الوضوء وبعض من أسراره

بقلم: السيد عبد الله شبر

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «من توضأ فذكر اسم الله طهر جميع جسده، وكان الوضوء إلى الوضوء كفارة لما بينهما من الذنوب، ومن لم يسم لم يطهر جسده[1] إلا ما أصابه الماء»[2].

وكأن السر في ذلك أن التسمية تنبه القلب وتطهره عن الغفلة عن ذكر الله، وإذا طهر القلب الذي هو الرئيس طهرت جميع الأعضاء.

قال الشهيد الثاني[3] رحمه الله: أما الطهارة فليستحضر في قلبه أن تكليفه فيها بغسل الأطراف الظاهرة وتنظيفها لاطلاع الناس عليها، ولكون تلك الأعضاء مباشرة للأمور الدنيوية المنهمكة في الكدورات الدنية، فلأن يطهر مع ذلك قلبه الذي هو موضع نظر الحق تعالى، فإنه لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم[4]، ولأنه الرئيس الأعظم لهذه الجوارح والمستخدم لها في الأمور للبعدة عن جنابه تعالى وتقدس أولى وأحرى، بل هذا تنبيه واضح على ذلك وبيان شاف لما هنالك.

وليعلم من يطهر تلك الأعضاء عند الاشتغال بعبادة الله تعالى والإقبال عليه والالتفات عن الدنيا، فلذلك أمر بالتطهير من الدنيا عند الاشتغال والإقبال على الأخرى، فأمر في الوضوء بغسل الوجه لأن التوجه والإقبال بوجه القلب على الله به، وفيه أكثر الحواس الظاهرة التي هي أعظم الأسباب الباعثة على مطالب الدنيا، فأمر بغسله ليتوجه به وهو خال من تلك الأدناس، ويترقى بذلك الى تطهير ما هو الركن الأعظم في القياس.

ثم أمر بغسل اليدين لمباشرتهما أكثر أحوال الدنيا الدنية والمشتهيات الطبيعية.

ثم أمر بمسح الرأس لأن فيه القوة المفكرة التي يحصل بواسطتها القصد إلى تناول المرادات الطبيعية، وتنبعث الحواس حينئذ إلى الإقبال على الأمور الدنيوية المانع من الإقبال على الآخرة السنية.

ثم بمسح الرجلين لأن بهما يتوصل إلى مطالبه، ويتوصل إلى تحصيل مآربه على نحو ما ذكر في باقي الأعضاء، وحينئذ فيسوغ له الدخول في العبادة والإقبال عليها فائزاً بالسعادة ــ انتهى[5].

وفي مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام : «إذا أردت الطهارة والوضوء فتقدم إلى الماء تقدمك الى رحمة الله، فإن الله قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته، ودليلاً إلى بساط خدمته، وكما أن رحمته تطهر ذنوب العباد كذلك نجاسات الظاهر يطهرها الماء لا غيره»، قال الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنا مِنَ السَّماء مَاء طَهُورًا))[6] وقال عزّ وجل: ((وَجَعَلْنا مِنَ الْماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ))[7]، فكما أحيا به كل شيء من نعيم الدنيا كذلك بفضله ورحمته حياة القلوب بالطاعات.

وتفكر في صفاء الماء ورقته وطهوره وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء وفي كل شيء، واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، وآت بآدابها فرائضه وسننه، فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة، إذا استعملتها بالحرمة انفجرت لك عين فوائده عن قريب.

ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء، يؤدي كل شيء حقه ولا يتغير عن معناه معتبراً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «مثل المؤمن الخاص كمثل الماء»[8].

ولتكن صفوتك مع الله في جميع طاعاتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء وسماه طهوراً[9]، وطهر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء[10].

وفي علل[11] الفضل بن شاذان[12] عن الرضا عليه السلام : «إنما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه، مطيعاً له في ما أمره، نقياً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار»[13].

وإنما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين، لأن العبد إذا قام بين يدي الجبار فإنما ينكشف من جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوضوء، وذلك أنه بوجهه يسجد ويخضع وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتل[14] وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده وبرجليه يقوم ويقعد[15].

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] في المصدر: «لم يطهر من جسده».
[2] جامع الأخبار، الشعيري: 63، الفصل 29 في الوضوء.
[3] مرت ترجمته.
[4] أنظر: جامع الأخبار، الشعيري: 100، الفصل 56 في الإخلاص.
[5] رسائل الشهيد الثاني، زين الدين بن علي الشهيد الثاني: 113 ــ 114.
[6] سورة الفرقان/ 48.
[7] سورة الأنبياء/30.
[8] مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام : 128 ــ 129، الباب الستون في الطهارة.
[9] إشارة إلى قوله تعالى في سورة الفرقان/ الآية 48. ونصها: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنا مِنَ السَّماء ماء طَهُورًا))
[10] مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام : 128 ــ 129، الباب الستون في الطهارة.
[11] إن كتاب العلل الذي ينقل منه الشهيد الثاني، وعنه ينقل الفيض الكاشاني، ومنه يروي أحاديثه السيد شبر، وهو للعلامة الفضل بن شاذان النيشابوري المتوفي سنة 260 هـ، لا تتوفر له طبعة يتم الرجوع إليها لذا يتم مقابلة الحديث عمن نقله من نسخته، ومن نقل عنهم، منهم: محمد بن علي الصدوق في من لا يحضره الفقيه، وزين الدين بن علي الشهيد الثاني في رسائله، والفيض الكاشاني  في المحجة البيضاء، وغيرهم.
[12] الفضل بن شاذان النيسابوري: أبو محمد متكلم فقيه جليل القدر، كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني، وقيل عن الرضا عليه السلام  أيضا، وكان أحد أصحابنا الفقهاء العظام المتكلمين، حاله أعظم من أن يشار إليها. رجال ابن داود، ابن داود: 272/ الرقم1179.
[13] أنظر: علل الشرائع، الصدوق: 1/257، باب 182 علل الشرائع وأصول الإسلام/ ح9. وسائل الشيعة، الحر العاملي: 1/ 367، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 1 وجوبه للصلاة ونحوها/ ح9.
[14] التبتل: الانقطاع عن النساء وترك النكاح. النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 1/95.
[15] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 1/ 308 ، كتاب أسرار الطهارة.

إرسال تعليق