بقلم: الدكتور عبد المحسن كاظم الياسري
الله! أي دم في كربلا سفكا؟! *** لم يجر في الأرض حتى أوقف الفلكا
كربلاء الأرض التي اختارها الله ليعمدها بدم الإمام الحسين وأصحابه، الأرض التي اختارها الله لتجري عليها أعظم مأساة عرفها تاريخ الإنسانية، الأرض التي اختارها ليكون عليها مصرع سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه. الأرض التي اختارها الله لتجري على ترابها أكبر معركة عرفها تاريخ الدنيا بين الحق والباطل. الأرض التي اختارها الله لتقطع عليها سيوف الظالمين جسد أبي عبد الله الحسين. الأرض التي اختارها الله لتضم رفات الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه. الأرض التي اختارها الله لتكون مقدسة على مر العصور والدهور إلى يوم الدين. الأرض التي اختارها الله لتكون خالدة على كل لسان وتكون قبلة للوافدين والزائرين من كل أقطار الدنيا. كربلاء الأرض التي انطلقت منها أعظم ثورة في تاريخ الدنيا لتنتهي بانتصار الحق على الباطل والدم على السيف. كربلاء الأرض التي انطلقت منها صرخة الإمام الحسين فاهتزت لها أركان السموات والأرض. «اما من مغيث يغيثنا، اما من ذاب يذب عن حرم رسول الله».
يصل الركب الحسيني إلى هذه الأرض، وهو يضم الحسين وأهل بيته وأنصاره وعياله، ويتوقف جواد الإمام في هذا المكان ويتوقف الركب ويسأل الإمام الحسين (عليه السلام) عن اسـم هذه الأرض، فيذكر له أصحابه عدداً من أسمائها، قيل اسمها شاطئ الفرات، وقيل الغاضرية، وقيل نينوى... والإمام يقول هل لها اسم غير هذا؟ فيقولون اسمها كربلاء، ويتنفس الإمام الصعداء، ويأخذ قبضة من ترابها وينظر إليه ويقول: إنا لله وإنّا إليه راجعون، ثم يأمر أصحابه بالنزول فيها وبناء خيامهم على أرضها ويقول: «لا ترحلوا منها، ها هنا والله مناخ ركابنا، ها هنا والله سفك دمائنا، ها هنا والله ذبح أطفالنا، ها هنا والله موضع قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ولا خلف لقوله»[1]. هذه إذن هي الأرض التي وعد الله ورسوله الإمام الحسين بها، وهذه الأرض هي التي شد الإمام رحاله إليها من الحجاز وقطع المسافات الطويلة إليها ليكون فيها مقامه الأخير، وهذه الأرض هي التي أشار إليها الإمام الحسين في أول خطاب قبل خروجه من مكة المكرمة. «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء». وهي الأرض التي أمر الحسين ركبه بالنزول فيها، لأن جده وعده بها وحين ننظر إلى تراكيب هذه القطعة التي قالها الإمام حين وطئت قدماه تراب كربلاء، نجد أن كل كلمة من كلماته تحمل في بنيتها شحنة من الحزن العميق، وكل تركيب من تراكيبه تتفجر منه تباريح الألم الممض الذي يترك أثراً واضحاً في نفوس السامعين، ويشعر المتلقي وهو يسمع تراكيب هذا الخطاب وبناء الجمل التي اعتمدت على التكرار ان طابع النعي والنهاية المأساوية هو الذي يسيطر على لغة هذا الخطاب وتوحي تعبيرات الخطاب بظلال من المعاني فيها دلالة على أن الإمام الحسين ينعى نفسه وأهل بيته وأنصاره، ويؤكد ما ورد في هذا الخطاب أن هذا المكان هو محل استشهادهم جميعاً، ويخال من يسمع هذه التراكيب الحزينة ان كل حجر ومدر وشجر يرددها مع الإمام (عليه السلام)، وأن صداها يتردد في أقطار السموات والأرض، ويحسب من يسمع صوت الإمام وهو يردد هذه التراكيب المتماثلة برهبة تبعث الخشوع والألم والحزن والتعاطف في قلوب السامعين الا قلوب القساة الجفاة من جيوش الامويين وأتباعهم، وقد ساعد على إضفاء هذا الطابع الحزين على الخطاب الكلمات التي اختارها الإمام ليؤلف منها تراكيبه وطريقة الصياغة التي استعملها في بناء هذه التراكيب، وطبيعة التكرار في كل مقطع من المقاطع التي يتألف منها، ومن ينظر في السياق العام للخطاب يجد ان كل تركيب من هذه التراكيب يبدأ بصوت الهاء الذي يتباعد مخرجه في أقصى الحلق وفيه صفة الهمس التي توحي بالهدوء وبعده صوت مد طويل هو الالف الذي يمنح كل تركيب مساحة واسعة من الامتداد تسمح بالحرية في مد الصوت إلى ابعد ما يمكن من المسافة، وينتهي التركيب بصوت النون الذي تسهم الشفتان في إنتاجه وفيه نوع من الغنة يتبعه صوت مد طويل هو الالف «رجالنا ـــ دمائنا ـــ أطفالنا...» وهذا النوع من التراكيب يولد عند سماعه نغماً حزيناً يشبه صوت النعي أو الانين عند مد الصوت، فيترك أثراً قوياً في نفوس السامعين وقد أسهمت صفة التكرار في كل تركيب في توليد هذا الأثر المحزن، لأن فيها ما يشبه الإيحاء باليأس والرضا بالقضاء، «ها هنا مناخ ركابنا... ها هنا سفك دمائنا... ها هنا سبي نسائنا...».
وفضلاً عما تقدم فإن ظاهرة التكرار في تراكيب الخطاب وإعادة مقطع محدد في كل تركيب يوحي بنوع من الإلحاح لتأكيد أمر محدد يريد الإمام التعبير عنه وهو أن هذه الأرض هي مثواه الأخير هو وأصحابه، وقد منح هذا التكرار الخطاب توكيداً و تثبيتاً في نفوس السامعين. لقد تكرر اسم الإشارة «ها هنا» في كل تركيب ليمثل القرار الثابت في النزول بهذا المكان، وتكرر القسم بلفظ الجلالة ليزيد الأمر قوة وثباتاً، ويوحي برهبة الموقف وعظمته، ولكي يتخذ سياق الخطاب دلالته على الثبات استعمل الإمام التراكيب الاسمية في بنية خطابه بدلاً من التراكيب الفعليـة، فقد ورد في الخطاب «مناخ، وسفك، وذبح، وقتل» بدلاً من «تناخ، وتسفك، وتهتك»[2].
هكذا بدأ الإمام في أول يوم وطئت فيه قدماه أرض كربلاء، لقد رسم الإمام في هذا الخطاب القصير، أصدق صورة ناطقة لما سيجري على هذه الأرض بعد حين، وكل تركيب من تراكيبه يجسد لنا مشهداً من مشاهد هذه الصورة الحزينة، وتكتمل هذه المشاهد لترسم لنا صورة حسية تمثل أعظم مأساة في تاريخ الانسانية. «ركاب تناخ، أجساد طاهرة تمزقها سيوف الظالمين، أطفال تذبح، حرمات تنتهك، نساء تسبى، دماء تعمد تراب الأرض، صدور تداس بحوافر الخيل، رؤوس تقطع، أجساد تكفنها الذاريات، أطفال تتيه في الفلوات، خيام تشتعل فيها النيران...». لوحة تؤلفها طائفة من المشاهد المؤلمة التي يتبع بعضها بعضاً وهي ترسم بعد اكتمال أبعادها صورة لأعظم مأساة عرفتها الإنسانية وانتهت باستشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره لينالوا الخلود الدائم وتنتصر دماؤهم على سيوف أعدائهم، وأزعم أن هذه الصورة التي رسمها الإمام في هذا الخطاب القصير لا يستطيع تجسيدها أي فنان على وجه الأرض، ولا يحيط بتصوير مشاهدها الأدباء والشعراء في هذه الدنيا.
ـــــــــــــــــــــ
[1] الاسرار الحسينية / 332.
[2] ورد هذا الخطاب في بعض الروايات بالصيغ الفعلية والأرجح ما ذكرناه.
[1] الاسرار الحسينية / 332.
[2] ورد هذا الخطاب في بعض الروايات بالصيغ الفعلية والأرجح ما ذكرناه.
إرسال تعليق