بقلم: السيد نبيل الحسني
إنّ خير دال على التلازم بين الكعبة (أعزها الله تعالى) وعلي بن أبي طالب عليه السلام هو ما كشفه مقيم البيت وبانيه، أي: إبراهيم الخليل عليه السلام، قال تعالى عن لسان عبده إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}[1].
هنا: يُظهر إبراهيم عليه السلام العلاقة بين البيت الحرام وذريته، ويدل في الوقت نفسه على العلة التي أوجبت تكوين هذه العلاقة، والغاية من الحضور، ألا وهي: الصلاة، وإقامة الصلاة مرهونة بذرية إبراهيم؛ بمعنى بناء الصلاة وتقويمها هو من اختصاص ذرية إبراهيم عليه السلام فكان البناء من مرحلتين:
المرحلة الأولى
بناء بيت الله الحرام كي يتوجه المصلون إليه في صلاتهم. والذي بعدم تحققه أي التوجه للقبلة، تبطل الصلاة بإجماع فقهاء المسلمين. فكان إبراهيم وولده إسماعيل هما من أقاما القواعد والبناء في المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية
كانت الإقامة للصلاة بعد أن بُني البيت الحرام، وهذا مرهون بذرية إبراهيم، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}. لذا كانت الكعبة محل التوجه للصلاة وكان علي بن أبي طالب عليه السلام إمام الإقامة. ولكن لماذا علي دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
لأن علياً هو الفيصل الذي تتكشف به حقائق الأعمال فأما كفر ونفاق، وأما إيمان وتقوى أي به تتحدد الصلاة فأما تكون مقبولة وأما مردودة بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»، والمنافق لا تزيده صلاته إلا بعداً عن الله تعالى، بمعنى آخر: لا تقام الصلاة من دون البيت الحرام ولا تقام أيضاً من دون ذرية إبراهيم عليهم السلام وهم الإمام علي والأئمة من ولده عليهم السلام.
التشابه بين الإمام والبيت الحرام في العلاقة مع الناس
فالإمام لا يأتي إلى الناس وإنما الناس هم الذين يأتون إليه، حاله في ذلك حال الكعبة، فالناس هم الذين يأتون إلى الكعبة وليس العكس، وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف، فعن علي عليه السلام وهو يحاجج أبا بكر في حقه المغصوب، وقد قال له أبو بكر: «... وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك ويزيدك تنويماً إلى تنويمك، فقال عليه السلام: لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش، وأما ابن الوليد الخاسر، فإني أقص عليك نبأه، انه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع مني في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عندما خطر بباله، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله.
فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟! فقال علي عليه السلام: يا أبا بكر! وعلى مثلي يتفقه الجاهلون؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا علي! ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة، فاصبر، أنت كبيت الله: من دخله كان آمنا ومن رغب عنه كان كافراً، قال الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، واني وأنت سواء إلا النبوة، فإني خاتم النبيين وأنت خاتم الوصيين[2].
تحقق الأمان في الالتجاء للبيت الحرام والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
فمثلما يتحقق الأمان في البيت الحرام حينما يلتجئ إليه الإنسان، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا}، كذلك حال من يلتجئ إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه يحصل على الأمان من الهلاك والضلال والوقوع في الفتن والفوز في الآخرة؛ لأنه استمسك بالعروة الوثقى، وأخذ بالصراط المستقيم وكان في زمرة الصالحين كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وغيرهما وهو ما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «أنت كبيت الله، من دخله كان آمنا، ومن رغب عنه كان كافراً»[3]. فهذا حال البيت الحرام وحال علي عليه السلام.
التلازم فيما بين الإمامة والإقامة
إنّ نكران البعض لإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام لا يضر في إمامة علي عليه السلام شيئاً حاله حال من أنكر الكعبة والإقامة نحوها في الصلاة فان ذلك لا يضر الكعبة شيئاً كما لا يفقدها خصوصيتها فضلاً عن حال صلاة المنكر لها، فهل تكون هذه الصلاة مقبولة بغير التوجه للكعبة؟ وهل تقام صلاة الجماعة من دون إمام؟!
فكذا من أنكر إمامة علي عليه السلام أو أحد أبنائه الأئمة الاثني عشر فان المنكر للإمامة لا يضرها شيئاً كما لا يضر المنكر للبيت الحرام شيئاً بل إنّه سيموت ميتة جاهلية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»[4]. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية»[5]. ولقول الأئمة كما روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»[6].
الاعتبار من حياة علي بن أبي طالب عليه السلام
فهذه الحياة اختار الله لها أن تبدأ في أول ثانية منها في بيت الله الحرام وأن تنتهي آخر ثانية منها في بيت الله أيضاً وما بينهما كله لله تعالى. فمثل هذه الحياة لخير واعض لبني آدم فكيف بأهل هذه الملة.
التلازم بين الآذان ودوران الأرض والإمامة
إن من عجائب لطف الله تعالى وجليل حكمته أن جعل الكعبة (أعزها الله تعالى) فوق نواة دوران الأرض بمحورها الشاقولي لتكون مركزاً لدوران الأرض ومن ثم مركزاً لحركة الشمس حينما تتوالى أشعة الشمس في سقوطها على الأرض لتنظَّم بذلك حركة مواقيت الصلاة وليعلو الأذان على سطح الأرض فتخرق كلمات المؤذن حجب السماء.
فما بين كل خط عرض وعرض تستغرق حركة الأرض خمس دقائق مما يعطي حركة تلازمية بين صوت الآذان وأداء الفريضة وحركة دوران الشمس حول نفسها ليتعاقب عندها الليل والنهار ولتشهد الأرض في هذا الدوران تتابعاً في أداء الصلاة وذلك بحسب حركة الأرض.
وحينما نعود لقول إبراهيم عليه السلام في بنائه للبيت وبيان الحكمة في إنزال من ذريته وهو: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}[7]، ندرك أن الإقامة لا يمكن أن تتحقق من دون الإمام.
ولكن ليس كل إمام، وإنما الإمام الذي ارتضاه الله تعالى واصطفاه لنفسه وللصلاة في عباده، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[8]، لذا: كان إبراهيم يسأل الله من فضله بأن يجعله إماماً، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[9].
فليس كل ذرية إبراهيم اصطفاها الله تعالى للإمامة ولإقامة الصلاة، ولذلك: لم يكن دخول فاطمة بنت أسد للكعبة التي هي محل توجه المصلي لربه في صلاته عبثاً؛ وإنما ساقها رب البيت لتضع فيها إمام الصلاة ومقيمها، ولذلك لا يغفل قلب المعصوم عن ذكر ربه، وبه يثبت الدوران وبه وبالبيت الحرام يتلازم التوجه لرب البيت في كل صلاة ودعوة أذان فهو نواة الشريعة.
ولعل متوهم يقول: فأين النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الشريعة؛ ولولا الشريعة لما عرفت النواة، ولم يكن للنواة حاجة؛ ولولا النواة لما دامت الشريعة حالها في ذلك حال جميع دقائق النظام الإلهي الذي جعله في الكون ابتداءً من الخلية وانتهاءً بالمجرات الكونية.
ــــــــــــــ
[1] سورة إبراهيم، الآية: 37.
[2] البحار للمجلسي: ج29، ص170 ــ 171.
[3] المصدر نفسه.
[4] مسند أحمد بن حنبل: ج4، ص96. مسند أبي داود: ص259.
[5] كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم: ص489. مسند أبي يعلى الموصلي: ج13، ص366. المعجم الأوسط للطبراني: ج6، ص70.
[6] كفاية الأثر للخزاز القمي: ص296.
[7] سورة إبراهيم، الآية: 37.
[8] سورة الأنبياء، الآية: 73.
[9] سورة البقرة، الآية: 124.
إرسال تعليق