تأملات بلاغية في خطب الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه من مكة

بقلم الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري

أمضى الإمام الحسين (عليه السلام) مدة طويلة في مكة تقرب من أربعة أشهر بعد خروجه إليها من المدينة، ولم تنقطع عنه في هذه المدة كتب أهل العراق ووفودهم وهي تدعوه إلى القدوم إلى بلدهم وتعلن ولاءها وبيعتها له، وقد تقدمت الإشارة إلى أن الإمام الحسين قرّر أن يرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، وطلب منه أن يوافيه بأخبارهم وأحوالهم.

وحين وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة ومعه كتاب الإمام الحسين اجتمع إليه الآلاف من أبناء الكوفة، وأعلنوا بيعتهم للإمام الحسين، وصلى خلفه مئات من الناس في المسجد، وحين اطمأن مسلم إلى نوايا القوم لم يكن أمامه سوى إخبار الإمام الحسين بواقع الحال، فكتب إليه يخبره بإجماع أهل الكوفة على بيعته وبذلهم أنفسهم وأموالهم من أجله، وإعلانهم الولاء لإمامته.

وفي ضوء هذا لم يكن أمام الحسين سوى الوفاء بالوعد الذي قطعه لأهل العراق وتلبية دعوتهم في المسير إلى بلادهم، وهكذا عزم الإمام على مغادرة مكة إلى العراق بالرغم من رغبة بني هاشم وعدد من الصحابة في عدم خروجه، وغادر الإمام مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة سنة (60هـ) بعد أن طاف بالبيت وحل إحرامه وجعل حجه عمرة.

 وقبل أن يغادر الإمام الحسين مدينة مكة جمع الناس وألقى على مسامعهم خطابه الأخير قبل خروجه إلى العراق قال: «الحمد لله وما شاء الله ولا قوة الا بالله، وصلى الله على رسوله، أيها الناس، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، ولا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله». (أعيان الشيعة 1 / 593).

ان هذا الخطاب يخالف المألوف من خطاب الثائرين وطالبي الصلاح

إنّ أول ما يلفت النظر في سياق هذا الخطاب وتراكيبه أنه يخالف المألوف في خطابات الثائرين وطالبي الإصلاح، لأن أمثال هؤلاء يحرصون على إغراء الناس بما يحققونه من مكاسب وانتصارات، ويعدونهم بالحصول على الملك والسلطان وتحقيق الأهداف وإنجاز المهمات، وحين ننظر في تراكيب هذا الخطاب، ونستوحي دلالتها نجد أن الإمام ينعى نفسه، ويرسم نهايته ويمني من يتبعه بالشهادة ولقاء الله، لأن طريقه هو طريق الشهادة، يقول الشيخ الآصفي: «هذه الخطبة عجيبة في لهجتها، عجيبة في مضامينها ودعوتها، وهي تتضمن الاستنصار والترغيب والتزهيد والدعوة والرفض» . (تأملات في زيارة وارث / 157).

هل يتناقض الإمام الحسين عليه السلام في خطابه هذا؟

ويبدو لأول نظرة إلى نص هذا الخطاب أن تراكيبه تزدحم بالمتناقضات فهو يدعو الناس إلى نصرته، وينعى نفسه في الوقت نفسه.

 ويدعو إلى الزهد في الدنيا ويرغب من يلحق به بالشهادة.

وقد يبرز سؤال في الذهن عن السبب الذي دفع الإمام إلى بناء أسلوب خطابه بهذه الطريقة وهو يدعو الناس إلى تأييد مسعاه في استعادة الحق المغتصب، وفي هذا الوقت الذي أعلن فيه ثورته على الظلم والظالمين وعزم على الخروج إلى العراق.

إن الجواب عن هذا التساؤل: هو أن الإمام أراد أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً وصادقاً مع من يتبعه، فهو يعرف المصير الذي يسير إليه، ويعلم أنه ماضٍ في طريق الشهادة، وعد وعده به الله ورسوله، ولا يمكن لإمام مثل الحسين أن يستعمل غير هذا الأسلوب الذي بنى عليه تراكيب خطابه عشية خروجه من مكة.

الإمام الحسين عليه السلام يودع مدينة جده للمرة الاخيرة

لقد مثل هذا الخطاب بمفرداته وتراكيبه وأسلوب صياغته الوداع الأخير لمدينة جده رسول الله وبيت الله الحرام، وهو يمثل أيضاً الإنذار الأخير للمسلمين، لكي يحسموا خيارهم بين الفناء والخلود، بين الحق والباطل بين الظالم والمظلوم.

حتمية الموت تدعو إلى الزهد في الدنيا

بدأ الإمام خطابه بحمد الله والثناء عليه ثم الصلاة على الرسول الكريم، وبعد ذلك انتقل إلى ما يريد بيانه، فأشار إلى حتمية الموت على بني آدم ولا يمكن لأحد الفرار من هذا المصير، ويمكن أن نستوحي من هذا القول ظلالاً دلالية تشير إلى التزهيد في هذه الدنيا الفانية، وقد استعار الإمام صورة للتعبير عن حتمية الموت وإحاطته بالبشر هي صورة القلادة التي تحيط بجيد الفتاة، ووجه الشبه بينهما هو إحاطة كل منهما بما وضع له، ويبدو من البنية التركيبية التي بدأ بها الإمام خطابه أنها تحمل شحنات دلالية أراد الإمام التركيز عليها وبيانها وأهمها:

تخصيص الموت بالإنسان بدلالة قوله: «ولد آدم» في حين أن الموت ظاهرة عامة تطال كل كائن حي، وهدف الإمام من هذا التخصيص واضح ذلك أن مقام الخطاب يتطلب مثل هذا، لأنه موجه إليهم، وبناء الفعل «خُطّ» للمجهول يدل على أن التركيز سيكون على نوع الحدث وهو الموت دون الالتفات إلى الفاعل لأنه معروف، ولو استعمل الفعل مبنياً للمعلوم لما ادى التركيب هذه الدلالة، وفضلاً عن ذلك فقد استعمل الإمام حرف الجر «على» الذي فيه معنى الاستعلاء ليبرز من خلال ذلك طابع العلو والسيطرة والتمكن في إيقاع الموت. (التصوير الفني في خطب المسيرة الحسيني / 73).

لماذا بدأ الإمام الحسين عليه السلام خطابه هكذا؟

والجواب: هو أن دلالة هذا الابتداء واضحة هي التزهيد في هذه الدنيا الفانية والإشارة إلى أن كل ما فيها مصيره الزوال ونهايتها الحتمية هي الموت، فلا مسوغ للتشبث بها وارتكاب المعاصي ومخالفة أوامر الله من أجلها، ومن هذه الفكرة يريد الإمام أن يكون أتباعه من الزاهدين بهذه الدنيا، أن يكونوا ممن باعوا الدنيا بالآخرة، أن يكونوا ممن وطَّن نفسه على لقاء الله والرضا بقضائه، أن يكونوا من الذين يطلبون الموت لتوهب لهم الحياة.

اشتياق الإمام الحسين للموت الذي سيجمعه بأسلافه الطاهرين

وبعد هذه الصورة التي رسمها الإمام الحسين لإحاطة الموت ببني آدم، وهي صورة تنبض بالحياة وتجسد الموت الذي هو صورة ذهنية بصورة حسية هي صورة القلادة، ينتقل الإمام إلى استعارة صورة من قصص القرآن الكريم ليجسد من خلالها اشتياقه للقاء ربه ولقاء جده وأبيه وأمه وأخيه وهم الذين وصفهم بأسلافي وبين شوقه إليهم، وهذه الصورة هي صورة الاشتياق الذي في قلب يعقوب إلى ولده يوسف، وهي من أعظم الصور التي رسمها القرآن الكريم لبيان شدة الاشتياق، يقول: «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف»، انها صورة من التشبيه الرائع جسد فيها الإمام الحسين شوقه إلى الموت الذي سوف يجمعه بأسلافه الماضين، ويمكن أن نلمح في هذا التركيب ظلالاً من المعاني التي تشير إلى رغبة الإمام الحسين في الموت الكريم، وزهده في هذه الدنيا الفانية.

إخباره عليه السلام بوحشية وشراسة أعدائه لعنهم الله

وينتقل الإمام في خطابه بعد ما تقدم إلى مسألة جديدة بناها على توقع لا يخطئ، وهذه المسألة هي تحديد المصير الذي يسير إليه، وهو مصير خط بالقلم ووعده به الله ورسوله، وقد عبر عن ذلك بأسلوب صوّر فيه نهايته التي يسير إليها مجسداً الحقيقة التي آمن بها يقول: «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً» لقد رسم الإمام في هذه التراكيب عدداً من الصور تنبض بالحياة وكأن السامع يراها أمامه «أوصال مقطعة، ذئاب شرسة تنهش تلك الأوصال، مكان محدد، بطون يصرخ فيها الجوع».

لقد كانت صورة متكاملة الأبعاد تجسد الحدث بصورة دقيقة لقد صور الإمام وحشية الاعداء وشراستهم من خلال الرمز الموحي بهذه الوحشية، صورة ذئاب متوحشة، بطونها فارغة ينهشها الجوع بكل قوة فتجد أمامها ما تفترسه لتملأ منه بطونها، هكذا هي الصورة التي رسمها الإمام لجيش الأعداء وحاجة أفراده إلى التزود من حطام الدنيا، يقول أحد الباحثين:

«ويبدو أن الصورة الاستعارية في الخطاب لا تعني بحقيقة الجوع وفراغ البطون، بقدر ما تصور الحاجة الدنيوية لهذا الجيش بأكراش هذه الحيوانات الجائعة». (التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية / 78).

إن من يسمع هذه الطائفة من التراكيب يشعر بأن الإمام الحسين ينعى نفسه، ويحس بناقوس الحزن يقرع أبواب قلبه، ولذا نجد الإمام بعد تحديد هذه النهاية التي سوف يصير إليها يذكر أنه سوف يصبر على كل ما يحل به من البلاء، ليوفى أجر الصابرين وهو أجر عظيم وهو لن يشذ عن لحمة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وجه دعوته إلى المؤمنين، إلى من يبذل نفسه في سبيل الله ويوطنها على لقائه، ويكون قادراً على مواجهة المصير الذي يؤول إليه أن يرحل معه ويشد أزره.

ولكي يقرر حتمية الرحيل وثباته استعمل التركيب الاسمي يقول: «فإني راحل مصبحاً إنْ شاء الله»، وهذا التركيب الاسمي المؤكد يدل على ثبات الرحيل وتحقيقه في صباح اليوم التالي، وما ورد في خطاب الإمام من توكيد الحدث وتحقيق وقوعه يماثل ما ورد في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). (البقرة /30).

لقد انتهت بهذا الخطاب المرحلة الأولى من مراحل الخطاب الحسيني، وقد تضمنت هذه المرحلة ما تكلم به الإمام وما وجهه من خطابات ورسائل وهو في بلاد الحجاز سواء أكان ذلك في المدينة أم في مكة بعد وصوله إليها وإقامته فيها إلى حين غادرها في شهر ذي الحجة من سنة (60هـ) واتجه في مسيره نحو العراق تلبية لدعوة أهلها، وسوف تبدأ المرحلة الثانية من مراحل هذا الخطاب، وهي تتضمن خطابه في أثناء المسير من مكة إلى العراق حيث تنتهي هذه المرحلة بنزوله في أرض كربلاء ومواجهته جيوش الأعداء، وعندها تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل هذا الخطاب.

لقد جسد الخطاب الحسيني في مرحلته الأولى الأهداف التي نهض الإمام الحسين من أجل تحقيقها، وحدد الأسباب والدوافع التي جعلت الإمام الحسين يمتنع من إعطاء البيعة ليزيد، ويعلن رفضه القاطع أمام من طلب منه ذلك، وفضلاً عما تقدم فقد حمل الخطاب الحسيني في مرحلته الأولى ظلالاً من الوعظ والإرشاد وبيان وجوه الحق ووجوه الباطل ودعوة المسلمين إلى التمييز بينهما.

إرسال تعليق