تمييز المحكم من المتشابه وأثره في تفسير النص القرآني

بقلم: الدكتور عدي جواد علي الحجار

تصريح القران الكريم بوجود المحكم والمتشابه فيه

قال الله تعالى:  (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). ( سورة آل عمران:7).

فدلت الآية القرآنية على أن القرآن العظيم يشتمل على نوعين من الآيات: الآيات المحكمة والآيات المتشابهة. وهناك اختلاف لدى أئمة علوم القرآن والمفسرين في مفهوم ذلك, وحاصل القول فيه: إن المحكم من الآيات هو الذي تكون دلالته واضحة ولا تلتبس بأمر آخر, كالأوامر الإلهية في القرآن.
والمتشابه هو الذي لا يعلم تأويله إلا الله عز وجل, والراسخون في العلم وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والزهراء والأئمة الاثنا عشر عليهم السلام.

معنى المحكم لغة

ولو تتبعنا معنى المحكم ودلالته اللغوية, لوجدنا أن المحكم لغة من: أحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكماً, وهو الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب(لسان العرب: 12 / 141-143).
وفي حديث ابن عباس(ت69هـ): قرأت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يريد المفصل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء.
وقيل: هو ما لم يكن متشابهاً لأنه أحكم بيانه بنفسه ولم يفتقر إلى غيره، وقوله تعالى:(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). ( سورة هود: 1).

وفسّرت بأنه: أحكمت آياته بالأمر والنهي والحلال والحرام ثم فصلت بالوعد والوعيد، والمعنى، وإن آياته أحكمت وفصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلالة على توحيد الله وتثبيت نبوة الأنبياء وشرائع الإسلام(التبيان:5/446).

معنى المتشابه لغة

وأما المتشابه لغةً, فيقال: هذا شبهه، أي شبيهه, وبينهما شبه بالتحريك، والشبهة: الالتباس. والمشتبهات من الأمور: المشكلات. والمتشابهات: المتماثلات. وتشبه فلان بكذا. والتشبيه: التمثيل. وتشابها واشتبها: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا. وأمور مشتبهة ومشبهة كمعظمة: مشكلة. والشبهة بالضم: الالتباس والمثل. وشبه عليه الأمر تشبيها: لبس عليه. وفي القرآن المحكم والمتشابه(القاموس المحيط 4 / 286).

معنى المحكم والمتشابه اصطلاحا

والمحكم اصطلاحا: هو «ما لا يحتمل إلا الوجه الواحد الذي أريد به ووصفه محكماً لأنه قد احكم في باب الإبانة عن المراد.
وإما المتشابه: فهو ما احتمل من وجهين فصاعدا» ( عدة الأصول (ط. ق) 2 / 159).

وعلى هذا فالمحكم لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما يحتمل وجهين أو أكثر منهما, حيث أن الدلالة في المحكم واضحة وفي المتشابه غير واضحة، «وقيل: المحكم: الناسخ والمتشابه المنسوخ» ( الفصول في الأصول 1 /373).
ولعل ذلك لدخول الناسخ في أفراد المحكم ودخول المنسوخ تحت أفراد الضد العام للمتشابه, والقدر المشترك بين النصِّ والظَّاهر هو المُحكم, والمشترك بين المجمل والمؤوَّل هو المتشابَه(كنز العرفان 1/47).

من أمثلة المحكم والمتشابه

ومن ذلك وقوع الحراك الفكري الشديد لدى المفسرين في فهم ما اشتبه عليهم من نفي السؤال وإثباته يوم القيامة, فمما ورد في إثبات السؤال قوله تعالى: > وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ). ( سورة الصافات: 24) .

ومما ورد في نفي السؤال في قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ). (سورة الرحمن: 39).

حيث أدى إلى تنوع فهم المعنى, مع المحافظة على الضرورة العقائدية, وهي القول بإحاطة علمه تعالى بأفعال عباده, فترتب على هذا التنوع التغاير في التفسير, فقيل في ذلك:

1: إن السؤال المثبت هو سؤال توبيخ لا سؤال استخبار واستعلام الشخص عن ذنبه. (المحرر الوجيز:4/300).

2: السؤال المنفي هو السؤال العام, أي سؤال مجمع الخلق "مَن المذنب منكم؟. ( تفسير الرازي: 29/118).

3: السؤال المثبت سؤال تقريع لا سؤال شفقة ورحمة, والمنفي سؤال الاستفهام والإستخبار.(مجمع البيان: 5/182و 9/343).

4: تغاير السؤال بين النفي والإثبات بتغاير مواقف القيامة لطولها. (تفسير الثعلبي:5/354).

5: تغاير السؤال بين النفي والإثبات بتغاير الموضوعات, فالسؤال المثبت يدور حول ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه(البرهان: 2/55).
بقرينة قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (سورة القصص: 65).

6: إثبات سؤال المجرم من دون البريء(التبيان: 8/178والرازي), بدلالة قوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ). (سورة الصافات: 24).

7: إثبات سؤال البريء من دون المجرم(جامع البيان: 27/185), بدلالة قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).(سورة التكوير: 8-9).

8: السؤال المثبت هو سؤال تفخيم وتعظيم وتهويل الذنب, لزيادة شناعته وغاية قبحه (تفسير الآلوسي: 20/28).
كما يقال: "ما أعظم ما فعلت؟!"( مجمع البيان: 5/451).

9: السؤال المنفي هو سؤال الملائكة المكلفين بأخذ المجرمين, إذ أنهم يعرفون المجرمين بسيماهم, والمثبت مسائلة المجرمين من قبل الله سبحانه وتعالى وهو سؤال حساب(جامع البيان: 27/185111).

10: السؤال المثبت هو سؤال تقرير لا من جهة حاجته تعالى للعلم به, والتقرير يغاير التقريع, بأن الأول يحتاج إلى جواب, والثاني لا يحتاج إلى جواب(أحكام القرآن: 3/553).

11: السؤال المنفي هو سؤال الخلق بعضهم عن بعض, أو سؤال بعضهم بعضاً, لانشغالهم وذهولهم بهول ذلك الموقف (جامع البيان:27/185و145).

12: الكل يحاسب في الجملة (جامع البيان:14/90), أي: الكل محاسب معذب ولو بطول الوقوف, والله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة، يسمع منها كل واحد قضيته من دون غيرها، ويظن أنه المخاطب من دون غيره، ولا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا(تفسير الصافي: 2/127).
فالسؤال لا لواحد بعينه. فيكون السؤال المنفي السؤال الأفرادي, والكل منهم مسؤول في الجملة, ويكون السؤال المثبت هو المجموعي(مجمع البيان: 1/366-367).

هذه جملة من تنوع الفهم في أنموذج واحد, والتي انتظمتها بعض كتب التفسير, إذ ترتبت على المتشابه من آيات إثبات السؤال وآيات نفيه, فأوهم التنافي بين المدلولين مما أثار لدى المفسرين الحراك الفكري للوقوف على تفسيرين منسجمين مع ما يليق بساحته تعالى, وبذلَ الجهد في الذبّ عن القرآن الكريم وردّ شبهة وقوع التناقض.

والحقيقة هو ليس بتناقض ــ لعدم توفر شروط التناقض ــ وإنما هو من باب التباين الجزئي, فالعناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين جزئياً لا يعقل أن يتصادقا على متحد الجهة، فان جهة الصدق والانطباق في أحد العنوانين لابد أن تغاير جهة الصدق والانطباق في الآخر, والمخالفة في موارد التباين الجزئي لا تضر ببعضها, إذ يكون هناك جامع بين العموم والخصوص من وجه, فلابد من معالجة موارد المتشابه بصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض(تفسير الرازي: 22 و157).

فكل مفسر يسعى جاهداً بما أوتي من فهم لبيان وجوه الجمع والافتراق في المتشابه من الآيات, كاختلافهم في دلالات الأحرف المقطعة في فواتح السور بأنها من العلم المستور والسر المحجوب الذي استأثر به تعالى, فلا يعلم تأويله إلا الله, أو أن المراد منها معلوم ولكنهم اختلفوا فيه بعدة آراء تتفاوت قيمة ودلالة وموضوعية, وقد تداعت كلمات الأعلام في هذه الآراء, حتى نقل الخلف عن السلف, واستند اللاحق على السابق, بنسبة إليه ومن دون نسبة, وقد يخلص كل مفسر أو باحث إلى ما يأنس به ويطمئن إلى مؤداه, بوصفه جزئياً من كلي فرائدها, من دون القطع بأنه مراد الله تعالى منها(الصوت اللغوي في القرآن: 94).

يضاف إلى ذلك ما اختلف في كونه محكماً أم متشابهاً, إذ لم يتفق على كثير من تلك الموارد, فيتسع مجال الفهم أو يضيق تبعاً للاعتبار(تفسير الرازي: 7 / 179).

إرسال تعليق