بقلم: الأستاذ عبد الرزاق العايش
في أية بداية من بدايات العظماء
يجد الكاتب لقلمه وبيانه متسعاً للبحث ومجالاً للتنقيب، إلاّ في بداية الحسين عليه السلام) . فما من كاتب خاض البحث عنها إلاّ
تملكاه دهشة وذهول. لأن في بدايته يداً تزج الى نهايته، ونهايته خضم صاخب في وسط
امواجه المتلاطمة اقلعت سفينة النجاة، تحفها قدسية الإيمان وتكتنفها هيبة البطولة،
ويعلوها علم التضحية..!!
لذا مهما حاولت افصل بين نقطتي
البداية والنهاية، وبالغت في اسباب الفصل بين بداعة هذه وفداحة تلك. ذهبت محاولتي
سدى، إذ تغلغلت النهاية الى اعماق نفسي، وتمثلت أمام عدسة احساسي، فكأني - والحال
هذه - اتعاطى مزيجاً من عسل وعلقم.
منذ ألف وثلثمائة ونيف وستين سنة
خلت... استحالت احدى أماسي الثلث الأول من شعبان ضحى سعادة وهناء، في مهبط الوحي
الإلهي، ومحيط السمو المعنوي، (حيث كانت عبقات السماء تهب مثلما يتضوع شذى الغيث
المندفق، هذا ليمد الصعيد بالحياة وهذا ليمد النفوس بالمعنى الحي، إذ تجلت من
الغيب طفولة سامية..!! كيف لا..؟ والمولود خامس خمسة شاء الله ان تعلو بهم كلمته
ويتبع فيهم هداه كما دل بعدئذ - قوله تعالى } قل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل
لعنة الله على الظالمين}.
ولدت فاطمة حسيناً فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وأذن
في اذنه اليمنى كما يؤذن للصلاة - والأذان معناه اعلان العابد الإخلاص لمعبوده،
والصلوة صلة بين الخالق والمخلوق.
هذا أول غذاء نفسي غذي به هذا
المولود الجديد... وغني عن البيان ما لتهنين الطفل من يد في توجيه اخلاقه، وتثبيت
انطباعاته. فلا عجب اذا مامنه واليه، وعليه سمت نفسه، وهفا فؤاده، واتقدت حميته..
وهكذا أخذ النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) يسكب في نفس فتاه خلاصة السمو بما فيها من جود وسخاء
وشمم وأباء وتفان في سبيل العقيدة والمبدأ مضافاً الى هذا عاملين مهمين من عوامل
تكوين الطفل وتنشئته من كلاهما نال الحسين اجل واعظم صفات السمو...
أما العامل الأول فأجد فيَّ غنى
عن الإفاضة للتدليل عليه ما دامت كلمتي هذه آخذة سبيلها الى أذهان قوم يعلمون تمام
العلم بأن ( الحسين) تكون من مزاج ينبوعي النبوة والإمامة. – فاطمة وعلي (عليهما السلام) - وأما
العامل الثاني فما عسى أن أقول في بيئته نما السمو وطاب جنيه.
هذه البداية.. ما أحلاها
وأعذبها..! بل وأعلاها وأعزها، لدى ذو النفس السامية..! فيا حبذا لو استطاع الخيال
أن يخلق في سمائها الصافية العبقة. ويتمتع بجمال نجومها الزاهية الألقة، ليملي على
القلم بعض مشاهداته يملي (على الأقل) مشهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم قال
(حسين مني وأنا من حسين).
هذه الجملة لو فاه بها بعض الناس
لكان معناها – حسين مني بمنزلة المولود من الوالد وانا من الحسين بمنـزلة الوالد
من المولود - او ما شابه هذا لكن القائل نبي عظيم}
ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى علمه شديد القوى} من
تكن هذه صفته لاشك أن كلامه يبعد كل البعد عن السطحي المبتذل. فلا بدع ان قلت انما
المقصود من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسين مني بمنزلة الصفة من الموصوف،
وأنا من حسين بمنزلة الموصوف من الصفة- لذا عزز القول بما لن يتسنى لأحد سواه أن
يقول - إني أحب حسيناً فمن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله.
من هذه النقطة الحساسة وامثالها
كم وددت لو أني استطيع التغلغل إلى أعماق الواقع، لأتمتع بجمالها البديع فأشبع
نفسي التواقة الى الجمال الذهبي لكن..! أنى لي هذا ما دامت هناك نهاية تحطم القلم
وتلعثم اللسان.
مامن منصف إلاّ ويؤمن بأن ((الحسين عليه السلام) كان البناء الثاني للإسلام بعد
جده )) فقد علم القاصي والداني ما بلغـه المسلمون من الإنحطاط – آنذاك- فبعد أن
كانوا مثالاً للمزايا الحميـدة، وعنـواناً للسجايـا المحببـة - كألأخلاق والأباء، والشمم، وما شابه هذا من مقتضيات
السمو المعنوي- بعد هذا انحطوا الى الخضوع لما عليه وحشية (( يزيد)) مع علمهم بما
جبل عليه يزيد من خساسة لا تتفق ومبدأهم السامي النبيل.
هكذا ويذهب سدى ما بنوه المسلمون
من مجد خالد، وكادت آمالهم أن تخيب. لو لم يجعل الله الحق وضاح الجبين لا تخفيه
حجب الضلال مهما تكالبت وقوي العزيمة لا تهزمه جيوش الباطل مهما تألبت.
وهكذا جاء يوم الحسين، فياله من
يوم أجهد الليالي حمله، فولدته وحيداً لا ثاني له، مع أن الليالي (يلدن كل عجيب).
يوم تبلى الأيام وتفنى السنون وهو
خالد خلود الشمس في الأفق... فكأن لم يزده البعد عن أعيننا إلاّ تعمقاً في نفوسنا.
كما لم يزدنا الحزن فيه إلاّ تحبباً لقلوبنا. نستعذب النهل من منهله مع ما فيه من
شقاء وعذاب (( والأبي يجد طعم المنية شهداً)).
يوم جمع الحسين العظمة، وصاغها
حلية يزدان بها كل عظيم، حين تلاها آية... أبكمت الألسن فصاحتها وأذهلت العقول
بلاغتها، فأفاق الدين العليل من غشوته ولسان حاله يقول:
وما سمعنا عليلاً لا علاج له ****
إلاّ بموت مداويه اذا هلكا
وهذا صدى صوت الحسين يطبق الافاق
معلناً:
إن كان دين محمد لم يستقم **** إلاّ
بقتلي، يا سيوف خذيني
إرسال تعليق