بقلم السيد نبيل الحسني
من المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم والمتعلقة بنظرته للتاريخ هو مفهوم العالمية، وهذا يعني أن القرآن لم يجعل العرب كأمة محصورة ضمن حدودها الجغرافية، والتي تكوّن لها ماضيها المحصور في قصص الأيام وبيوتها القبلية، بل نقلهم إلى حضارات متعددة وأطلعهم على ثقافات متنوعة.
ثم إنه لم يكتف بذلك بل أراد منهم أن يتصدوا لريادة المناصب المتقدمة في صياغة حضارات الأمم السابقة وتطويرها ودفعها، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بموقع الشهودية والوسيطة التي رجع إليها في التزود بعوامل الرقي والتقدم الإنساني والمجتمعاتي.
أ . قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[1].
هذه العالمية للتاريخ التي جاء بها القرآن انعكست على نمط كثير من المسلمين وسلوكياتهم في اكتسابهم للعلوم وحركتهم العالمية فيما بعد. لكن الحافز والدافع لريادة هذا الموقع العالمي كان من خلال نظرة القرآن لعالمية التاريخ وربط أمة الإسلام بجميع الحضارات السابقة.
وقد تمثلت هذه النظرة القرآنية إلى عالمية التاريخ من خلال توالي النبوّات من آدم عليه السلام إلى الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعرضه لسير هذه النبوّات من خلال منهجين أساسين ومؤثرين على النفس الإنسانية وهما؛ القصص والأمثال.
فأما القصص؛ (فإن العروض القرآنية للتاريخ وهي تحدثنا عن مواقف الأفراد والجماعات إزاء عدد من الأحداث والقيم التاريخية والتي قد يمتد بعضها إلى خلق آدم.
ويصل بعضها الآخر إلى عدد من التجارب التي مارسها أفراد عاديون سلبا أو إيجابا، أو نفذها قادة وملوك وزعماء كبار يتضح ذلك بالوقائع الخاصة بفرعون وقارون وذي القرنين وأصحاب الفيل مرورا بسلسلة الأنبياء الطويلة التي بعثت ــ كل ذلك ــ لكي تجدد الحوار الموعود، منذ عهد آدم بين السماء والأرض، وتسعى بأقوامها إلى صياغة حركة التاريخ بما ينسجم ومركز الإنسان في الكون.
إن القرآن يبين لنا في حشد آخر من الآيات الهدف من إيراد القصص، والعروض التاريخية، وهو الهدف نفسه الذي يمكن أن يتمخض عن أي مطالعة جدّية ملتزمة لحركة التاريخ)[2].
ب . وعلى الرغم من أن الغرض ــ من القصص ــ (هو الموعظة والاعتبار {أَفَلَمْ يَرَوْا} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} إلا أن الرغبة في معرفة تفاصيل ما أجمله القرآن الكريم من ذلك القصص فتحت بابا من أبواب المعرفة الدينية دخل منه التاريخ، ودخل كرديف ديني شرعي لعمليات التفسير القرآني، وإذا كان الكثير من الإسرائيليات قد دخلت عن هذا الطريق إلى التاريخ الإسلامي، كما دخله الكثير من الأخبار القبلية والأجنبية، فأهم من ذلك أن القرآن الكريم منح بذلك نظرة جديدة إلى الماضي، كرّسته كأساس فكري للعقيدة)[3].
(إن قصص الأنبياء عليهم السلام من أهم العوامل النفسية التي لجأ إليها القرآن، في الجدال مع مخالفيه، والتبشير برضوان الله، والتحذير من معصيته، وفي شرح مبادئ الدعوة الإسلامية وأهدافها، وفي تثبيت قلب من اتبع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أن الغاية من قصص الأنبياء عليهم السلام أن الدين كله من عند الله من عهد نوح إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن المؤمنين برسل الله كلهم أمة واحدة والله الواحد رب الجميع)[4].
بمعنى: إنّ القرآن نقل التاريخ من محله المحصور ضمن رقعة جغرافية محدودة إلى حضارات نشأت على مواقع متعددة وفي أزمنة مختلفة، بل كانت هذه النظرة القرآنية أوسع وأعمق من ذلك حينما نقل الإنسان خارج حدود الزمان والمكان فربطه بالكون وعواقب الأفعال وتحكم السنن. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[5].
وهو ما دلت عليه الكثير من الآيات القرآنية. قال تعالى:
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}[6].
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا}[7].
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[8].
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}[9].
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ}[10].
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[11].
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[12].
أما منهج الأمثال الذي جاء به القرآن الكريم للتعبير عن نظرته العالمية للتاريخ فقد جعل منها مادة خصبة لنمو الحركة التاريخية وشموليتها العالمية منذ آدمعليه السلام إلى الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من جانب، ومن جانب آخر دفع الفكر الإنساني إلى أثر هذه الحركة العالمية للتاريخ في رسم المستقبل القريب والبعيد للأمة الإنسانية ولاسيما المسلمة بصفتها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[13].
كما أن هذا المنهج القرآني أعطى بنية جديدة لحركة الإنسان في الحياة الدنيوية والأخروية، من خلال تحريك البنيوية العقلية ودفعها نحو التفاعل مع القنوات المعرفية، أي ربط الإنسان بكل ما يدور من حوله كي يرسم حياة كريمة مفعمة بالخير والسلام.
يقول السيد العلامة الطباطبائي:
(تصريف الأمثال ردها وتكرارها وتحويلها من بيان إلى بيان ومن أسلوب إلى أسلوب ــ غاية ذلك ــ أن يوضح لهم سبيل الحق ويمهد لهم طريق الإيمان والشكر)[14].
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا}[15].
بل يظهر القرآن الكريم انحصار من لا يعتبر بهذا النهج القرآني وهم الكفار، فيتحولون من المحور العالمي إلى المحور الفردي المتقوقع والمهمل من خلال تغليب الجهل على العقل وحجره وعزله عن التفكير في هذه المناهل المعرفية الممثلة بالأدلة والحجج التي ضمها منهج القرآن عند إيراده للأمثال.
فيعطي صورة واضحة الملامح لمستقبل هؤلاء وترديهم وانحطاطهم حينما يتولد عندهم النفور من هذه الحضارة القرآنية وهذا النهج التعليمي لاكتساب العلوم.
ـــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة، الآية: 143.
[2] النظرية القرآنية لتفسير حركة التاريخ لحسن سلمان: ص 73.
[3] التاريخ والمؤرخون لشاكر مصطفى: ص 60.
[4] النظرية القرآنية لحسن سلمان: ص74، نقلا عن: مع الأنبياء في القرآن ــ عفيف عبد الفتاح: ص24.
[5] سورة الأحزاب، الآية: 62 و سورة الفتح، الآية: 23.
[6] سورة آل عمران، الآية: 62.
[7] سورة الأعراف، الآية: 101.
[8] سورة الأعراف، الآية: 176.
[9] سورة هود، الآية: 100.
[10] سورة يوسف، الآية: 3.
[11] سورة يوسف، الآية: 111.
[12] سورة هود، الآية: 120.
[13] سورة آل عمران، الآية: 110.
[14] تفسير الميزان لمحمد حسين الطباطبائي: ج 13، ص 202.
[15] سورة الإسراء، الآية: 41.
إرسال تعليق