الصراع الإسلامي الأموي في معركة صفّين



بقلم: الدكتور أحمد راسم النفيس

 بتاريخ: 2 ــ 4 ــ 2014

شهدت (صفّين)، وهي مكان يقع بالقرب من شاطئ الفرات بين الشام والعراق. (واقعة صفّين) التي دارت بين جيش الإمام علي الذي يمثّل القيادة الشرعية للأمّة الإسلاميّة وجيش القاسطين الظالمين، بقيادة معاوية ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص. توشك النبوءة أن تتحقَّق، يوشك من حذَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم أن يتسنَّموا منبره. 

الصراع محتدم بين قيم الإسلام المحمّدي الأصيل، كما يمثّله إمام الحقّ علي بن أبي طالب عليه السلام والفئة الباغية بقيادة ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل ابن النابغة. وسنعرض نماذج متقابلة لخطاب كلّ فريق من الفريقين ولسلوكه، ثمّ نرى النهاية الفاجعة لهذا الصراع، أو نهاية البداية لفجر الإسلام المضيء، على يد هذه العصابة، وهو عين ما حاولوه يوم عقبة تبوك، فلم يحالفهم التوفيق.

خطاب روّاد الفتنة الخارجين على القيادة الشرعية

رفع معاوية بن أبي سفيان شعار الثأر لعثمان بن عفّان، فهل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل صادقَيْن في دعواهما؟ فلنقرأ سويّاً في صفحات التاريخ:

روى ابن جرير الطبري، في تاريخه: (لمَّا قتل عثمان قدم النعمان بن بشير على أهل الشام بقميص عثمان ووضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه - أصابع نائلة زوجة عثمان - وآلى الرجال من أهل الشام ألاَّ يأتوا النساء ولا يناموا على الفرش حتَّى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم، فمكثوا حول القميص سنة، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ويجلّله أحياناً فيلبسه، وعلَّق في أرادنه أصابع نائلة. ثمّ مضى معاوية ينشر في الناس أنَّ علياً عليه السلام قتل عثمان)([1]).

كان هذا هو الشعار المعلن، فهل كان هذا الشعار يمثّل الحقيقة؟ فلنقرأ أوّلاً في تاريخ عمرو بن العاص.

الشعار المعلن وحقيقته، الاستحواذ على السلطان

وروى الطبري، أيضاً: (لمَّا بلغ عمراً قتل عثمان...، قال: أنا أبو عبد الله قتلته - يعني عثمان - وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يَلِه طلحة فهو فتى العرب سيْبا، وإن يَلِه ابن أبي طالب فلا أراه إلاَّ سيستنطق الحقّ وهو أكره من يليه إليَّ. قال: فبلغه أنَّ علياً قد بويع له، فاشتدَّ عليه وتربَّص أيّاماً ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة، وقال: أستأني وأنظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أنَّ طلحة والزبير قد قتلا، فارتجَّ عليه أمره فقال له قائل: إنَّ معاوية بالشام لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية، فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب.

 وقيل له: إنَّ معاوية يعظّم شأن قتل عثمان بن عفّان ويحرّض على الطلب بدمه، فقال عمرو: اُدعوا لي محمّداً وعبد الله فدُعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان... وبيعة الناس لعلي وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أمَّا علي فلا خير عنده وهو رجل يدل بسابقته، وهو غير مشركي في شيء من أمره.

فقال عبد الله بن عمرو: ... أرى أن تكفّ يدك وتجلس في بيتك حتَّى يجتمع الناس على إمام فتبايعه، وقال محمّد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر، قال عمرو: أمَّا أنت يا عبد الله، فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي وأسلم في ديني، وأمَّا أنت يا محمّد، فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثمّ خرج عمرو بن العاص، ومعه ابناه، حتَّى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان.

فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحقّ، اُطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو. فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك، انصرف إلى غيره، فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك إنّي أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنّي، أمَا والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إنَّ في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنَّما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية وعطف عليه)([2]).

هذا هو حال الوزير الأوّل، فهو نفسه ممَّن ألَّبوا على عثمان وهو القائل: (أنا عبد الله، قتلته وأنا بوادي السباع)([3])، وهو المقرُّ بأنَّ انضمامه لابن آكلة الأكباد إنَّما هو من أجل الدنيا([4]).

أمَّا معاوية، صاحب القميص الذي صار مضرباً للمثل على الادّعاءات الكاذبة، فنورد فقرة من خطبته التي استهلَّ بها عهده المشؤوم:

روى أبو الفرج الأصفهاني فى مقاتل الطالبيين: (لمَّا انتهى الأمر لمعاوية، وسار حتَّى نزل النُخَيْلة وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة...) وأورد بعض مقاطعها ومنها:
(ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلاَّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها... فندم فقال: إلاَّ هذه الأمّة فإنَّها وإنَّها...).

(ألا إنَّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدميَّ هاتين لا أفي به).

(إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنَّكم لَتَفْعَلُون ذلك. وإنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)([5]).

 هل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأوّل عمرو بن العاص يطالبان بدم عثمان أو أنَّ السلطة كانت هدفهما؟ وهل يبقى شكّ بعد قراءتنا خطاب كلّ منهما في طبيعة الادّعاءات المرفوعة من قبل الفئة الباغية والصورة الحقيقية لحركة الردّة التي ما كان لها أن تحقّق هدفها لولا تخاذل بعض المسلمين ووهن بعضهم الآخر؟
كانت هذه هي الأهداف الحقيقية: (الاستحواذ على السلطة) و(إذلال المؤمنين)، وهي تختلف عن الأهداف الدعائية: (الثأر من قتلة عثمان).

وسائل التأمّر على الناس

أمَّا عن الوسائل التي اتَّبعها ابن آكلة الأكباد من أجل تحقيق غاياته الشيطانية (وهي إقامة حكومة مَن بدوا في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قردة)، في مواجهة حكومة العدل الإلهية) فهي في المستوى نفسه، ومن نماذجها نذكر:

أوّلاً: الرشوة والإغراء بالمناصب

وإليك الأنموذج الآتي: حاول معاوية رشوة قيس بن سعد بن عبادة، والي الإمام علي على مصر، فكتب له: (... فإن استطعت، يا قيس، أن تكون ممَّن يطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقَيْن، إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطاني. وسلني غير هذا ممَّا تحبّ فإنَّك لا تسألني شيئاً إلاَّ أوتيته)([6]).


أمَّا ردّ قيس بن سعد بن عبادة رضوان الله عليه، على ابن آكلة الأكباد فكان ردّاً مخرساً فقد كتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان. أمَّا بعد، فإنَّ العجب من اغترارك بي وطمعك فيَّ، واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة وأقولهم للحقّ وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور وأضلّهم سبيلاً، وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس؟ وأمَّا قولك: إنّي مالئ عليك مصر خيلاً ورجلاً، فوَالله إن لم أشغلك بنفسك حتَّى تكون نفسك أهمّ إليك، إنَّك لذو جدّ، والسلام)([7]).

ثانياً: الاغتيال السياسي

جاء في تاريخ الطبري: (فبعث عليُّ الأشتَر أميراً إلى مصر حتَّى إذا صار بالقلزم، شرب شربة عسل كان فيها حتفه، فبلغ حديثهم معاوية وعمراً، فقال عمرو: إنَّ لله جنوداً من عسل)([8]).

ثالثاً: الاختلاق والخداع

جاء في تاريخ الطبري: (ولمَّا أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره شقَّ عليه ذلك لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله أنَّ قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا الله وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه. قال: واختلق معاوية كتاباً من قيس، فقرأه على أهل الشام)([9]).

رابعاً: الإغارة على المدنيين وقتل النساء والأطفال

ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه:
1 - (وجَّه معاوية، في هذا العام، سفيان بن عوف في ستّة آلاف رجل وأمره أن يأتي (هيت)، فيقطعها، وأن يغير عليها ثمّ يمضي حتَّى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها)([10]).

2 - (وجَّه معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وأمره أن يصدق - يأخذ صدقة المال - من مرَّ به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من إعطائه صدقة ماله. ثمّ يأتي مكّة والمدينة والحجاز ويفعل ذلك)([11]).

3 - (وجَّه معاوية الضحّاك بن قيس، وأمره أن يمرّ بأسفل واقصة، وأن يغير على كلّ من مرَّ به ممَّن هو في طاعة علي من الأعراب، ووجَّه معه ثلاثة آلاف رجل فسار، فأخذ أموال الناس وقتل من لقي من الأعراب، ومرَّ بالثعلبية فأغار على مسالح علي، وأخذ أمتعتهم ومضى حتَّى انتهى إلى القطقطانة فأتى عمرو بن عميس بن مسعود، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله وهو يريد الحجّ، فأغار على من كان معه وحبسه عن المسير، فلمَّا بلغ ذلك علياً سرَّح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين خمسين، فلحق الضحّاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان وحال بينهم الليل فهرب الضحّاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه)([12])

4 - في عام (40 هـ)، أرسل معاوية بن أبي سفيان بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز حتَّى قدموا المدينة، وعامل علي على المدينة يومئذٍ أبو أيّوب الأنصاري، ففرَّ منهم أبو أيّوب، وأتى بسر المدينة فصعد المنبر وقال: يا أهل المدينة، والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاَّ قتلته. ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عبّاس عاملاً لعلي، فلمَّا بلغه مسيره فرَّ إلى الكوفة حتَّى أتى علياً، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عبّاس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما، وقد قال بعض الناس: إنَّه وجد ابني عبيد الله بن عبّاس عند رجل من بني كنانة من أهل البادية، فلمَّا أراد قتلهما قال الكناني: علام تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني، قال: أفعل، فبدأ بالكناني فقتله ثمّ قتلهما، وقتل في مسيره ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن. ولمَّا أرسل علي جارية بن قدامة في طلبه هرب([13]).

تلك هي لمحات من أهداف الدولة الأموية وملامحها وأساليبها في الوصول إلى هذه الأهداف. لا فارق بين معاوية وصدّام حسين وهتلر. الغاية عند كلّ هؤلاء، تبرّر الوسيلة، بل ونزعم أنَّ ابن آكلة الأكباد، على قرب عهد بالنبوّة، أشدّ وزراً من صدّام حسين الذي قتل النساء والأطفال واستعمل السلاح الكيمياوي في قتل الأبرياء، فصدّام حسين لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سمع منه ولا ادّعى له بعض المؤرّخين أنَّه كان كاتباً للوحي، إلى آخر هذه الادّعاءات التي يمزج فيها الحقّ بالباطل.

خطاب قيادة الأمّة الشرعية

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ). سورة البقرة / 193.
على الجانب الآخر كان معسكر الحقّ، معسكر القيادة الشرعية للأمّة الإسلاميّة، قيادة أهل البيت، ورمزها يومئذٍ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، يجاهد للحفاظ على الإسلام نقيّاً صافياً.

وكان هذا هو الهدف الحقيقي الذي تهون من أجله التضحيات كلّما.
كان الإمام علي عليه السلام ومن حوله كوكبة المؤمنين الخلَّص من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
روى ابن أبي الحديد، في شرح نهج البلاغة، نقلاً عن (كتاب صفّين) لنصر بن مزاحم: خطب علي عليه السلام، في صفّين، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «أمَّا بعد، فإنَّ الخيلاء من التجبّر، وإن النخوة من التكبّر، وإنَّ الشيطان عدوٌّ حاضر، يعدُكم الباطل. ألا إنَّ المسلم أخو المسلم فلا تنابذوا ولا تجادلوا، ألا إنَّ شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ بها لَحِق، ومن فارقها مُحِق، ومن تركها مَرَق، ليس المسلم بالخائن إذا ائتمِن، ولا بالمخلِف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا الفضل، ومنّا خاتم النبيّين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب.

ألا إنّا ندعوكم إلى الله ورسوله، وإلى جهاد عدوِّه والشدَّة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان، وتوفير الفيء على أهله. ألا وإنَّ من أعجب العجائب أنَّ معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص السهميَّ، يحرِّضان الناس على طلب الدين بزعمهما، ولقد علمتم أنّي لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطّ، ولم أعصه في أمر، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، وترعد فيها الفرائص، بنجدة أكرمني الله سبحانه بها، وله الحمد.

 ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنَّ رأسه لفي حِجْري، ولقد وَلَّيتُ غسله بيدي وحدي، تقلِّبه الملائكة المقرَّبون معي. وأيم الله ما اختلفت أمّةٌ قطّ بعد نبيّها، إلاَّ ظهر أهلُ باطلها على أهل حقّها إلاَّ ما شاء الله»([14]).

لنسمع الكلمات المضيئة لأبي الهيثم بن التيهان وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بدرياً نقيباً عقبياً يسوِّي صفوف أهل العراق، ويقول: «يا معشر أهل العراق، إنَّه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنّة في الآجل، إلاَّ ساعة من النهار، فأرْسُوا أقدامَكم وسوُّوا صفوفكم، وأعيروا ربّكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدوَّ الله وعدوّكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم، واصبروا فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتَّقين»([15]).

أمَّا عن مواقف عمّار بن ياسر رضوان الله عليه، في صفّ الإمام، فهي في المكانة العليا، ويمكن أن نتبيَّنها من خلال هذه الرواية: عن أسماء بن حكيم الفزاري، قال: كنّا بصفّين مع علي، تحت راية عمّار بن ياسر، ارتفاع الضحى، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل يستقري الصفّ حتَّى انتهى إلينا، فقال: أيّكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمّار: أنا عمّار، قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال: إنَّ لي إليك حاجةً أفأنطقُ بها سرّاً أو علانيةً؟ قال: اختر لنفسك أيّهما شئت، قال: لا بل علانية، قال: فانطق، قال: إنّي خرجت من أهلي مستبصراً في الحقّ الذي نحن عليه، لا أشكُّ في ضلالة هؤلاء القوم، وأنَّهم على الباطل، فلم أزلْ على ذلك مستبصراً، حتَّى ليلتي هذه، فإنّي رأيتُ في منامي منادياً تقدَّم، فأذَّن وَشِهِدَ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونادى بالصلاة، ونادى مناديهم مثل ذلك، ثمّ أقيمت الصلاة، فصلَّينا صلاة واحدة، وتلونا كتاباً واحداً، ودعونا دعوة واحدة، فأدركني الشكّ في ليلتي هذه، فبتُّ بليلة لا يعلمُها إلاَّ الله، حتَّى أصبحت، فأتيتُ أميرَ المؤمنين، فذكرت ذلك له فقال:
«هل لقيت عمّار بن ياسر؟»،
قلت: لا.
قال: «فالقه، فانظر ما يقول لك عمّار فاتَّبـِعه». 

فجئتك لذلك. فقال عمّار: تعرف صاحبَ الراية السوداء المقابلة لي، فإنَّها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثلاث مرَّات وهذه الرابعة فما هي بخيرهنَّ ولا أبرّهنَّ، بل هي شرُّهنَّ وأفجرهُنَّ، أشهِدْت بدراً وأُحُداً ويوم حُنين، أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟
قال: لا.

قال: فإنَّ مراكِزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يوم بدر ويوم أُحُد ويوم حنين، وإنَّ مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب، فهل ترى هذا العسكر ومَن فيه؟ والله لوددتُ أنَّ جميع مَن فيه ممَّن أقبلَ مع معاوية يريد قتالنا مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خَلْقاً واحداً، فقطَّعته وذبحته، والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟ قال: لا بل حلال.

قال: فإنَّهم حلال كذلك، أتراني بيَّنت لك؟ قال: قد بيَّنتَ لي، قال: فاختر أيّ ذلك أحببت.
فانصرف الرجل، فدعاه عمّار ثمّ قال: أمَا إنَّهم سيضربونكم بأسيافكم حتَّى يرتابَ المبطلون منكم فيقولوا: لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا، والله ما هم من الحقّ ما يقذى عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتَّى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حقّ وأنَّهم على باطل([16]).

وعمّار، إذ يقف هذا الموقف، إنَّما يصغي إلى صوت الله تعالى يدعوه: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: 193).

مسؤولية من أرادها أموية وكرهها إسلاميّة

قام ملك (بني فلان) الذين رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّهم ينزون على منبره نزو القردة، ولا نعفي أحداً من المسؤولية، لا الذين أضعفوا سلطان آل محمّد على قلوب الناس وجعلوا منهم مستشارين عند الضرورة، ولا الذين جعلوا الإمام علياً سادساً في ما أسموه بالشورى، وقد قال عليه السلام في ذلك: «مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ اُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِر»([17]).

ولا الذين مهَّدوا لمعاوية سلطانه في الشام، ولمَّا رأوا ما هو فيه من الأبهّة والسلطان قالوا: (لا نأمرك ولا ننهاك)، كأنَّ ابن آكلة الأكباد استثناء، ولا الذين حرصوا على سلب أهل البيت أموالهم التي أعطيت لهم من قبل السماء، فأخذوا فدكاً من الزهراء وحرموا آل محمّد حقّهم في الخمس، ولا الذين حرصوا على إعطاء بني أميّة ما يتقوّون به لإقامة دولتهم، فأعطوا مروان بن الحكم وابن أبي سرح خمس غنائم أفريقيا، ولا الذين أشعلوا نار الفتنة في موقعة الجمل... الخ، كلّهم مسؤولون وشركاء في هذه الكارثة.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ * ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (الصافّات: 24 - 26).



([1]) تاريخ الطبري 3: 561.
([2]) تاريخ الطبري 3: 559 و560.
([3]) تاريخ الطبري 3: 559؛ الكامل في التاريخ 3: 275.
([4]) أنظر: تاريخ اليعقوبي 2: 222؛ تاريخ الطبري 3: 560؛ تاريخ مدينة دمشق 46: 168.
([5]) مقاتل الطالبيين: 45.
([6]) تاريخ الطبري 3: 552.
([7]) تاريخ الطبري 3: 552 و553.
([8]) تاريخ الطبري 3: 554.
([9]) المصدر السابق.
([10]) تاريخ الطبري 4: 103.
([11]) المصدر السابق.
([12]) تاريخ الطبري 4: 104.
([13]) أنظر: تاريخ الطبري 4: 106 و107.
([14]) شرح نهج البلاغة 5: 181.
([15]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 190.
([16]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 256 - 258.
([17]) نهج البلاغة 1: 34 و35/ الخطبة 3 المسمّاة بالشقشقية.

إرسال تعليق