهم هلك. وكان حظور هذه الاسماء وبدائها في النسيج اللغوي داعية إلى وضوحه واقترابه من التقريرية والمباشرة وابتعاده عن الشعرية، ولكن ذلك لم يغض من صدق العاطفة التي جاء بها الشاعر[20].

أمّا اسم الحسين صلى الله عليه وآله وسلم فقد تكرر بطريق الكنية ولم يقتصر عليها الشاعر، فقد انفتح ذهنه ومشاعره على نعوت متنوعة أملتها عليه مشاعره الجياشة تجاه ما حلَّ بالحسين في واقعة الطفِّ الأليمة.

فنجده ينعته بالقتيل الذي قوض عمد الدين وأعلام الهدى، وأن الذين قتلوه كانوا يعلمون يقيناً بأنه خامس أصحاب الكسا[21].

يا قَتِيْلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ *** عُمُدَ الدِّينِ وأعْلامَ الهُدى
قَتَلُوهُ بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُمُ *** أنَّه خامِسُ أصْحابِ الكِسا

ولكنه لم يكتف بهذا الوصف، فقد انفتحت مخيلته أو تداعت إلى مشهد مصرعه، فنعته بالصريع الذي لم تغمض عينه، ولم يربط لحييه ولم يمد الرداء عليه، وأن أعداءه غسلوه بدم الطعن وكفنوه ببوغاء الثرى[22]:

وَصَرِيعاً عَالَجَ المَوْتَ بلا *** شَدَّ لَحْيَيْنِ وَلا مَدَّ رِدّا
غَسَلُوهُ بِدَمِ الطَّعْنِ، وَما *** كَفَّنُوهُ غيْرَ بَوْغاءِ الثَّرى

وهو مفجوعٌ بيوم عاشوراء وتذكر ذلك اليوم العصيب على الحسين عليه السلام إذ منعه الأعداءُ من شرب الماء حتى قتل ضامئاً بجنب الفرات العذب. فترى الشاعر يؤكد هذه الحالة في أكثر من موضع من طفياته، يقول الشريف الرضي[23]:

وظامٍ يُريْغُ الماءَ قدْ حِيلَ دُوْنَهُ *** سقَوْهُ ذباباتِ الرِّقاقِ البواردِ

وفي طفِّيّةٍ أخرى يقول[24]:

ضَمْآن سلَّى نَجِيْعُ الطَّعْنِ غلَّتَهُ *** عَنْ بَارِدٍ مِنْ عُبابِ الماءِ مَقْرُورِ

وفي أخرى يقول مواسياً الحسين عليه السلام بهذا الضمأ وأنه كيف يشرب الماء بالتذاذ وقد حرمت مهجة الإمام منه[25]:

أتُراني ألَذُّ ماءً وَلَمَّا *** يَرْوِ مِنْ مُهْجَةِ الإمامِ القَليلُ

وهو ما فتئ ينعته بالحسام والجواد، ولكن أيُّ حسامٍ وأيُّ جوادٍ!![26]:

يا حُساماً فلتْ مضارِبُه آلـــها *** مَ وقد فله الحسامُ الصقيلُ
يا جَواداً أدْمى الجَـوادَ مِنْ الطَّعْـ *** ـنِ وولّى ونــَحْرُهُ مـبـــْلُولُ
حَجَلَ الخيْلُ مِنْ دِماءِ الأعادي *** يَوْمَ يبْدو طَعْنٌ وتَخْفى حُجُولُ

ويناديه بعظيم النداء بـ(يا غريب الديار) إذ يقول[27]:

يا غَرِيْبَ الدِّيارِ صَبْري غَرِيْبٌ *** وقَتِيْلَ الأعْداءِ، نَوْمِيْ قَتِيْلُ
بِي نِزاعٌ يَطْغى إليكَ وشَوْقٌ *** وَغَرامٌ وزَفْرَةٌ وَعَويْلُ
لَيْتَ أنّي ضَــجِيْعَ قَبْرِكَ لَوْ أنـ *** نَ ثَراهُ بِمــَدْمَعِي مَــطْـلُـولُ

إنَّ هذه الغربة غربة الديار لم تكن بأقسى من غربة الروح التي عاناها الحسين عليه السلام وأصحابه الأبرار، وكان الشاعر يحسُّ بذلك الاغتراب فينقله إليه ليكون عوناً له في غربته هو، فينطلق "الصوت الذي يسكن أعماقه الموحشة، ويركب لسانه الذي لا يكف عن اللهج والتحسس، فتظلَّ المناداة الصارخة: ياغريب الديار صبري عجيب مدخلاً لتفسير اغتراب الشاعر وغربته التي تتجاوز في المعنى كلَّ شقاء"[28].

إنَّ هذه الغربة تنسحب لدى الشاعر لينادي جدَّه الحسين عليه السلام ليصف معاناته في غربته[29]:

يا جَدُّ لا زالَ لِيْ همٌّ يُحَرِّضُني *** على الدُّمُوعِ ووَجْدٌ غَيْرُ مَقْهُورِ
والدَّمْعُ تحْفُزُهُ عَيْنٌ مُؤَرَّقةٌ *** حَفْزَ الحَنيةِ عَنْ نَزْعٍ وَتَوْتيْرِ
إنَّ السُّلوَّ لَمَحْظُورٌ على كَبِدِي *** وما السُّلوُّ على قَلْبٍ بِمَحْظُورِ

إنَّها غربة الشاعر السياسية والاجتماعية وقد اختلطت بغربته في التفرد والتمايز عن الآخرين، فتراه يقول في طفيته الأخرى[30]:

يا جَدُّ لا زالَتْ كتائِبُ حَسْرَةٍ *** تَغْشى الضَّمِيْرَ بِكَرِّها وطِرَادِها
أبَداً عَلَيْكَ وأدْمُعٌ مَسْفُوحَةٌ *** إنْ لَمْ يُراوِحُها البُكاءُ يُغَادِها

إنَّ هذا الاقتراب الروحي من الحسين صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الشاعر ليدلنا على أنه قد اتخذ منه مثالاً وقدوة في حياته، وهذا ما تلمسناه من خلال طفياته.

ومما سبق نلحظ أنَّ اسم الحسين عليه السلام أو بدائله التي استعملها الشاعر كانت محاور انفلاته نحو التعبير الخلاق المبدع المليء بالشعرية والعاطفة والخيال، ولون النسيج الشعري بألوان زاهية أبعدته عن التقريرية والمباشرة وأثرت في المتلقي عظيم الأثر.

أما على صعيد الأسماء التي مثَّلت قيم الشرّ الدنيوية فتجد: بني أمية، وآل حربٍ، ويزيد وزياد وبدائل هذه الأسماء إذ قابلت الأسماء المتقدمة وبدائلها، وفي بعضٍ منها تواشجت معها، خاصة اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هذه الأسماء محطَّ لعنة الشاعر وغضبه وانتقامه، كما كانت محل جدل ونقاشٍ حول ما اقترفته من آثامٍ في حقِّ الرسول وأهل بيته عليهم السلام، وقد أدى ذلك إلى جعل النسيج الذي وردت فيه واضحاً مع اقترابه من التقريرية والمباشرة، وابتعاده عن الخيال والشعرية، إذ مثَّلت هذه الأسماء بواقعيتها المقيتة صخرة جثت على خيال الحرية والسلام المتمثل بالنبي وأهل بيته عليهم السلام وظل يرزح تحتها الشاعر فما كان منه إلا أن يتعامل معها على أساس خشونتها وصلابتها المقيتة. فنراه ينعتهم بأخشن الأوصاف قائلاً[31]:

أألله! ما تَنْفَكُّ في صَفَحاتِها *** خُمُوشٌ لِكَلْبٍ مِنْ أُمَيَّةَ عاقِدِ

وتراه في أخرى يقول[32]:

طَمَسَتْ مَنابِرَها عُلُوجُ أميةٍ *** تَنْزُوا ذئابُهُمُ على أعْوادِهَا

هكذا يعرض بهم عندما يذكرهم، أنهم أناسٌ متوحشون، لا يليق بهم وصفاً إلا الكلب والمسعور والذئب المفترس.

2ـ الصياغة


من المعروف أنَّ الشاعر يستثمر اللغة وهي مادة خام في تشكيل التعبير الذي يتناسب وطبيعة الانفعال الذي يعيشه أثناء الكتابة ويريد أن ينقله لنا بصورة شعرية.

وما تنوع الأساليب الصياغية إلا تنوع في انفعالات الشاعر، والهدف الذي يرمي إليه من خلال إيثار هذا الأسلوب على سواه.

وقد طالعتنا - أثناء العرض المتقدم لسمتي الوضوح والغرابة في ألفاظ الشاعر وكيفية تحققها - مجموعة من الأساليب التركيبية التي استثمرها الشاعر في إخراج تجربته الشعورية ومن هذه الأساليب البارزة في الطفيات أسلوب النداء، وقد تخلل نسيجها ليزيد من انتباه المتلقي أو المخاطب، ويهيِّئ الأذهان والأسماع إلى إذاعة أمر ما أو حقيقة ما، أو لتفصح عن انفعال مكبوت احتكرته ذات الشاعر طويلاً. وكان هذا الأسلوب متآصراً مع الأساليب الأخر ليؤدي الوظيفة الإبلاغية.

فنجد الشاعر قد نادى جدَّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليكون شاهداً على ما فعله الظالمون بالحسين عليه السلام وأهل بيته ليكون أكثر توجعاً وتحسراً على ذلك المصاب[33]:

يا رسُولَ اللهِ لوْ عايَنْتَهُمْ *** وهمُ ما بيْنَ قَتْلٍ وسِبا
مِنْ رَميضٍ يُمْنَعُ الظلَّ ومِنْ *** عاطشٍ يسقى أنابيبُ القَنا
ومَسُوقٍ عاثِرٍ يُسْعى بِهِ *** خَلْفَ مَحْمُولٍ على غَيْرِ وِطَا
مُتْعَبٌ يَشْكُو أذى السير على *** نَقبِ المَنْسمِ، مجْزُولِ المَطا
لرَأتْ عَيْناكَ مِنْهُمْ مَنْظَراً *** للحَشى شجْواً، ولِلْعَيْنِ قّذى

ونلحظ أن الشاعر استعان إلى جانب أسلوب النداء بأسلوب الشرط الذي فتحه الشاعر ليغلقه على صورة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعاين أهل بيته وما جرى عليهم في طف كربلا وقد جاء الجواب المقترن بـ(اللام) بعد أربعة أبيات مما يعلم عن تمكن الشاعر من أدواته الشعرية وتحكمه بها لرسم الصورة المبتغاة - كما جعل هذا الأسلوب المتلقي في شوق وتوقع حتى تنتهي الحلقة التي بدأها الشاعر بالأداة.

ومهما يكن من أمر فإنَّ الشاعر ما فتئ يستنهض الرسول وفاطمة وعلياً عليهم السلام ليكونوا عوناً له في عزائه الحسين عليه السلام.

كما نجد الشاعر يستعمل النداء للندبة واستظهار الغضب والتحسر على أهل البيت، وقد أصبحوا في رعية بني أمية بعد أن كانوا قادة المجتمع والناس لهم تبع[34]:

والَهْفَتاهُ لِعُصْبَةٍ عَلَوِيَّةٍ *** تَبِعَتْ أميَّةَ بَعْدَ عزِّ قيادِها

ونراه يستخدم النداء في بداية أبيات له متتالية ليعزز المعنى بتراكم الصور، وليريح بعض الذي يكبتُ في نفسه من ألم ولوعة على ما أصاب الحسين عليه السلام. فتراه يخاطبه بأعلى صوته[35]:

يا حساماً فَلَّتْ مَضارِبَهُ الهامُ *** وَقَدْ فَلَّهُ الحُسامُ الصَّقيلُ
يا جَواداً أدْمى الْجَوادَ مِنَ الطَّعــ *** ـنِ، وَوَلَّى وَنَحْرَهُ مَبْلُولُ

وَمِنَ الأساليب الأخر الظاهرة والمنتشرة في الطفيات الاستفهام، وكما هو معروف ان الاستفهام عن شيء دليل اهتمام الذات بالجواب وهي في الوقت نفسه تعكس ما يدور من أحاسيس ومشاعر وأفكار، لذلك قد تسأل عن شيء معروف جوابه ولكن فيه ما يروح عن النفس وما تقمصها أو تسلط عليها من انفعال.

وقد استخدم الشاعر من الأدوات الاستفهامية في طفياته الهمزة فكانت محوراً مهماً في استظهار تفجع الشريف وحسرته وألمه وتوجعه مما حلَّ بالحسين عليه السلام وهو بأسئلته هذه يريد أن يشارك الحسين عظيم مصيبته فتراه يقول[36]:

أتُراني أعيرُ وجْهيَ صَوْناً *** وَعلى وَجْهِهِ تَجُولُ الخُيُولُ
أتُراني ألَذُّ ماءً وَلَمَّا *** يَرْوِ مِنْ مُهْجَةِ الإمامِ الغَليلُ

فنلحظ تكرار الأداة مما يعني تراكم الصور بتراكم الانفعال، كما يعطي أيضاً إيقاعاً موسيقياً مضافاً إلى الصورة، ويجلب انتباه المتلقي إليه.

كما يظهر تعجبه واستغرابه بهذه الأداة بقوله[37]:

أألله! ما تَنْفَكُّ في صَفَحاتِها *** خُمُوشٌ لِكَلْبٍ مِنْ أُمَيَّةَ عاقِدِ

فالشاعر يتعجب مما تركه الأمويون من حقد وجور وظلمٍ لأهل البيت ولا زالوا على ذلك حتى نالهم مانالهم على يد العباسيين.

 ونجده يتعجب من حال نفسه في محاولة لتقليل توجعها وألمها على ما نزل به وحلَّ[38]:

أما فارَقَ الأحْبابَ قبْلي مُفارِقٌ *** ولا شَيَّعَ الأضْعانَ مِثْلي بِواحِدِ

ويستخدم الشاعر الأداة (هل) في بثِّ لواعجه وهمه وحسرته للمخاطب الجمعي[39]:

هل تطلبُونَ مِنَ النوَاظِرِ بعدكُمْ *** شيئاً، سوى عبراتِهَا وسهادِهَا

ويستعمل الشاعر الأداة (أي) للتهويل في قوله[40]:

أيُّ يوْمٍ أدْمى المدامِعَ فيهِ *** حادِثٌ رائعٌ وخطبٌ جليلُ

وأي يوم أفضع من ذلك اليوم الذي يرزح الشاعر تحت وطأته وجميع المسلمين وبالأخص الشيعة منهم.

ويستعمل الشاعر (أي) لبيان عظيم قدر جد الحسين وأبيه إذ يدعوهما[41]:

أيُّ جَدٍّ وأبٍ يَدْعُوهُما، *** جَدّ، يا جَدّ، أغِثْني يا أبا

يستعمل الشاعر الأداة (ما) و(أي) ليوجه الأسئلة بالتتابع بهما إلى نفسه لينفس عن غضبه وأحاسيسه المتفجرة وأحزانه المتراكبة في صدره وهمومه بالمجد والعلياء[42]:

ما ليْ تَعَجَّبْتُ من همِّي ونفرتِهِ *** والحزن جرحٌ بقلبيْ غيرُ مسْبورِ
بأيِّ طرْفٍ أرى العلياءَ إنْ نَضَبَتْ *** عَيْني، ولَجْلَجتُ عَنْها بالمعاذِيرِ

ويستعمل الشاعر (أين) للسؤال لاعن المكان وإنما عن الذين لم يتبعوا أهل البيت عليهم السلام وكأنما يريد بهذا الأسلوب أن يشير إليهم ويُدِلَّ عليهم وعلى أحقيتهم ومشروعيتهم وأرثهم الذي ورثوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون بذلك دليلاً وداعياً لهم على نهج هذا السبيل[43]:

أيْنَ عنْكُمْ للذي يبْغي بِكُمْ *** ظلَّ عدْن دُونَها حرُّ لظى
أيْنَ عنكُمْ لمُضلٍ طالبٍ *** وضحَ السُّبلِ وأقْمارَ الدُّجى
أيْنَ عنْكمْ للَّذي يَرْجُو بِكُمْ *** معْ رَسُولِ اللهِ فوزاً ونَجا

ومن الأساليب المتآصرة مع أسلوب النداء والاستفهام أسلوب النفي. إذ نجد له نصيباً كبيراً في طفياته. فنجد الشاعر يراكم من صوره بالنفي ليقطع الشك باليقين الحتمي من تجرد الأمويين من أيّة قيمة انسانية، فتراه يقول على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [44]:-

ربَّ ما حاموا، ولا آووا، ولا *** نصُروا أهْلي، ولا أغْنوا غنا
بدَّلُوا دِيْني، ونالوا أسْرَتي *** بالعظيمات، ولمْ يرعوا ألى
نقضوا عهْدي وَقَدْ أبْرَمْتُهُ *** وَعُرى الدِّيْنِ، فَما أبْقَوْا عُرى

ونراه يستعمل النفي لينكر على الأمويين أن يكون فعلهم الشنيع بأهل بيته جزاءً لما فعله من كريم الفعال معهم[45]:

ليسَ هذا لِرَسُولِ اللهِ يا *** أمَّةَ الطُّغيانِ والْبَغْيِ جَزا
غارِسٌ لَمْ يَأْلُ في الْغَرْسِ لَهُمْ *** فإذا قُوا أهْلَهُ مرَّ الْجَنَى

ويكرر هذه الصورة في طفية أخرى مستخدماً الأسلوب نفسه[46]:

ما راقَبَتْ غَضَبَ النبيِّ، وقد غَدا *** زرعُ النَّبيِّ مظَنَّةً لحصادها

وبهذا الأسلوب مع أسلوب العطف يكرر الشاعر النفي ليجعل بين الصورة الأولى المنفية والصورة الثانية فاصلاً إيقاعياً يثير المتلقي ويبعث فيه التأمل[47]:

هيَ الدّارُ لا شَوْقي القَديْمُ بِناقِصٍ *** إلَيْها، ولا دَمْعي عليها بجامِدِ

وتراه يستعمل النفي في إنشاء نوع من الحكمة التي استوحاها الشريف من واقعه المعاش فهو يقول مخاطباً نفسه[48]:

خفِّضْ عليكَ، فللأحزانِ آوِنةٌ *** وما المُقيمُ على حُزْنٍ بمَعْذورِ

وفي بيت آخر يقول: «وَمَا خُلِقْت لِغَيْرِ السّرْجِ وَالْكُورِ».
وتراه يدفع عن نفسه الألم بالافتخار مستخدماً النفي إذ يقول[49]:

ألْقى الزمان بكَلْمٍ غيرِ مندملٍ *** عُمرَ الزمانِ، وقلْبٍ غيرِ مَسْرُورِ

وفي بيت آخر يقول: «والحزن جرحٌ بقلبيْ غيرُ مسْبورِ».

وفي طفية أخرى يقول مستعبراً[50]:

لا شُجـــاعٌ يَبْقى فيعتنق البيـ *** ـضَ ولا آمـــِلٌ ولا مـــأمُولُ

ومن الأساليب الأخرى المشاعة في الطفيات أسلوب الشرط، وغالباً ما استعمل الشاعر الأداة الشرطية (لو) وهي أداة امتناع لامتناع كما يقول النحاة، فإن الصورة الأولى غير حاصلة مما يؤدي إلى عدم حصول الصورة الثانية التي تحصل لو حصلت الأولى.

ولكن الشاعر يستثير بهذا الأسلوب مكامن الحزن والألم على فقد الحسين عليه السلام فتراه يقول[51]:

لو رَسُولُ اللهِ يَحْيا بَعدَهُ *** قَعَدَ اليَوْمَ عليهِ لِلْعَزا

وكأنَّ هذا الشرط جاء ليؤكد ارتباط الرسولصلى الله عليه وآله وسلم بالحسين عليه السلام وأنه امتداده الديني والأخلاقي.

ويستعمل الأسلوب نفسه في بيان أنَّ الأمويين فعلوا فعلتهم النكراء التي لو حلَّ محلهم مشرك لما فعل فعلهم[52]:

لو وَلي ما قدْ وَلوُا مِنْ عتْرَتي *** قائمُ الشِّركِ، لأبقى ورعى

ويكرر الصورة نفسها بصورة أخرى بقوله[53]:

لَوْ بِسِبْطَيْ قيْصَرٍ أوْ هِرْقَلٍ *** فَعلوا فِعْلَ يَزيدٍ ما عَدا

إنَّ فعلتهم نكراء بغيضة غادرة.

و يستعمل الشرط في بناء صورة متنوعة الانفعالات فتراه يقول يصف حاله في بعاد من يحب[54]:

إذا جانَبُوني جانباً مِنْ وِصالِهِمْ *** عَلِقْتُ بِأطْرافِ المُنى والمَوَاعِدِ

وتراه يتوشح برداء التحسر ممزوجاً بالغضب لما يحل به وبالشيعة من امتهان وذل فيقول[55]:

لئِنْ رقَدَ النُّصّارُ عما أصابَنا *** فما اللهُ عمَّا نِيلَ منَّا براقِدِ

ويستعمل الشرط أيضاً في إظهار حكمة استوحاها من ظروفه وتأريخ عائلته العلوية فهو يقول[56]:

إنْ يَظْفَرِ المَوْتُ منَّا بابْنِ مُنْجِبَةٍ، *** فطالما عادَ رَيَّانَ الأظَافيرِ

ونجد أنَّ الشاعر يكثر من استعمال الأداة (كم) الخبرية إذ يكررها في بداية بيتين متتاليين، وقد وجه خطابه إلى كربلاء ليظهر من خلاله ألمه وتفجعه على ما حلَّ بها من قتلٍ وتنكيل وسبي[57]:

كَمْ على تُرْبِكِ لمّا صُرِّعوا *** مِنْ دَمٍ سالَ ومِنْ دمْعٍ جَرى
كَمْ حَصانِ الذَّيلِ يَرْوِي دَمعُها *** خَدَّها عنْدَ قَتيلٍ بالظّما

ويستعمل الشاعر (كم) مرة أخرى لإظهار غضبه ونقمته على الطغاة الذين تحكموا في فضلاء الناس[58]:

كَمْ إلى كَمْ تَعْلُوا الطُّغاةُ، وَكَمْ *** يَحْكُمُ في كُلِّ فاضِلٍ مَفْضُولُ

إنَّ هذا التكرار يعكس كمية الغضب والغيض التي يحملها الشاعر واستنكاره للأحوال التي يعيشها التي يسودها الظلم والغبن.

أما على صعيد التلوين البياني فنجد الشاعر يستخدم التشبيه بالأداة في تلوين صوره، ومنه ما جاء بذكر الأداة من نحو قول يصف وجوه أصحاب الحسين وأهل بيته، يقول[59]:

وَوُجُوهاً كالمصابيحِ، فَمِنْ *** قَمَرٍ غابَ، ونَجْمٍ قَدْ هَوى

والملاحظ على هذا التشبيه أنه اعتيادي لا يثير المتلقي، ولكن الشاعر عمل على إضفاء صفة أعمق حين استخدم المجاز في استكمال الصورة فأخرجها من تقليديتها بأن جعلهم أقماراً تغيب ونجوماً تهوي ولا شك أن صورة القمر الغائب والنجم الذي يهوي تثير في المتلقي بواعث الحزن والكدر لهذا المنظر فكيف بأصحاب الحسين عليه السلام ؟! وهو بذلك ينقل الإحساس بالصورة الحسية إليهم.

ونجد من تشبيهاته البدوية قوله[60]:

نُؤْيٌ كمُنْعَطِفِ الحَّنيَّةِ دُونَهُ *** سُحْمُ الخُدودِ لهنَّ إرْثُ رمادِها

وكذلك قوله[61]:

وقفُوا بها حتّى كأنَّ مطِيَّهُمْ *** كانتْ قوائِمُهُنَّ مِنْ أوْتادِها

ولعل في هذه الصورة نوع من المبالغة المصطنعة بالتشبيه للتدليل على ثبات وقوف هذه العصبة التي نزلت أو وقفت بهذه الأرض لشدّة حزنهم على ما جرى بها من حوادث.

ومن صوره البدوية الأخرى قوله[62]:

قدْ قُلْتُ للرَّكْبِ الطلاحِ كأنَّهمْ *** ربدُ النُّسُورِ عَلى ذُرى أطْوادِها
يِحْدُو بِعَوْجٍ كالْحَنيِّ أطاعَهُ *** مُعْتاصُها، فَطَغى على مُنْقادِها
حتّى تَخَيَّلُ مِنْ هبابِ رِقابِها *** أعْناقَها في السَّير ِ مِنْ أعْدادِها

إنها صورة بدوية لا تثير في المتلقي كبير أثر فيه ولكنها تدخل ضمن إطار الموروث الشعري للشاعر.

ونراه في وصف الحسين عليه السلام حين تلاحقت السيوف وأخذت تترى عليه[63]:

كأنَّ بيضَ المَواضِي، وَهيَ تنْهَبُهُ! *** نارٌ تَحَكّمُ في جِسْمٍ مِنَ النّورِ

والواضح أن هذا التشبيه من مؤثرات الحضارة التي وصل لها عصر الشاعر وتأثر بها وهي من موحيات الفلسفة وعلم الكلام كما هو واضح من ألفاظ (النار) (والنور) التي تستعمل في هذه العلوم.

ومن المعاني الفلسفية التي تطالعنا عند الشريف الرضي قوله[64]:

غايةُ الناسِ في الزَّمانِ فَناءٌ *** وكذا غايَةُ الغُصُونِ الذُبُولُ

عمل الشاعر على تشبيه مصير الإنسان ونهايته في الحياة الدنيا، بصورة حسية ملموسة شفافة إلا أنها جارحة بواقعيتها حيث ذبول الغصون مهما كانت نضرة وزاهية، هذا هو مصير الإنسان الحتمي ولا مهرب له منه. وإلى جانب التشبيه بالأدوات نجد التشبيه البليغ، ولا ريب أن وقعه يكون أقوى في المتلقي وأكثر انطباعاً في ذهنه.

 ومن هذه الصور قوله[65]:

جَزَرُوا جَزْرَ الأضاحي نَسْلَهُ، *** ثمَّ ساقوا أهْلَهُ سَوْقَ الإما

فنلحظ الشاعر قد عمل على تأكيد المشبه عن المشبه به حين حذف الأداة وأضاف إلى الصورة إيقاعاً موسيقياً متأتٍ من تشقيق الفعلين (جزروا جزر، ساقوا.. سوق) مما أعطى حدة وقوة للفعل الشنيع الذي فعله الأمويون.

ومن الصورة الأخرى التي سجلها الشاعر بهذا الأسلوب قوله[66]:

إنَّــما المرْءُ للمــنيةِ مخْـبو *** ءٌ، وللطـعْنِ تُسْتَجَمُّ الخُــيولُ

فالشاعر هنا يعقد موازنة بين صورتين بدون ذكر الأداة، فالصورة الأولى مثلت المرء وقد اختبأت له المنية أو هو مخبوء لها في كل ركن أو لحظة من لحظات حياته وهو ينعم رغداً في هذه الدنيا. وحالة الإنسان على هذا الوضع تشابه صورة حسية أخرى وهي أن الخيل تراح وتطعم وهي في دعة وأمان حتى تقدم للحرب حيث الطعن ووقع الرماح والسيوف، فالخيل لم تكن تعلم أن وراءها يوماً ثقيلاً كيوم الحرب وكذلك الإنسان لا يعلم أو يتناسى أن وراءه يوماً أصعب من يوم الحرب على الخيل.

ومهما يكن من أمر فإن الشريف استعمل التشبيه البليغ في طفياته، مما يدل على اهتمامه بهذا النوع من الأساليب في تلوين نسيجه اللغوي[67].

ويلحظ الباحث جملة من المجازات والاستعارات استخدمها الشاعر خير استخدام ووظفها توظيفاً حسناً ضاعف من روعة وجمال الصورة من ذلك قوله[68]:

عادةٌ للزمانِ في كلِّ يَوْمٍ *** يتناءَى خِلٌّ، وتبكي طُلُولُ

فالشاعر هنا أعطى لصورته بعداً عميقاً إذ شخص الزمان وجعل له عادة في كل يوم، وأضاف لها تشخيصاً ثانياً جميلاً حين جعل الطلول تبكي من حيث فراق الأحبة لها والخلان، أنها جدلية عميقة بين الحلِّ والارتحال يطرحها الشاعر بهذا التشخيص الجميل.

أما الصورة الأخرى التي يتحفنا بها الشريف في قوله من القصيدة نفسها واصفاً مصرع الحسين عليه السلام[69]:

قبلتْهُ الرِّمــاحُ وانتَضَلَتْ فيــ *** ـة المــنايا وعـانَقَتْهُ النُصُولُ

فنلحظ الشاعر قد ابتدع ثلاث صور كان الفاصل فيها واو العطف بما يعطي للمتلقي فرصة لأن يستوحي الصورة ويتأملها قبل أن ينقله إلى جوِّ الصورة الثانية والتي بعدها يدخله في الصورة الثالثة بواو العطف ومجموع الصور تمثل مصرع الحسين عليه السلام وقد دارت به الدوائر من كل حدبٍ وصوبٍ، وكأن هذه الصور بتلاحقها سارعت من شدِّ المتلقي للحظات الأخيرة لمصرع الحسين عليه السلام.

 وقوله في طفية أخرى[70]:

للهِ مُلْقًى على الرَّمْضاءِ عضَّ بِهِ *** فمُ الرَّدى بَيْنَ إقْدامٍ وتَشْمِيرِ
تَحْنو عليْهِ الرُّبى ظلّاً، وتَسْتُرُه *** عَنِ النّواظِرِ أذيالُ الأعاصِيرِ

لعل حدة الانفعال التي تمثلها الشاعر في مصرع الحسين عليه السلام كانت وراء انفتاح مخيلته على صور متحركة مشخصة «فمُ الرَّدى بَيْنَ إقْدامٍ وتَشْمِيرِ» و«تَحْنو عليْهِ الرُّبى ظلّاً، وتَسْتُرُه» يعجب بها المتلقي ويسرح ذهنه في تأمل وإعجاب.

كما نلحظ مجموعة أخرى من المجازات منتشرة في الطفيات مما أدى إلى تلوين النسيج اللغوي بألوان ضاعفت من بهاء الصورة وتحركها، وأعجبت المتلقي فراح يتأملها. ونمت عن مقدرة فنية عالية امتلكها الشاعر وقدرة على الإبداع والتخيل نادرة. من تلك «والحزن جرحٌ بقلبيْ غيرُ مسْبورِ» «بني أميَّةَ! ما الأسيافُ نائِمَةٌ» و«أطراف الرماح» و«كتائب حسرة» «أطراف الفخار» «حيّتكَ بلْ حَيَّتْ طُلُولُكَ ديمةٌ» «يا جِبالَ المجْدِ غرّاً وعُلى».

ولا ننسى تشخيصه لكربلاء إذ وصفها الشاعر بالكرب والبلاء، وبتعجب خلفه التحسر يقول لها «كَمْ لَقِي عنْدَكِ آلُ المُصْطَفى» «كَمْ على تُرْبِكِ... غَسَلُوهُ بِدَمِ الطَّعْنِ، وَما كَفَّنُوهُ غيْرَ بَوْغاءِ الثَّرى».

ومن الأمثلة البديعة التي أتحفنا بها الشريف قوله واصفاً شجاعة البيت العلوي[71]:

عُصَبٌ يُقمطُ بالنجادِ وليدُها *** ومهودُ صبيتِها ظهورُ جيادِها

لقد نقل الشاعر لنا إحساسه الطاغي العميق بقوة وشجاعة البيت العلوي بصورة ملونة منفعلة تلمس الوجدان وتثير الخيال.

"إن الصورة عند الشريف قد مثلت تكافؤاً وتعادلاً بين المجاز والحقيقة بلغة انفعالية رمزية حين تبرز وتتجسد ظلالها لا تنسى الواقع الذي تمثله أو تسعى إلى تمثيله في الأقل"[72].

أما على صعيد الكناية، وهي عمل أكثر تعقيداً من التشبيه والاستعارة، فقد كان حاضراً في الطفيات، وجاء استخدام الشاعر له بشكل يدعو إلى الإعجاب والتأمل والتفكير. فتراه يقول في شجاعة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء متخذاً أسلوب الكناية طريفاً لذلك[73]:

 حَجَلَ الخيْلُ مِنْ دِماءِ الأعادي *** يَوْمَ يبْدو طَعْنٌ وتَخْفى حُجُولُ

فلم يقل الشريف إن الحسين عليه السلام قتل مقتلاً عظيماً من أعدائه وكانت دماؤهم تسيل من سيفه بغزارة كما هو معتاد في تصوير تلك المشاهد الحربية، ولكنه أشار إشارة لطيفة لذلك وهي أن الخيول احتجلت بدماء أعدائه أي بلغت ارتفاع الحجل من ساق الفتاة. ولم يكتف الشريف بهذه الكناية في صدر البيت فألحقها بأخرى في عجزه مستغلاً العلاقة اللغوية والموسيقية بين (حجل) و(حجولُ). فلا يخفى في عبارته (تخفى حجول) الكناية عن النساء اللواتي يتسترن في بيوتهن ولا يشتركن في الحرب والقتال. وقد اسقط الشارع الإسلامي واجب الجهاد عن المرأة كما هو معروف. كما أعطى التجنيس بين (حجل) و(حجول) بين بداية البيت ونهايته إيقاعاً موسيقياً مضافاً لتعزيز وربط الصورتين معاً وكأنما أصبحتا قطعة واحدة.

ومن الكنايات اللطيفة التي دبج بها طفياته قوله واصفاً حال السبايا من أهل بيت الحسين عليه السلام[74]:

وتَنقَّبْنَ بالأنـــامِلِ، والـدّمْــ *** ـعُ عــلى كلِّ ذي نِقابٍ دلــيلُ

فلم يقل الشريف أن حرم الحسين عليه السلام وأهل بيته الكرام قد سلبن وانتهكت من قبل الأعداء، فلم يجدن ما يستر وجوههن من أعين الأعداء إلا أناملهن يضعنها على وجوههنَّ يتسترنَ بها، وليكفكفن الأدمع المصبوبة على عزهن الذي ذهب وعلى حماتهن الذين ذبحوا وقطعت رؤوسهم وحملت معهن.

كما كنى عن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو الوحيد الذي سلم من واقعة الطف وسيق مع النساء أسيراً ذليلاً[75]:

ومَسُوقٍ عاثِرٍ يُسْعى بِهِ *** خَلْفَ مَحْمُولٍ على غَيْرِ وِطَا
مُتْعَبٌ يَشْكُو أذى السير على *** نَقبِ المَنْسمِ، مجْزُولِ المِطا

وهناك مجموعة من الكنايات منتشرة في الطفيات ومتزاوجة من الأساليب الأخرى وقد مثلت مجموعة من الانفعالات كالشجاعة، وقوة البأس، والفخر بالذات[76].

3ـ الإيقاع


أما على صعيد الإيقاع فقد استعمل الشاعر هذا المفصل لتعضيد المعنى فكان مكملاً له، ومعطياً بعداً مضافاً للصورة يجعلها أكبر تأثيراً في المتلقي وأكثر التصاقاً بذاكرته.

وأول ما يمكن الإشارة له هو أن الشريف عمل طفياته على الأبحر الشعرية المشهورة، فنجد (الطويل، والبسيط، والكامل، والخفيف، والرمل). والملاحظ على هذه البحور أنها كثيرة المقاطع مما يستدعي ذلك طول النفس في عملية الإنشاد بما يتلاءم وطبيعة الموضوع الشعري، وهذه من خصائص الوزن القديم عموماً[77]. كما عمل الشريف الرضي على اختيار قوافٍ ملائمة لأبحره فكانت عنده (الدال، والدال + الهاء المطلقة، والراء، واللام، والألف المقصورة) وكان الشاعر فيها موفقاً إلى حدٍّ بعيد في اختياره الأبحر والقافية لموضوعه.

أما من ناحية المطلع والذي قيل عنه بأنه "أول مايقرع السمع به ويستدل على ما عند الشاعر من أول وهلة"[78] فإن الشاعر قد حافظ على تصريعه لمطالع طفياته إلا في واحدة منها لم يصرع. وربما وجد في تصريعه لها عائقاً يمنعه من مجارات انفعاله والخوف من تبدده إذا ما شغل نفسه به.

وفي الغالب لا يأتي التصريع مع الانفعال السريع المتفجر وإنما مع الانفعال المستقر المتزن[79]. وإذا ما علمنا عدم استقرار الأوضاع التي عاشها الشريف أثناء كتابته هذه الطفية أدركنا سرَّ عدم تصريعه لها.

ويمكن الإشارة إلى اهتمام الشريف بالتصريع الداخلي أو ما يعرف (بتجديد المطلع)[80] في طفيته الشهيرة (كربلاء لا زلت كرباً وبلا) وقد عمل ذلك على شدِّ المستمع لما يطرحه، ويزيد من انتباهه مع تمدد القصيدة بشكل واضح. وهو والحالة هذه أشبه بمحطات استراحة ينطلق عقب كل محطة إلى مسافة شعورية انفعالية جديدة.

ويلجأ الشريف إلى نمط من التنسيق الجمالي لعناصر النص الشعري وذلك بالتكرار، كأن يلح "على جهة هامة من العبارة يعني بها أكثر من عنايته بسواها"[81] لينقل صدى انفعالاته العاطفية للمتلقي بشكل واضح، إذ يشترك المعنى والصوت في تشكيل الصورة.

فنراه يكرر الأدوات خاصة في بداية أبياته مما يعطي نغماً إيقاعياً مضافاً مع ما تبثه هذه الأدوات من أسئلة ونداءات تحمل عواطفَ وانفعالاتٍ صاخبة. وقد مرَّت بنا أمثلة منها نستغني بذكرها هنا. ويدخل ضمن ضروب التكرار التجنيس وهو اتفاق الحروف كلياً أو جزئياً في الألفاظ مما يفيد تقوية النغم وتناسقه في البيت ويعاضد المعنى الذي قصد إليه الشاعر بما يثير من تصورات موحية في مخيلة المتلقي[82] وقوة الجناس متأتية من "كونه يقرب مدلول اللفظ وصوته من جهة، وبين الوزن الموضوع فيه اللفظ من جهة أخرى"[83].

وقد اهتم الشريف اهتماماً بالغاً بهذا المفصل ولكنه لم يتصنعه تصنعاً أو تكلفاً وإنما جاء عنده طبيعياً خالياً من التكلف والتعقيد. وكان الجناس الاشتقاقي وهو تشابه جزئي في عدد حروف الألفاظ أكثر بروزاً في طفياته. وقد أعطى وروده في الأبيات تناغماً صوتياً لذيذاً لدى السمع ومن ذلك[84]:

تَكْسِفُ الشمسُ شُموساً منْهُمُ *** لا تُدانيها ضِياءً وَعُلى
وَتَنُوشُ الوَحْشُ مِنْ أجسادِهِمْ *** أرْجُلَ السَّبْقِ وَأَيمانَ النّدى

فأنت تلحظ أنَّ الشاعر جانس بين (الشمس وشموساً) و(تنوش) الفعل مع فاعله (الوحش) مما أعطى دفقة شعرية ومدّاً انفعالياً مضافاً للتركيب. مع جلب انتباه المتلقي له. وقوله[85]:

جَزَرُوا جَزْرَ الأضاحي نَسْلَهُ، *** ثمَّ ساقوا أهْلَهُ سَوْقَ الإما

فقد جانس بين (جزروا، جزر) و(ساقوا، سوق) مما أعطى توزيعاً صوتياً متبادلاً بين صدر البيت وعجزه استطاع به أن يؤكد الصورة الأليمة التي صورها لمصرع الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه ومن ثم سبي نسائه كالإماء. وقوله[86]:

شاكيِاً مِنْهُمْ إلى اللهِ، وهلْ *** يُفْلِحُ الجيلُ الذي منْهُ شكا

فأنت تلحظ أنه جانس بين (شاكياً) التي ابتدأ بها صدر البيت مع الكلمة الأخيرة من العجز (شكا) فأحكم بذلك حلقة الصورة التي بدأها وأعطى معنى مضافاً لها.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الأسلوب من الأساليب الإيقاعية المشهورة التي أشار إليها النقاد القدامى تحت مصطلح "رد الأعجاز على الصدور"([87]) ومن أمثاله عند الشريف الرضي[88]:

لئِنْ رقَدَ النُّصّارُ عما أصابَنا *** فما اللهُ عمَّا نِيلَ منَّا براقِدِ

وقوله[89]:

مِغْوارُ قَوْمٍ، يرُوعُ الموتُ مِنْ يَدِهِ *** أمْسى وأصْبَحَ نَهْباً للمَغاوِيرِ
وأبيضُ الوَجْهِ مَشْهورٌ تَغَطْرُفُهُ *** مَضى بِيَوْمٍ مِنَ الأيامِ مَشْهورِ

فقد جانس بين (مغوار ومغاوير) في البيت الأول، وفي البيت الثاني جانس جناساً تاماً بين مشهور التي عنى ما شاع عنه، والثاني (مشهور) أي بمعنى معروف بارز.

كذلك فعل في البيت الأخير من القصيدة نفسها[90]:

إنَّ السلوَّ لمَحظورٌ على كَبِدِي *** وما السلوُّ على قلبٍ بمَحْظُورِ

ومن الجناسات البديعة عنده قوله[91]:

يا حُساماً فلتْ مضارِبُه الهــا *** مَ وقد فــله الحسامُ الصــقيلُ
يا جَواداً أدْمى الجَوادَ مِنْ الطَّعْـ *** ـنِ وولى ونَحْرُهُ مبْلُولُ

فنلحظ في هذين البيتين تراكماً صورياً إيقاعياً يتجسد من خلال استعارة الشاعر كلمة(الحسام) المسبوقة بياء النداء لوصف الحسين عليه السلام بالشجاعة والقوة والإقدام، أما (حسام) الثانية جاءت بالمعنى المتعارف عليه، كما جانس بين (فلت، وفلة) و(الهام والحسام) المتوزعة على الشطرين.

أما على صعيد البيت الثاني فقد جانس بين (جواد) المسبوقة بياء النداء وقد استعارها لكرم الحسين عليه السلام وشرف منبته وأصالته، و(جواد) الثانية لمعناها المتعارف (الحِصان) الأصيل، كما جانس بين (أدمى) و(ولى) المتوزعة على الشطرين.

إن هذا التراكم الإيقاعي الصوي إن صح التعبير وليد الانفعال القوي الصادق مع إمكانية التعبير المتميزة عند الشاعر الذي نقل انفعاله وإحساسه ذلك إلى المتلقي وأثر فيه عميق الأثر.

وعمد الشريف الرضي إلى نوع آخر من الجناسات وهو المجانسة بين اللفظتين الأخيرتين من البيت الشعري، مما يعطي نغماً أقوى وأوقع في السمع والقلب، خاصة وأن نهاية البيت تعني قفل الصورة مع قفل الوزن، وفي الغالب ما يتآصران ويتحدان فيزيد ذلك من التأثير في المتلقي.

قال الشريف الرضي[92]:

أتراني أعِيْرُ وَجْهي صَوْناً *** وعلى وَجْهِهِ تَجُولُ الخُيُولُ

وقوله أيضاً من القصيدة نفسها[93]:

كلُّ بـاكٍ يُبْكى عـليهِ، وإنْ طـا *** لَ بَـقــاءٌ، والثـاكلُ المَثكـولُ

وقوله في طفية أخرى[94]:

من عُصْبَةٍ ضاعَتْ دماءُ محمَّدٍ *** وبَنِيهِ بَيْنَ يزيدِها وَزِيادِها

إنَّ هذه النماذج وغيرها تأكد إمكانية الشاعر في تطويع هذا المفصل بإحكام في بناء موسيقاها وتآصرها لتشكيل الصورة وأحداث الأثر المرجو في المتلقي.

ومن المفاصل الإيقاعية التي استعملها الشريف في طفياته هو التقطيع "وهو تجزئة الوزن الشعري إلى وحدات مكثّفة المعنى متساوية أو مختلفة الأطوال، متوازنة الصوت"[95] ومن شأن هذا التوازن أن "يضفي على الكلام ويحسنه"[96] خاصة إذا كانت هذه الوحدات على زنة واحدة وحرف واحد إذ يتحقق بها صورة التوازن بشكل كامل[97].

وقد غزا هذا المغزى القدماء والمحدثون من شعراء العرب قبل الشريف الرضي[98].

وإذا ما استقرأنا الطفيات وجدنا استعماله لهذا الأسلوب بشكل يدعو للالتفات. ومن هذه النماذج المستقرأة كانت وحداتها متنوعة على عدد التفعيلات بدون زيادة أو نقصان في الشطر الواحد. قال الشريف[99]:

أغنى طلُوعُ الشمْسِ عنْ أوْصافِها *** بجلالها وضِيائها وبَعَادها

فكلمات الشطر الثاني قد وزعها الشريف على تفعيلات الشطر الثلاث بحيث إن كل كلمة قابلت تفعيلة منها (متفاعلن) ونجد ذلك في قوله[100]:

بيْ نِزاعٌ يطغى إليْكَ وَشَوْقٌ *** وَغَرامٌ وزَمْزَةٌ وَعَوِيلُ

فتوزعت كلمات الشطر الثاني على تفاعيل بحر الخفيف والتي هي (فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن) مع دخول زحاف الخبن عليها.

ونجد أيضاً التقطيع الجزئي الذي كان ميل الشاعر له أقوى من سابقه لأن العمل الأول أصعب من الثاني خاصة وان تطويع المعنى «الصورة» للقالب الوزني مع توزيعها إلى وحدات متساوية يكلف الشاعر جهداً، وربما أبعده عن غايته المرادة في التعبير.

والتقطيع الجزئي بعد ذلك لا يلتزم بتوافق التقطيع مع التفعيلات العروضية للقالب الوزني فيكون أكثر راحة في التشكيل لدى الشاعر من ذلك قوله[101]:

وَوُجُوهاً كالمصابيحِ، فَمِنْ *** قَمَرٍ غابَ، ونَجْمٍ قَدْ هَوى

وقوله[102]:

القفرُ مِنْ أوْراقِها، والطيْرُ منْ *** طُرَّاقُها، والوحشُ مِنْ عُوَّادِها

وقوله[103]:

قبلتْهُ الرِّمــاحُ وانتَضَلَتْ فيـ *** ـهِ المــنايا وعانَقَتْهُ النُصـُولُ

وربما وازن الشاعر في تقطيعه بين بداية صدر البيت مع بداية عجزه وبذلك يطيل من الزمن المستغرق بين التقطيعين ويحدث ارتداداً صوتياً متناسقاً من ذلك قوله[104]:

وتَشاكَيْنَ، والشكاةُ بُكاءٌ *** وتَنادَيْنَ، والنِّداءُ عَويلُ

وقوله[105]:

والْبارِقاتُ تَلَوَّى في مَغامِدِها *** والسَّابِقاتُ تَمَطَّى في المَضاميرِ

ولربما انضمر التقطيع بزوال التسجيع وتباين أطوال الوحدات المقطعة مع تقاطعها عروضياً، ولكن الشاعر يستثمر ما لقوالب الأداء من تماثل فيعزز به التوزيعات الإيقاعية المتشكلة ضمن الوحدات المتكررة، وربما عضد العطف بالنفي أو النداء أو حروف أخرى فيزيد بذلك التقطيعات الموزونة في البحر الشعري، مع اختلاف تمدداتها المستغرقة في تراكيبها. من ذلك قوله[106]:

لا أرى حُزْنَكُمُ يُنْسى ولا *** رِزْءكم يُسْلى، وإنْ طال َ المَدى

وقوله[107]:

ربَّ ما حاموا، ولا آووا، ولا *** نصُروا أهْلي، ولا أغْنوا غنا

وقوله[108]:

يا رَسُولَ اللهِ يا فاطِمَةٌ *** يا أميرَ المُؤْمنينَ المُرْتَضى

وقوله[109]:
مِنْ رَميضٍ يُمْنَعُ الظلَّ ومِنْ *** عاطشٍ يسقى أنابيبُ القَنا

وقوله[110]:

مطرٌ ناعمٌ، وريحُ شمالٍ *** ونسيمٌ غضٌّ، وظِلٌّ ظليلُ

ويظهر من هذه النماذج والنماذج التي سبقتها قيمة التقطيع الصوتي، وتآصره مع التكرار بما يحمل من وحدات متوازنة على المستوى الدلالي والصوتي.

وقد بثَّ الشاعر خلالها أحاسيسه وانفعالاته بما يضفي على المعنى حدة النبرة المتأتية من قوة التوقيع الموسيقي لها. كما اتضحت إمكانية الشريف في مسك أدواته الموسيقية بما يمكنه من تشكيل الصورة وإعطائها بعداً مضافاً ودلالة مؤكدة تثبت في ذهن المتلقي وتثير فيه التأمل والتفكير.

نتائج الإجراء


ومن خلال المباحث الثلاثة يمكننا تسجيل مجموعة من النتائج وهي على النحو الآتي:

1 . لقد اتخذ الشاعر من الحسين عليه السلام نبراساً ومثالاً في حياته، ومثلت واقعة الطف التداعي النفسي الذي يلجأ إليه الشاعر في أوقاته العصيبة ليتزوَّد منها التحدي والقوة والصبر على المكاره والفداء في غربة لذيذة العذاب.

2 . مثَّلت الطفيات منعطفاً شعرياً مهماً لدى الشاعر، فجاءت متكاملة البناء والنسج.

3 . أظهر الشريف الرضي تفرداً في بنائه الشعري للطفيات فعلى الرغم من تمسكه بالمحاور البنائية للقصيدة العربية فإنه استطاع أن يضخَّ في نسجه روحاً جديدة تمثله هو.

4 . كانت وحدات البناء الهيكلي مترابطة بشكل كلِّي وهذا متأتٍ من وعيه بموضوع تجربته وصياغتها باللغة.

5 . استطاع الشريف أن يؤثر في متلقيه ويشحذ ذهنه بصورٍ ملونة وإيقاعات متناسقة كانت ثمرة لمخاض التجربة الشعورية الصادقة التي مرَّ بها.

6 . كان الموروث الشعري واضحا في طفياته عن طريق وجود مفاصل موضوعية وهيكلية، من ذلك المقدمة الطللية، وحوار العاذلة، وكذلك الدعاء بالسقيا لقبر المرثي.

7 . مثَّل الطلل للشريف الرضي في طفياته أرضا مقدسة وقف بها وأناخ، وتذكَّر ما جرى بها، وبكى على من سقطوا عليها، وتحسَّر على مجده المضاع فيها، فصاغ بذلك طللا جديدا هو أسمى وأعمق من طلل الجاهلي الذي وقف وبكى واستبكى وسأل الطلل ولم يجبه.

8 . كان التذكير بمصرع الحسين عليه السلام يوم عاشوراء طريقا يتخذه الشاعر للدخول في موضوعه، إذ كان ذلك بمثابة الشرارة التي توقض أو تشعل انفعالات الشاعر ومشاعره لتكون مدخلا أو نافذة للتنفيس عن ألمه وحزنه.

9 . يمكننا استشفاف معنى عام أوحت به البنيتان الخارجبة والموضوعية وهو ان أرض الطف وما حلَّ عليها كان أساس الانطلاقة الصحيحة للحياة الإنسانية النبيلة، والحياة الحقَّة الخالية من الظلم والجور، فضلا عن تمثلها الثورة الكبرى ضدَّ الطغاة والمستبدين والظالمين في كلِّ زمان ومكان.

10 . اما على صعيد البنية الداخلية فقد زاوج الشريف الرضي بين الألفاظ الغريبة والواضحة لإخراج صورة متناسبة مع الغرض وفي الوقت نفسه تلمح فيها الابتكار والجدة.

11 . ساعدت الأساليب التركيبة (النداء، الاستفهام، النفي، الشرط) والبيانية (التشبيه، الاستعارة، المجاز، الكناية) على تلوين النسيج الشعري بألوان كانت ثمرة لانفعالات الشاعر وتنوعها، فجاءت الصور متنوعة تبعاً لذلك.

12 . استثمر الشاعر مفصل الإيقاع بكل تنوعاته لتعضيد المعنى وتثبيته في ذهن المتلقين وساعد على إضفاء مسحة جمالية مضافة للنص الشعري.

13 . نلخِّص ما تقدم انَّ الشريف الرضي كان ممسكاً بأحكام أدواته الشعرية، إذ برع في استخدامه ألفاظه ومطابقتها للمعنى الذي يهدف إليه، مستغلاً الإمكانات التركيبية والتلوينية وكذلك الموسيقية لتحقيق ورسم الصورة المبتغاة. وأثر في متلقيه بصورة كبيرة واضحة.

ــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر الشريف الرضي بلاغياً: 24، وبناء القصيدة عند الشريف الرضي: 205،، د. عناد غزوان. ضمن كتاب: الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[2] الشريف الرضي: 263
[3] ينظر: لغة الشعر بين جيلين: 27، والقصائد الخالدات: 40.
[4] ديوان الشريف الرضي: 1/360 - 361
[5] م.ن: 1/364 - 365
[6] م.ن.
[7] م. ن: 1/ 487
[8] مختار الصحاح: مادة (ذود)
[9] ديوان الشريف الرضي: 2/ 189
[10] مختار الصحاح: مادة (خرق)
[11] د. إحسان عباس. الشريف الرضي: 258
[12] د. عناد غزوان، بناء القصيدة عند الشريف ارضي: 216. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[13] في الأدب العباسي: 428. والبيت في الديوان: 2/ 555
[14] ينظر: تذكرة الخواص: 317، 318.
[15] ديوان الشريف الرضي: 1/361، 362.
[16]م.ن: 2/188.
[17] م.ن: 1/ 46.
[18] م.ن: 1/47.
[19] م.ن: 2/190.
[20] ينظر هذه الأسماء في ديوان الشريف الرضي 1/47.
[21] م.ن: 1/45.
[22] م.ن.
[23] م.ن: 1/365.
[24] م.ن: 1/488.
[25] م.ن: 2/188.
[26] م.ن.
[27] م.ن.
[28] الاغتراب في حياة وشعر الشريف الرضي: 20
[29] ديوان الشريف الرضي: 1/ 489، تحفزه: تدفعه، الحنيَّة: القوس، نزع: جذب.
[30] م.ن: 1/ 364
[31] ديوان الشريف الرضي: 1/366، خموش: خدوش، عاقد: غليظ.
[32] م.ن: 1/362، علوج: مفردها عِلْج على وزن عِجْل، الواحد من كفار العجم، تنزو: تثب.
[33] ديوان الشريف الرضي: 1/ 44 - 45
[34] م. ن: 1/362
[35] م.ن: 2/188
[36] م. ن.
[37] م. ن: 1/366
[38] م. ن: 1/365
[39] م. ن: 1/361
[40] م. ن: 2/188
[41] م. ن: 1/46
[42] م. ن: 1/489
[43] م. ن: 1/ 47 - 48
[44] م. ن: 1/48
[45] م. ن: 1/45
[46] م. ن: 1/362
[47] م. ن: 1/365
[48] م. ن: 1/487
[49] م. ن: 1/489
[50] م. ن: 2/187
[51] م. ن: 1/47
[52] م. ن: 1/48
[53] م. ن: 1/46
[54] م. ن: 365
[55] م. ن:1/ 366
[56] م. ن: 1/ 488
[57] م. ن: 1/44
[58] م. ن: 2/189
[59] م. ن: 1/44
[60] م. ن: 1/361
[61] م. ن: 1/361
[62] م. ن: 1/363. طلاح: من الطلح بمعنى الطلع، العوج: الواحدة عوجاء الناقة السيئة الخلق، الهباب: النشاط والسرعة، الأعداد: الواحدة عد الماء الجاري لا ينقطع، شبَّه مواصلتها لسيرها السريع بالماء الجاري الذي لا ينقطع.
[63] م. ن: 1/488
[64] م. ن: 2/187
[65] م. ن: 1/45
[66] م. ن: 2/187
[67] ينظر: م. ن: 1/363، و1/ 489، و2/190
[68] م. ن: 2/187
[69] م. ن: 2/188
[70] م. ن: 488
[71] م. ن: 1/363
[72] بناء القصيدة عند الشريف الرضي: 214، د. عناد غزوان. ضمن كتاب الشريف الرضي دراسات في ذكراه الألفية.
[73] ديوان الشريف الرضي: 2/188
[74] م. ن: 2/189
[75] م. ن: 1/45
[76] ينظر:م. ن:1/46 البيت 11، 361 البيتين (4،8)، 362 البيت 14، 487 البيت 4 و2/188 البيت17.
[77] موسيقى الشعر: 212
[78] العمدة: 1/218
[79] ينظر: لغة شعر ديوان الهذليين: 170
[80] بناء القصيدة: 375.
[81] قضايا الشعر المعاصر: 240.
[82] ينظر: جرس الألفاظ: 284
[83] المرشد إلى فهم أشعار العرب: 2/234
[84] ديوان الشريف الرضي: 1/44
[85] م. ن: 1/45
[86] م.ن: 1/48
[87] كتاب الصناعتبن: 400 - 403
[88] ديوان الشريف الرضي: 1/366
[89] م. ن: 1/489
[90] م. ن.
[91] م. ن: 2/188
[92] م. ن: 2/188
[93] م. ن:187
[94] م. ن: 1/363
[95] لغة شعر ديوان الهذليين: 206
[96] الأسس الجمالية في النقد العربي: 226
[97] م. ن: 224
[98] ينظر: نقد الشعر: 46
[99] ديوان الشريف الرضي: 1/364
[100] م. ن: 2/189
[101] م. ن: 1/44
[102] م. ن: 1/363
[103] م. ن:2/188
[104] م. ن: 2/189
[105] م. ن: 1/489
[106] م. ن: 1/47
[107] م. ن: 48
[108] م. ن: 46
[109] م. ن: 1/44
[110] م. ن: 2/189

إرسال تعليق