بقلم: الدكتور مهدي حسين التميمي
بتاريخ: 2 ــ 4 ــ 2014
لم تنتصب رؤوس على سوار الشهادة وبمثل معاناة
ومكابدة شخوصها كمثل ما انتصب الرأسان الشريفان للسيد المسيح والإمام الحسين
عليهما السلام. كما لم يمتثل رجال لقدرهما بالرضا والاطمئنان وبمثل تلك الأنفة
والاعتداد بالنفس كمثلهما، وقد كانت سيرتهما في الشهادة هي المثال الأرقى في سفر
الشهادة في التاريخ الرسالي.
ويورد العهد الجديد من الكتاب المقدس عن مأساة
الشهادة للسيد المسيح: ان جنود الحاكم اخذوا يسوع الى مقره، وجمعوا الكتيبة كلها،
فنزعوا عنه ثيابه وألبسوه ثوبا قرمزيا وضفروا له إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه،
ووضعوا في يمينه قصبة، ثم ركعوا أمامه واستهزؤوا به فقالوا: "السلام عليك يا
ملك اليهود"!، وأمسكوا القصبة وأخذوا يضربونه بها على رأسه وهم يبصقون عليه،
وبعدما استهزؤوا به نزعوا عنه الثوب القرمزي، وألبسوه ثيابه، وساقوه ليصلب، وبينما
هم خارجون من المدينة صادفوا رجلا من قيرين اسمه سمعان، فسخروه ليحمل صليب يسوع.
ولما وصلوا إلى المكان الذي يقال له الجلجلة- أي موضع الجمجمة- أعطوه خمرا ممزوجة
بالمر، فلما ذاقها رفض ان يشربها، فصلبوه واقترعوا على ثيابه واقتسموها، وجلسوا
هناك يحرسونه، ووضعوا فوق رأسه لافتة مكتوب عليها سبب الحكم عليه: "هذا يسوع
ملك اليهود"، وصلبوا معه لصين، واحد عن يمينه وواحد عن شماله وكان المارة
يهزون رؤوسهم ويشتمونه ويقولون: "يا هادم الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، ان
كنت ابن الله، فخلص نفسك وانزل عن الصليب"!، وكان رؤساء الكهنة ومعلمو
الشريعة والشيوخ يستهزئون به ويقولون: "خلّص غيره، ولا يقدر ان يخلص نفسه، هو
ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب لتؤمن به، توكل على الله"!.. وعيره اللصان
المصلوبان معه أيضاً، فقالا مثل هذا الكلام..." (متى 27: 27- 44).
وكل ذنب السيد المسيح، والذي استحق عليه كل ذلك
العنت والكيد انه كان قد قاوم التمسك الأعمى للمتزمتين في الوسط اليهودي من
الفريسيين ومعلمي الشريعة وشيوخ المدينة بتقاليد لا تمت إلى الشريعة بصلة، وسلوكهم
النفعي في ذلك وقد تواصل تعنيفه لهم في ذلك منذرا إياهم بالويل:"وانتم تهملون
وصية الله وتمسكون بتقاليد الشريعة..."
"وما أبرعكم في نقض شريعة الله لتحافظوا على
تقاليدكم" (مرقس 7: 8-4).
"الويل لكم يا معلمي الشريعة والفريسين
المراءون، تأكلون بيوت الأرامل وانتم تظهرون أنكم تطيلون الصلاة..".
"الويل لكم تعطون العشر من النعنع والصعتر
والكمون، ولكنكم تهملون أهم ما في الشريعة، العدل والرحمة والصدق...".
وكمثل ذلك كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام على
الخارجين على منهج الشريعة والمتسلطين على رقاب الناس باسمها، ويذكر المؤرخ ابن
خلدون- الذي عرف عنه تحرجه من الطعن بأي حاكم من حكّام المسلمين- عن يزيد بن
معاوية، والذي امتنع الإمام الحسين عليه السلام عن مبايعته.
انه: "قد ظهر
الفسق أيام خلافته واختلف الصحابة حينئذ بشأنه، فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض
بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين - عليه السلام - وعبد الله بن الزبير ومن اتبعهما
في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به،
ولأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش، وتستتبع
عصبة مضر أجمع"([1]).
وهكذا فإن الإمام الحسين عليه السلام قد آثر
المرتقى الصعب في مبدأ أسمى في الوقوف ضد الجور والاستبداد والانحراف عن منهج
الشريعة، وفي مواجهة عسيرة وشاقة وغير متكافئة، وقد أضيف إلى مشهد الفجيعة في الطف
ما لم يكن من مثل مشهدها في فجيعة السيد المسيح عليه السلام، ان الإمام الحسين
عليه السلام قد شهد مقتل أولاده واخوته، ونفر من بني عمومته وخاصة صحابته.
ووقف
بنفسه على مشهد الترويع لهم بإلجائهم إلى العطش وحصارهم في زاوية الهلاك، واستتبع
ذلك ما كان من التنكيل بجثث القتلى، وسبي النساء، وترويع الأطفال وتشريدهم وملاحقة
من بقي منهم والسعي إلى قتلهم واحدا بعد الآخر، وحمل رؤوس القتلى على الرماح
يتقدمهم رأس الإمام الحسين عليه السلام.
وان مشاهد التنكيل والترويع للنساء والأطفال،
والفتك بالرجال وفي أفظع المشاهد وأكثرها قسوة ودموية في التاريخ الإنساني ما جرى
في واقعة الطف الأليمة، والذي تفصلت في مشاهدها كتب السير وبالأخص منها ما ذكره
المؤرخ أبو مخنف وغيره، من أصناف التنكيل وفظاعة الترويع ما يندى له جبين
الإنسانية وما تأباه الشرائع السماوية والإنسانية، وبخاصة منها ما كان من مشاهد
التمثيل بالقتلى.
وقد ذكر الحديث النبوي حرمته بالنسبة للإنسان والحيوان بأنه
"لا تجوز المثلة ولو بالكلب العقور"... وانه إذا ما قدّر العرض الكامل
لتفاصيل الإجرام مما جرى في الطف فانها ستعد من بين أفظع وأشنع مشاهد الترويع في
التاريخ الإنساني، وانها تعيد الذاكرة لكل مشاهد الترويع والتنكيل بالأنبياء
والأولياء في التاريخ الرسالي كله، ومنها بالأخص ما جرى للسيد المسيح عليه السلام
وخاصة تلاميذه، وللنبي يحيى بن زكريا عليه السلام، وقد حمل رأسه الشريف إلى قاتله
من الطغاة بمثل ما حمل رأس الإمام الحسين عليه السلام.
وقد تمادى الطاغية في
إجرامه بنكث رأس الإمام الحسين عليه السلام بقضيبه وبحضور من بقي من أسرته
الشريفة، والاستهانة بقدر ومكانة الأسرة النبوية بذكر اسمها رياء في أذان الصلاة
والتي هي كمثل صلاة المرائين الذين جاء السيد المسيح عليه السلام على ذكرهم في
تقريعه للكهنة وشيوخ المدينة، وقد التقى الإمام الحسين عليه السلام في انتصاب رأسه
الشريف مع السيد المسيح عليه السلام على سارية من سواري المجد الرسالي.
ويقينا فإنه وبأي الطبيعة والصورة التي كانت عليها
الفجائع في التاريخ الرسالي، فإنها على الخط الواحد الذي تنتهي إليه وعنده الغاية
الرسالية، وان الانباء المسيحي في الخلاص حين تجيء النهاية وتعلن "بشارة الله
في العالم".
هي ذاتها التي اقرها الأنباء الإسلامي عن اللقاء المرتقب لوثبة
الشهادة في التقاء اللواءين المسيحي والإسلامي في القدس، مجسدة بشخص السيد المسيح
عليه السلام، وحفيد الإمام الحسين، الإمام المهدي عليهما السلام، وهما يتوليان
مهمة إنقاذ العالم من الشرور التي توالت على مر الأحقاب، التي نال منها الأنبياء
والأولياء والمؤمنون معهم حصصا متفاوتة القدر من الكيد والتنكيل والبطش.
وليسطع
النجم الرسالي من جديد، وبكل عنفوانه ليرسم صورة الخلاص من محنة الشر في العالم، وانه
عندما تجيء النهاية يؤول الأمر إلى توحد لواءي الإيمان السابق واللاحق مجسداً بشخص
السيد المسيح وحفيد الإمام الحسين عليهم السلام ليحملا معا مهمة الخلاص الكبرى
التي تشهد بوقائعها الأديان.
وفي تقدير السيد محمد الصدر فإن المنقذ العالمي
الواحد، الذي سماه الإسلام بالمهدي وسماه السابقون اليهود والنصارى بالمسيح، وسماه
آخرون بأسماء أخرى، ومعه يتعين ان يكون المسيح والمهدي لفظين أو صفتين لشخص واحد،
هو المنقذ العالمي الواحد الموعود([2]).
وان القيمة الاعتبارية لهذا الانجاز في نهاية الشوط الرسالي ان تحقيق ذلك سيتم عن
طريق الذوات الرسالية الأكثر قدرة على فهم وجوه المعاناة من المظالم كونها قد ورثت
عناء الظلم وتجرعت مرارته، وانها قد اختيرت لمثل ذلك الدور الذي امتثلت له في حضور
شاخص في حياة سابقة، لتمتثل له في دورة جديدة تتعالى فيها على المعاناة والكيد
وتنتصر عليه بإرادة عالية مستمدة بقوة من السماء.
إرسال تعليق