بقلم: الشيخ محمد جواد مغنية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد:
فان كلمتي هذه ليست مقدمة بمعناها الصحيح، ولا تقريظاً لهذه المجموعة، أو تعريفاً لها، أو ثناء على من جمعها، وأن أستوجب الشكر على ما بذل من جهد، وانما تبحث هذه الكلمة:-
أولاً:هل يقدس الشيعة شخص الحسين بالذات، أو أن اسم الحسين عندهم رمز لشيء عميق الدلالة، تماماً كما يرمز العاشق بالغزال الى محبوبته؟.
ثانياً:هل انعكس شيء من اشراقات الحسين عليه السلام) وروحه في نفوس الذين يهتفون باسمه ليل نهار- في هذا العصر- ويحتفلون بذكراه، وينصبون لها السرادقات ويقيمون لها الحفلات، وينفقون عليها الألوف؟.
ثالثاً:هل خطباء المنبر الحسيني يؤدون مهمتهم كما ينبغي؟.
الحسين رمز:قد يبدو للنظرة الأولى أن كلمة الحسين تعني عند الشيعة المعنى الظاهر منها، وأن دلالتها تقف عند ذات الحسين بن علي وشخصه، وأن الشيعة ينفعلون بهذه الشخصية الى حد الجنون.. ولكن سرعان ما تتحول هذه النظرة الى معنى أشمل وأكمل من الذات والشخصيات لدى الناقد البصير، ويؤمن إيمانا لا يشوبه ريب بأن كلمة الحسين تعني عند الشيعة مبدأ الفداء ونكران الذات، وان الحسين ما هو إلا مظهر ومثال لهذا المبدأ في أكمل معانيه..ودليل الأدلة على هذه الحقيقة هو أدب الشيعة أنفسهم... فلقد كان الأدب، وما زال الصورة الحية التي تنعكس عليها عقلية الأمة وعقيدتها، وعاداتها وبيئتها.
وإذا رجعنا إلى التراث الأدبي لشيعة أهل البيت وجدناه يعكس الاحتجاج الصارخ على الظلم والظالمين في كل زمان ومكان، والثورة العنيفة في شرق الأرض وغربها، وان أدباء الشيعة، وبخاصة شعرائهم يرمزون باسم الحسين إلى هذه الثورة، وذاك الاحتجاج، لأن الحسين أعلى مثال وأصدقه على ذلك، كما يرمزون إلى الفساد والطغيان بيزيد وبني حرب وزياد وأمية وآل أبي سفيان، لأنهم يمثلون الشر بشتى جهاته، والفساد بجميع خصائصه على النقيض من الحسين...واليك هذه الأبيات كشاهد ومثال:
فمن قصيدة لأديب شيعي:
ومن قصيدة لآخر:
ولثالث:
فهذه الأبيات والألوف من أمثالها تنظر الى الإنسان نظرة شاملة واعية، وتزخر بالثورة على كل من ينتهك حقاً من حقوق الناس، وترمز الى هذه الحقوق بكلمة الحسين، وتعبر بقلبه عن قلب الهداية، وبرأسه عن رأس الدين، وبقتله عن قتل رسول الله ودين الله...واستمع الى هذه الصرخة الغاضبة يطلقها الشيخ أحمد النحوي في وجوه حكام الجور الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولا:
فيزيد وزياد رمز لكل من يسعى في الأرض فساداً، وأوضح الدلالات كلها هذا البيت:
فانه ينطبق على كل من يتولى منصباً، وهو ليس له بأهل. وبهذا تجد تفسير الأبيات التي يستنهض بها الشعراء صاحب الأمر ليثأر من قاتلي الحسين عليه السلام)، ويفعل بهم مثل ما فعلوا، وهم يقصدون بالحسين عليه السلام) كل مظلوم ومحروم، وبقاتليه كل ظالم وفاسد، وبصاحب الأمر الدولة الكريمة العادلة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً واليها يرمز السيد الحلي بقوله:
هذا، إلى إن الحسين عليه السلام) قد مضى على استشهاده ألف وثلاثمائة سنة أو تزيد، ومن يومه إلى يومنا هذا، والأجيال من قوميات شتى ينظمون فيه الإشعار بالفصحى وغير الفصحى، وقد تغيرت الحياة ومرت بالعديد من الأطوار، وقضت على كثير من العادات ألا بذكرى الحسين عليه السلام)، والهتاف باسم الحسين نثراً وشعراً، فانه ينمو من عصر إلى عصر، تماماً كما تنمو الحياة، وسيستمر هذا النمو-والسين في يستمر للتأكيد لا للتقريب- قياساً للغائب على الشاهد...وما عرفت البشرية جمعاء عظيماً من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي عليه السلام)...ولو تصدى متتبع للمقارنة بين ما نظم فيه، وما نظم في عظماء الدنيا مجتمعين لتعادلت الكفتان، أو رجحت كفة الحسين، وما هذه المجموعة (الشعرية) إلا نقطة من بحر، وحبة من رمل، والسر الأول والأخير يكمن في المبدأ الذي مضى عليه الحسين، وأشار إليه بقوله، وهو في طريقه إلى ربه: (أمضي على دين النبي) إذن تعظيم الحسين تعظيم لدين النبي.
وقد يقال إن النظم في الحسين عليه السلام) مسألة طائفية، لا مسألة إسلام أو إنسانية؟.
ونقول في الجواب: إن تمجيد الثورة ضد الظلم والطغيان هو تمجيد للإنسانية نفسها، حتى ولو كان الدافع الطائفية أو الحزبية أو القومية، فان الثورة الفرنسية والجزائرية والفيتنامية ثورات قومية، ومع ذلك فهي إنسانية، ومصدر الإلهام لكثير من الثورات.
وبهذه المناسبة انقل هذا المقطع من كتابي الاثنا عشرية:
إن التطور لم يقف عند حدود المادة، بل تعداها إلى الأفكار واللغة، لأنها جميعاً متلازمة متشابكة لا ينفك بعضها عن بعض، وكلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين بن علي عليه السلام) ثم تطورت مع الزمن، وأصبحت عند شيعته وشيعة أبيه رمزاً للبطولة والجهاد من أجل تحرير الإنسانية من الظلم والاضطهاد، وعنواناً للفداء والتضحية بالرجال والنساء والأطفال لاحياء دين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا شيء أصدق للدلالة على هذه الحقيقة من قول الحسين: أمضي على دين النبي.
أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسماً لابن معاوية، وهي الآن عند الشيعة رمز الفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وعنوان للزندقة والإلحاد، فحيثما يكون الشر والفساد فثم اسم يزيد، وحيثما يكون الحق فثم اسم الحسين. فكربلاء اليوم عند الشيعة هي فلسطين المحتلة وسيناء والضفة الغربية من الأردن، والمرتفعات السورية، أما أطفال الحسين وسبايا الحسين والأطفال المشردون من ديارهم.. وشهداء كربلاء هم الذين قُتلوا دفاعاً عن الحق والوطن في 5 حزيران، وهذا ما عناه الشاعر بقوله:
أين روح الحسين؟
ونخلص من هذا إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن أية ثورة على الظلم والطغيان تقوم في شرق الأرض وغربها فهي ثورة حسينية من هذه الجهة، حتى ولو كان أصحابها لا يؤمنون بالله واليوم الآخر..فأن الظلم كريه وبغيض بحكم العقل والشرع، سواء أوقع على المؤمن أم الكافر، وان أي إنسان ضحى بنفسه في سبيل الخير والإنسانية فهو حسيني في عمله هذا، وان لم يسمع باسم الحسين، لأن الإنسانية ليست وقفا على دين من الأديان، أو قومية من القوميات.
وعلى هذا فالفيتناميون الذين يموتون من اجل التحرير والتقدم، وصد الغزاة الغاصبين يلتقون مع الحسين في مبدأه، وان لم يسمعوا باسمه، ومن لايهتم إلا بنفسه وذويه، ويساند أهل البغي والفساد حرصا على منفعته فهو على دين يزيد وابن زياد، وان لطم وبكى على الحسين إن الحسيني حقا من يؤثر الدين على نفسه وأهله، ويضحي بالجميع من أجله، تماماً كما فعل الحسين، أما من يكيف الدين والمذهب على أهوائه تماماً كما يقطع الثوب على مقدار طوله وعرضه، أما هذا فما هو من الحسين ودين الحسين من شيء.
وتقول: كيف؟ وهذه الحرقة واللوعة، وهذا الدمع والعويل على الحسين، هل هو رياء ونفاق؟.
وأقول: كلا، هو صدق واعتقاد، ولكن الشيطان يوهمه أن الدين هو مجرد البكاء على الحسين وزيارة الحسين عليه السلام).. وفيما عداه فالدين هو منفعته ومنفعة أولاده وذويه.. ودليل الأدلة على ذلك أنه حينما تصده هذه المنفعة مع مبدأ الحسين يؤثرها على الحسين وجد الحسين.. إن حب الذات يفصل الإنسان عن نفسه، ويبعده عن واقعه، وينتقل به إلى عالم لا وجود له إلا في مخيلته وعقيدته، ويوهمه أنه أتقى الأتقياء، وهو أفسق الفاسقين، وأنه أعقل العقلاء، وهو أسفه الجاهلين.
ومن يدري أني أصف نفسي بنفسي، من حيث لا أشعر.. وأقول.. أن هذا ليس بمحال، وأنه جائز على كل إنسان غير معصوم كائناً من كان ويكون.. ولكني أقسم جازماً إني أتهم نفسي وأحاكمها كثيراً، وأتقبل الحكم عليها من كل منصف خبير، فهل يتفضل السادة الكبار. بل والمراهقون منهم والصغار، هل يتفضلون بقبول الرجاء من هذا العبد الفقير الذي يتهم نفسه أن يتهموا أنفسهم، ويراجعوها، ويقفوا منها موقف الناقد البصير، تماماً كما يتهمون غيرهم، أو أن حضراتهم يصرون على أنهم فوق الشبهات، لأن الراد عليهم راد على الله؟..ومهما شككت، فإني على يقين بان من ينظر إلى نفسه بهذه العين فهو من الذين عناهم الله بقوله: قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
خطباء المنبر الحسيني:
كان المنبر فيما مضى الوسيلة الكبرى للدعاية والاعلام، ثم تطورت وسائل النشر إلى الكتب، ومنها إلى الصحف والمسرح والإذاعة، ثم التلفزيون والروايات والألواح الفنية، والبعثات التبشيرية، وأخطر الوسائل أولئك المأجورون الذين يقبضون في الظلام من أعداء الدين والوطن، ويمشون بين الناس كالشرفاء..وان لي مع هؤلاء لموقفاً أجمع وأوجع.
والشيعة لا يملكون من وسائل الأعلام إلا المنبر الحسيني وبعض المؤلفات، ولكن جماهير المنبر الحسيني لا يحلم بها كاتب ولا مؤلف، وهو سلاح له خطره ومضائه في محاربة الباطل وأهله، والزندقة والإلحاد، لأن الهدف الأول من هذا المنبر هو أن يبث في الناس روح الحسين، حتى إذا رأوا باطلاً قاوموه وحقاً ناصروه، ومن هنا كان العبء ثقيلاً على خطباء هذا المنبر الخطير إلا على الأكفاء منهم..
والحق أن بعضهم أدى المهمة على وجهها، واهتدى بهم الكثير من الشباب إلى سواء السبيل ولكن هؤلاء- وللأسف- قليلون جداً، والأكثرية الغالبة مرتزقة متطفلون، أو ممثلون لا يهتمون بشيء إلا بعاطفة المستمع وميوله، تماماً كالمهرج، يقف على خشبة المسرح ليؤنس المتفرجين ويضحكهم، ويجهلون أو يتجاهلون أن مهمة المرشد الواعظ كمهمة الطبيب الجراح يستأصل بمبضعه الداء من جذوره، ولا يكترث باحتجاج المريض وصراخه.
والحديث عن قراء التعزية وخطباء المنبر الحسيني متشعب الأطراف، وبخاصة عن الذين لا يشعرون بالمسؤولية، ولا يقدرون لهذا المنبر هيبته وقداسته، وما رأيت أحد تناول هذا الأمر بالدرس والبحث، وعالجه معالجة موضوعية، مع أنه جدير بالاهتمام لتأثيره البالغ في حياتنا وعقيدتنا.
ولو وجدت متسعة من الوقت لتصديت، ووضعت النقط على الحروف، مع مخطط شامل يفي بالغرض المطلوب..وأكتفي الآن بهذه النصيحة، وهي أن يجعل الخطيب نصب عينيه قول سيد البلغاء، وإمام الخطباء عليه السلام: (لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين.
هذا هو مقياس البلاغة الذي يحفظ للكلمة شرفها.. وهو واضح وبسيط، كلام يتفق مع القلوب والآذان، ولا شيء وراء ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد:
فان كلمتي هذه ليست مقدمة بمعناها الصحيح، ولا تقريظاً لهذه المجموعة، أو تعريفاً لها، أو ثناء على من جمعها، وأن أستوجب الشكر على ما بذل من جهد، وانما تبحث هذه الكلمة:-
أولاً:هل يقدس الشيعة شخص الحسين بالذات، أو أن اسم الحسين عندهم رمز لشيء عميق الدلالة، تماماً كما يرمز العاشق بالغزال الى محبوبته؟.
ثانياً:هل انعكس شيء من اشراقات الحسين عليه السلام) وروحه في نفوس الذين يهتفون باسمه ليل نهار- في هذا العصر- ويحتفلون بذكراه، وينصبون لها السرادقات ويقيمون لها الحفلات، وينفقون عليها الألوف؟.
ثالثاً:هل خطباء المنبر الحسيني يؤدون مهمتهم كما ينبغي؟.
الحسين رمز:قد يبدو للنظرة الأولى أن كلمة الحسين تعني عند الشيعة المعنى الظاهر منها، وأن دلالتها تقف عند ذات الحسين بن علي وشخصه، وأن الشيعة ينفعلون بهذه الشخصية الى حد الجنون.. ولكن سرعان ما تتحول هذه النظرة الى معنى أشمل وأكمل من الذات والشخصيات لدى الناقد البصير، ويؤمن إيمانا لا يشوبه ريب بأن كلمة الحسين تعني عند الشيعة مبدأ الفداء ونكران الذات، وان الحسين ما هو إلا مظهر ومثال لهذا المبدأ في أكمل معانيه..ودليل الأدلة على هذه الحقيقة هو أدب الشيعة أنفسهم... فلقد كان الأدب، وما زال الصورة الحية التي تنعكس عليها عقلية الأمة وعقيدتها، وعاداتها وبيئتها.
وإذا رجعنا إلى التراث الأدبي لشيعة أهل البيت وجدناه يعكس الاحتجاج الصارخ على الظلم والظالمين في كل زمان ومكان، والثورة العنيفة في شرق الأرض وغربها، وان أدباء الشيعة، وبخاصة شعرائهم يرمزون باسم الحسين إلى هذه الثورة، وذاك الاحتجاج، لأن الحسين أعلى مثال وأصدقه على ذلك، كما يرمزون إلى الفساد والطغيان بيزيد وبني حرب وزياد وأمية وآل أبي سفيان، لأنهم يمثلون الشر بشتى جهاته، والفساد بجميع خصائصه على النقيض من الحسين...واليك هذه الأبيات كشاهد ومثال:
فمن قصيدة لأديب شيعي:
سهم رمى أحشاك يابن المصطفى **** سهم به قلب الهداية قد رمى
ومن قصيدة لآخر:
بنفسي رأس الدين ترفع رأسه **** رفيع العوالي السمهرية ميدُ
ولثالث:
اليوم قد قتلوا النبي وغادروا إلا **** سلام يبكي ثاكلاً مفجوعا
فهذه الأبيات والألوف من أمثالها تنظر الى الإنسان نظرة شاملة واعية، وتزخر بالثورة على كل من ينتهك حقاً من حقوق الناس، وترمز الى هذه الحقوق بكلمة الحسين، وتعبر بقلبه عن قلب الهداية، وبرأسه عن رأس الدين، وبقتله عن قتل رسول الله ودين الله...واستمع الى هذه الصرخة الغاضبة يطلقها الشيخ أحمد النحوي في وجوه حكام الجور الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولا:
عجباً لمال الله أصبح مكسباً **** في رائح للظالمين وغـادِ
عجباً لآل الله صاروا مغنماً **** لبني يزيد هدية وزيـادِ
فيزيد وزياد رمز لكل من يسعى في الأرض فساداً، وأوضح الدلالات كلها هذا البيت:
ويقدم الأموي وهو مؤخر **** ويؤخر العلوي وهو مقدم
فانه ينطبق على كل من يتولى منصباً، وهو ليس له بأهل. وبهذا تجد تفسير الأبيات التي يستنهض بها الشعراء صاحب الأمر ليثأر من قاتلي الحسين عليه السلام)، ويفعل بهم مثل ما فعلوا، وهم يقصدون بالحسين عليه السلام) كل مظلوم ومحروم، وبقاتليه كل ظالم وفاسد، وبصاحب الأمر الدولة الكريمة العادلة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً واليها يرمز السيد الحلي بقوله:
لا تطهر الأرض من رجس العدا أبداً **** ما لم يسل فوقها سيل الدم العرم
هذا، إلى إن الحسين عليه السلام) قد مضى على استشهاده ألف وثلاثمائة سنة أو تزيد، ومن يومه إلى يومنا هذا، والأجيال من قوميات شتى ينظمون فيه الإشعار بالفصحى وغير الفصحى، وقد تغيرت الحياة ومرت بالعديد من الأطوار، وقضت على كثير من العادات ألا بذكرى الحسين عليه السلام)، والهتاف باسم الحسين نثراً وشعراً، فانه ينمو من عصر إلى عصر، تماماً كما تنمو الحياة، وسيستمر هذا النمو-والسين في يستمر للتأكيد لا للتقريب- قياساً للغائب على الشاهد...وما عرفت البشرية جمعاء عظيماً من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي عليه السلام)...ولو تصدى متتبع للمقارنة بين ما نظم فيه، وما نظم في عظماء الدنيا مجتمعين لتعادلت الكفتان، أو رجحت كفة الحسين، وما هذه المجموعة (الشعرية) إلا نقطة من بحر، وحبة من رمل، والسر الأول والأخير يكمن في المبدأ الذي مضى عليه الحسين، وأشار إليه بقوله، وهو في طريقه إلى ربه: (أمضي على دين النبي) إذن تعظيم الحسين تعظيم لدين النبي.
وقد يقال إن النظم في الحسين عليه السلام) مسألة طائفية، لا مسألة إسلام أو إنسانية؟.
ونقول في الجواب: إن تمجيد الثورة ضد الظلم والطغيان هو تمجيد للإنسانية نفسها، حتى ولو كان الدافع الطائفية أو الحزبية أو القومية، فان الثورة الفرنسية والجزائرية والفيتنامية ثورات قومية، ومع ذلك فهي إنسانية، ومصدر الإلهام لكثير من الثورات.
وبهذه المناسبة انقل هذا المقطع من كتابي الاثنا عشرية:
إن التطور لم يقف عند حدود المادة، بل تعداها إلى الأفكار واللغة، لأنها جميعاً متلازمة متشابكة لا ينفك بعضها عن بعض، وكلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين بن علي عليه السلام) ثم تطورت مع الزمن، وأصبحت عند شيعته وشيعة أبيه رمزاً للبطولة والجهاد من أجل تحرير الإنسانية من الظلم والاضطهاد، وعنواناً للفداء والتضحية بالرجال والنساء والأطفال لاحياء دين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا شيء أصدق للدلالة على هذه الحقيقة من قول الحسين: أمضي على دين النبي.
أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسماً لابن معاوية، وهي الآن عند الشيعة رمز الفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وعنوان للزندقة والإلحاد، فحيثما يكون الشر والفساد فثم اسم يزيد، وحيثما يكون الحق فثم اسم الحسين. فكربلاء اليوم عند الشيعة هي فلسطين المحتلة وسيناء والضفة الغربية من الأردن، والمرتفعات السورية، أما أطفال الحسين وسبايا الحسين والأطفال المشردون من ديارهم.. وشهداء كربلاء هم الذين قُتلوا دفاعاً عن الحق والوطن في 5 حزيران، وهذا ما عناه الشاعر بقوله:
كأن كل مكان كربلاء لدى **** عيني وكل زمان يوم عاشوراء
أين روح الحسين؟
ونخلص من هذا إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن أية ثورة على الظلم والطغيان تقوم في شرق الأرض وغربها فهي ثورة حسينية من هذه الجهة، حتى ولو كان أصحابها لا يؤمنون بالله واليوم الآخر..فأن الظلم كريه وبغيض بحكم العقل والشرع، سواء أوقع على المؤمن أم الكافر، وان أي إنسان ضحى بنفسه في سبيل الخير والإنسانية فهو حسيني في عمله هذا، وان لم يسمع باسم الحسين، لأن الإنسانية ليست وقفا على دين من الأديان، أو قومية من القوميات.
وعلى هذا فالفيتناميون الذين يموتون من اجل التحرير والتقدم، وصد الغزاة الغاصبين يلتقون مع الحسين في مبدأه، وان لم يسمعوا باسمه، ومن لايهتم إلا بنفسه وذويه، ويساند أهل البغي والفساد حرصا على منفعته فهو على دين يزيد وابن زياد، وان لطم وبكى على الحسين إن الحسيني حقا من يؤثر الدين على نفسه وأهله، ويضحي بالجميع من أجله، تماماً كما فعل الحسين، أما من يكيف الدين والمذهب على أهوائه تماماً كما يقطع الثوب على مقدار طوله وعرضه، أما هذا فما هو من الحسين ودين الحسين من شيء.
وتقول: كيف؟ وهذه الحرقة واللوعة، وهذا الدمع والعويل على الحسين، هل هو رياء ونفاق؟.
وأقول: كلا، هو صدق واعتقاد، ولكن الشيطان يوهمه أن الدين هو مجرد البكاء على الحسين وزيارة الحسين عليه السلام).. وفيما عداه فالدين هو منفعته ومنفعة أولاده وذويه.. ودليل الأدلة على ذلك أنه حينما تصده هذه المنفعة مع مبدأ الحسين يؤثرها على الحسين وجد الحسين.. إن حب الذات يفصل الإنسان عن نفسه، ويبعده عن واقعه، وينتقل به إلى عالم لا وجود له إلا في مخيلته وعقيدته، ويوهمه أنه أتقى الأتقياء، وهو أفسق الفاسقين، وأنه أعقل العقلاء، وهو أسفه الجاهلين.
ومن يدري أني أصف نفسي بنفسي، من حيث لا أشعر.. وأقول.. أن هذا ليس بمحال، وأنه جائز على كل إنسان غير معصوم كائناً من كان ويكون.. ولكني أقسم جازماً إني أتهم نفسي وأحاكمها كثيراً، وأتقبل الحكم عليها من كل منصف خبير، فهل يتفضل السادة الكبار. بل والمراهقون منهم والصغار، هل يتفضلون بقبول الرجاء من هذا العبد الفقير الذي يتهم نفسه أن يتهموا أنفسهم، ويراجعوها، ويقفوا منها موقف الناقد البصير، تماماً كما يتهمون غيرهم، أو أن حضراتهم يصرون على أنهم فوق الشبهات، لأن الراد عليهم راد على الله؟..ومهما شككت، فإني على يقين بان من ينظر إلى نفسه بهذه العين فهو من الذين عناهم الله بقوله: قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
خطباء المنبر الحسيني:
كان المنبر فيما مضى الوسيلة الكبرى للدعاية والاعلام، ثم تطورت وسائل النشر إلى الكتب، ومنها إلى الصحف والمسرح والإذاعة، ثم التلفزيون والروايات والألواح الفنية، والبعثات التبشيرية، وأخطر الوسائل أولئك المأجورون الذين يقبضون في الظلام من أعداء الدين والوطن، ويمشون بين الناس كالشرفاء..وان لي مع هؤلاء لموقفاً أجمع وأوجع.
والشيعة لا يملكون من وسائل الأعلام إلا المنبر الحسيني وبعض المؤلفات، ولكن جماهير المنبر الحسيني لا يحلم بها كاتب ولا مؤلف، وهو سلاح له خطره ومضائه في محاربة الباطل وأهله، والزندقة والإلحاد، لأن الهدف الأول من هذا المنبر هو أن يبث في الناس روح الحسين، حتى إذا رأوا باطلاً قاوموه وحقاً ناصروه، ومن هنا كان العبء ثقيلاً على خطباء هذا المنبر الخطير إلا على الأكفاء منهم..
والحق أن بعضهم أدى المهمة على وجهها، واهتدى بهم الكثير من الشباب إلى سواء السبيل ولكن هؤلاء- وللأسف- قليلون جداً، والأكثرية الغالبة مرتزقة متطفلون، أو ممثلون لا يهتمون بشيء إلا بعاطفة المستمع وميوله، تماماً كالمهرج، يقف على خشبة المسرح ليؤنس المتفرجين ويضحكهم، ويجهلون أو يتجاهلون أن مهمة المرشد الواعظ كمهمة الطبيب الجراح يستأصل بمبضعه الداء من جذوره، ولا يكترث باحتجاج المريض وصراخه.
والحديث عن قراء التعزية وخطباء المنبر الحسيني متشعب الأطراف، وبخاصة عن الذين لا يشعرون بالمسؤولية، ولا يقدرون لهذا المنبر هيبته وقداسته، وما رأيت أحد تناول هذا الأمر بالدرس والبحث، وعالجه معالجة موضوعية، مع أنه جدير بالاهتمام لتأثيره البالغ في حياتنا وعقيدتنا.
ولو وجدت متسعة من الوقت لتصديت، ووضعت النقط على الحروف، مع مخطط شامل يفي بالغرض المطلوب..وأكتفي الآن بهذه النصيحة، وهي أن يجعل الخطيب نصب عينيه قول سيد البلغاء، وإمام الخطباء عليه السلام: (لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين.
هذا هو مقياس البلاغة الذي يحفظ للكلمة شرفها.. وهو واضح وبسيط، كلام يتفق مع القلوب والآذان، ولا شيء وراء ذلك.
إرسال تعليق