الـحسـين السـياســي

بقلم: السيد صدر الدين شرف الدين / صاحب جريدة الساعة

لم تكن السياسة في بدء الإسلام منفصلة عن الدين، بل لم يكن للسياسة في الإسلام مفهوم كمفهومها المعروف قبل الإسلام وبعد العهد الراشد. وإنما كانت السياسة سياسة الزعامة الإسلامية التي أنشأها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) انشاءا، وشد بها ايدي صحابته المتخيرة شداً كان الدليل على أن الالتواء والتحريف ليسا طبيعة في ذات السياسة. وإنما هما من ارتجال الساسة الذين يعدلون الى الإلتواء والتحريف عن الإستقامة والمواجهة بدواع من ضعفهم وضعف حقائقهم عن بلوغ ما يبلغه الساسة الصادقون المستقيمون المواجهون.

وإنما يجيء الإلتواء والتحرف عند هؤلاء الساسة الزائفين قدرة مصطنعة يتوسلون بها الى سد عجزهم وستر ضعفهم، ويقيمون منها جسراً للعبور الى غاياتهم وأغراضهم الذاتية المقصودة هي بذاتها قبل أن يقصدون بها شيئاً آخر من التربية النوعية، أو الإصلاح الإجتماعي ، أو إقامة الموازين العادلة.

وقد يكون الوزر مقتسماً بين الساسة الزائفين، وبين المسوسين السذج المقادين، قد يكون ذلك، أو هو كائن من غير شك، لأن السياسة كائن من هذه الكائنات المترابطة التي لا ينفصل بعضها عن بعض ولا يستقل شيء منها بالوجود دون شيء آخر، وهي مع ذلك شركة بين طرفين يقف الساسة منها في جانب ويقف المسوسون منها في الجانب الآخر كلعبة جر الحبل من غير فرق، نعم لقد فرض أن تكون القوة والعيالة والنشاط في جانب الساسة، لأن المعروف في هؤلاء انهم القادة الذين تصدر منهم الأوامر والإيعازات ولكن المسوس في انقياده واسلاسه يشارك السائس في مثوبات ايعازاته وأوزارها معاً، ويسنده في الحالين مهما كانت عوامل طاعته واتصالاته في أوامر السائسين.

وفي الحق ان القابليات والملكات والغرائز لو لم تكن مستعدة للإنقياد والطاعة لتمردت –لإذن- وفشل اللذين يسددون من الجماعات سهاماً يرمون بها عن ايدي الشهوات او عن ايدي المصالح على السواء.

وفي حوادث التاريخ قبل النظريات العلمية والإستنتاج العقلي شواهد لا مجال فيها للتردد أو الشك، فالتطاحن بين سياسة الصدق والمواجهة وبين سياسة النفاق والتحرف يدلنا على أمرين متلازمين مترتبين:

أولهما: أن الإنسان غر شهوان يتملقه النفاق وتغريه الخديعة وان قام في قرارة نفسه ان وسائل هذا النفاق وأدوات هذا الإغراء طلاء وتمويه، ذلك لأنه شهوان تخدعه الشهوة في واقع الأمر لا هذه الوسائل المطلية المموهة.

ومن هنا نجحت في اكثر الأدوار سياط الظلمة وأموالهم وعلت التيارات المادية هذا العلو المبين.

وثانيهما:أن المسوس من شعوب الساسة هم أوزار السياسة وأعباؤها الثقال، يتخطون في مجالاتها الوعرة صخوراً وأشواكاً حيناً، وسيوفاً ونبالاً اخرى، وهموماً وأكداراً ثالثة.

ومن هنا كانوا شركاء الساسة احبوا أم كرهوا، اطاعوا عن طبيعة واقتناع ام عن إغراء وفتنة، هم شركاء في كل حال وقد دلتنا الأحداث الجسام – احداث المبادئ الفواصل في تاريخ الإنسان- على ان انطلاق العصور في غرض من اغراض الحياة لم يجرف العقائد الصلاب، ولم يطو الرجال الشداد، بل نشأ في منحدرات العصور رجال شقوا السيل شقاً وقالوا كلمتهم فإذا السيل يغور، وإذا هم بعد السيل ماثلون، كما تمثل القمم الشوامخ رسوخاً في المكان وخلوداً في الزمان فكانوا بهذا حجة باقية على معاصريهم، وكان تمردهم دليلاً على إنسانيتهم الزاهدة فيما أطمع غيرهم، المطمئنة ما أخاف أمثالهم فوق إنسانية أولئك البشر الطامع بالمتاع، أو الخائف بالأراجيف.

ولقد كان لهذه الدروس النوادر أثرها في تثبيت الأقدام، وخلق البطولات في تاريخ العظائم، وسجلات المبادئ والتطورات الإصلاحية الكبرى.

وبعد أفاستطيع ان ادخل الحسين في سجل الساسة من غير حرج ولا ضير..؟ وهل ينكر عليَّ منكر إذا أضفت الى سيد الشهداء هذا اللون من ألوان الحياة..؟

أما أنا فلا اتحرج ولا أحب لأحد أن يتحرج ما دام محمد – وهو قدوة الحسين- أعظم من ساس الحياة، وأنشأها بسياسة حياة لو بقيت كما وضعتها يده لكانت جديرة ان تمتعنا بالأمن، وتترفنا بالخيرات الوارفة من العيش الرغيد.

لا حرج ولا ضير أن نعد الحسين إماماً من ائمة السياسة كما هو إمام من أئمة الدين. لا حرج ولا ضير في ذلك ما دامت سياسة الصدق والإستقامة هي سياسة الأقلين من عباقرة الإنسان، ولا حرج في ذلك ولا ضير ما دامت هذه السياسة متصلة بالدين صادرة عنه، ولا حرج في ذلك ولا ضير ما دامت هذه السياسة التي يقع اختيارها على الحسين هي سياسة محمد في دينه الناشيء ورسالته العلوية، ومن يكون سياسياً في هذه الدولة المحمدية المثلى إن لم يكن الحسين سداداً في الرأي، وقوة البصيرة، ونفاذاً الى الدخائل، ووصولاً الى اعماق الأمور.

لقد كان الحسين سياسياً، بل كان لابد من سياسته في مثل تلك الفترة التي اختلف فيها مهاب الرياح، واهتاجت خلالها اعاصير السياسة الزائفة، فأعصوصب الشر، وأوكب الطامعون بمنبر الإسلام يهدفون اليه من كل جانب في غير كفاية ولا سابقة، ولا سبب قريب أو بعيد، وفي مثل هذه الحال كان على رجل السياسة الصادقة ان يضع منكبه بين هذه المناكب المتدافقة، ويعلن عن موقفه هذا النحو من الإعلان الذي يضمن النجاح في كلتا الحالتين على نحو ما فعل الحسين (عليه السلام) من غير زيادة ولا نقصان.

وأراني وقد انتهيت الى هذه الخطوة – ملزماً بإيضاح معنيين يلتبس معناهما عند فئتين من الناس، وربما منيت من هذا الإلتباس بامتعاض هاتين الفئتين معاً لأن كلا من هاتين الطبقتين تنظر الى الحسين بعين لا تحاول ان تراه بغيرها، والحسين بطل لا تسمو اليه عين من حيث سمت إلاّ عادت ممتلئة بالجمال مبهورة بالنور.

أما أول المعنيين اللذين اعنيهما فمعنى السياسة. وقد قلت ان السياسة في زمن البعثة وفي الفترة الأولى بعد النبي كانت ذات معنى لا يتصل بالمعنى الذي نفهمه اليوم أو الذي كانت تفهمه الفلسفة الميكافيلية أو ما يوافقها من عمليات الأنحياز والخداع والكذب والحيلة، وإنما كانت السياسة التي ثقفها الحسين سياسة الصدق، وسياسة رجل السلطان والإصلاح في آن واحد، وأما ثاني المعنيين فمعنى الدين.

وأحب قبل أن اقربه وأجلوه أن نوقن بأن للدين سياسة بين السياسات، وبأن سياسة الدين هي السياسة الراجحة في موازين الضمير والمنطق والأريحية والمثالية الإنسانية.

ثم احب أن اقول..! إن الحسين إنما سمى لأنه رجل دين قبل ان يسمو بشيء آخر دون ذلك، فإذا لمع من أسم الحسين نور وعبقرية من عبقرياته الرفيعة فإنما هو وميض من هذه الشرارة الدينية التي تتلخص بها جوامع عبقرياته.

والإسلام هذا الدين الذي قتل في سبيله الحسين أهل لأن تذهب فيه مثل هذه الأضحية العظيمة الغالية، لأنه دين بنظمه وضماناته اسمى ما تتداعى اليه هذه النظم والضمانات المستحدثة التي تعد وتخلف، وتقول وتكذب، وتجتمع وتتفرق على منافعها الخاصة ومآربها الشخصية.

وفي الإسلام أصول هذه النظريات والمقررات التي يتداعى اليها اقطاب الأرض لينقذوا بكؤوسها العالم من هذه الحمى المستبحرة الهاذية التي تغلبهم اعراضها كلما تقدموا اليها بعلاج يظنون انه العلاج .

والدين - بعدئذ - لا يدل على رجعية ولا يمنع من تقدم ولا يحجر على فكر أو عقل أو حرية، بل الدين تقدم وأرتقاء وتحرر وانعتاق، والإسلام من الأديان بصورة خاصة هو ذلك بعينه، ولكن شوهه بعض المنتسبين اليه لوت حرف الدين في بعض الأذهان في غير محاكمة ولا تثبيت ولا رجوع الى مصادر هذا الدين المترعة الريا بما تشاء من طمأنينة واستقرار، ولو أعادوا النظر لرأوه في واقعه، وكما اراده النبي منهاج الحب منهاج الحياة واجداها الى ما تشاء من علم ومعرفة، ومن تهذيب وتربية، ومن طمأنينة ودعة، ومن ايثار وحب، ومن تعاون وبر، ومن عدالة ومساواة، ومن كل مطمح يرجوه طالب الحق، وطالب الخير، وطالب الإصلاح.

هكذا كان وهكذا سيظل دستوراً مادياً روحياً بهذا المزاج الرفيع لا تنفصل عنه سياسته بل تخرج من اعماقه صحيحة، صارمة حازمة.

اما ان الأحداث والمطامع حرفت السياسة وجعلت لها منطقاً دنيوياً أخضع الدين للأهواء والغايات فذلك خروج عنه، وأباء وتمرد كادوا يعكسان آيته ويردانه الى العصبيات الجاهلية، والشعائر القبلية، أو تجاوزانه – حين يرتقيان بالملك – الى شكل من اشكال الحكم القيصري، أو لون من الوان الملك الكسروي.

وقد كان الحسين في تلك الفترة بطل الدين ورافع لواء هذه السياسة فلو ذهبت تتقصى الأرض كلها لم تجد غيره سيداً للعرب يحرص على هذا الدستور الذي أخذ الدهر منه جوانبه فكاد أن يتصدع، وعلى فوز هذه السياسة التي نالت منها الشبهات فكادت أن تضمحل.

وانى لسياسي ألمعي من ساسة الصدق والأقلاء ان يبلغ من سياسته ما بلغ الحسين السياسي من ترتيبه الأحداث وهي تنشأ في أرحام الغيب كأنه يضعها بيده.

ما كان عصر الحسين يخلوا من الخبراء بل كان عصراً محتشداً بالدهاة ورجال الفكر والتجربة، وكانت احداث الدولة الطالعة بأمنيتها الكبرى تصنع من القادة ما أرهب العالم ورماها بالخوف والخشية من هذه الأمة التي أذلت كسرى وقيصر، وعصفت بدول حبك قواها التاريخ. فهل كان أولئك الدهاة والمفكرون كلهم الباً على الحسين لا يمدونه برأي فيما يقدم عليه في هذه المغامرة الفردة في تاريخ الحروب والخصومات..؟

لا..بل الذي علمنا من سيرة الحسين وتاريخ هذه الفترة ان نفراً غير قليل من ذوي الرأي والأمانة ، والاحتياط لسلامة السياسة العليا شاركوا الحسين وبادلوه الرأي وأشاروا عليه أن يبقى في الحجاز تارة، وأن يذهب الى اليمن أخرى، ولئن أشاروا عليه بهذا أو بذلك وترددوا في المكان الصالح للمناهضة فإنهم أجمعوا أن الكوفة بلد غادر خوان رغم هذه الأكداس من المواعيد.

ترى أكان هؤلاء مهتمين بالنصيحة..؟ أم كانوا قائلي الرأي ..؟ أم كان الحسين عليه السلام ساذجاً لا يقيم وزناً لهذه الآراء المؤيدة بالمرجحات الملحوظة..؟ أم أن الفكرة كانت متركزة في نفسه تركزاً لا يقبل العدول عنها الى ما يريده المستشيرون.

لا لم يكن شيء من هذا وانما كانت خطته. خطة السياسي الذي يسمو عن الآراء ويتقدم في الحوادث، ويقتحم المستقبل فيرى الى النتائج في سجلها المقدر المكتوب ولم تكن الأدلة الحسية كافية لإقناع هؤلاء المشيرين بأنه على صواب وانهم على خطأ لذلك كان يجيب فيجمل الجواب، ويلاحظ فيجمل الملاحظة، ويتكل في بيان ادلته على الحوادث التي عهدها واستعجلها بمعرفته للعواقب المحتومة المبنية على مقدماتها الصحيحة فإذا سأله أبن أبيه محمد – وقد طلب اليه ان يختار اليمن- الم تعدني النظر فيما سألتك ..؟ قال: بلى..، فيقول محمد: فما حداك على الخروج عاجلاً..؟ فيقول: شاء الله أن يراني قتيلاً، يقول محمد: فما معنى حملك هاته النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال..؟ يقول: قد شاء الله أن يراهن سبايا.

وما نرى في هذا الجواب غير ذلك الإجمال الجميل من سياسته المقدرة المدبرة التي حاكمت الفئة السائدة يومئذ فلم تجد إلاّ أن يرى شهيداً وترى نساءه سبايا ذلك هو العلاج الذي لا معدى عنه لمبتغي الإصلاح، ورائدي الخير لأمة تكاد تنفصل عن عهد الرسالة على قربها منه واتصالها به.

وله فيما يتصل بذلك كلمة أرسلها الى بني هاشم يقول فيها ((أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح)).

أي فتح هذا الذي يعدهم به بعد أن يحكم على الملتحقين به بالموت..؟.

إنه فتح الشهادة التي نصرت الحسين بعد الموت فرفعت الغشاوة عن الحكم الأموي ثم نسفته نسفاً، واعلنت عن الحق الذي قضي الحسين في سبيله فعلت كلمة الإسلام واستقرت قواعده العالية.

على أن الحسين حين كان يجمل كلامه أو يختصر أجوبته وهو في سبيل هذه الشهادة كان يعلن أنه مقتول وأنه خارج ليقتل وبهذا كان الساسة المفكرين من أهل المشورة قبل ان يشيروا عليه بما يحفظ مهجته به الى السلامة، لأن سياسة الصدق التي كان بطلها الأوحد كانت تفرض عليه الشهادة وما هو محتاج الى غير ذلك لأنه لم يكن يطلب زعامة لا ينكرها عليه أحد، ولم يكن يطلب ما لا كان يبذله للحفاة والمحتاجين، ولم يكن يطلب ملكاً دنيوياً هو غني عنه بما انقاد اليه من هذه الزعامة العربية الإسلامية المطلقة، ولكنه كان يطلب وكانت تطلب له سياسة الصدق شيئاً واحداً هو أن يموت.

ولم يكن يطلب وتطلب له سياسة الصدق الموت إلاّ لأنه الحياة، حياة هذا الدين العظيم ذلك هو الحسين السياسي الذي اتاح للدنيا أن تعرف الاسلام وتعظمه، وذلك هو الحسين السياسي الذي وقف للسيل في منحدره المندفع فرده قادراً قوياً غير مستضعف ولا واهن.

سلام الله عليك أبا عبد الله فهب لنا من روحك هذا العظيم شجاعة تتبختر بنا على مهاد التضحية والإيثار، وفضاء يحملنا على أجنحة الإيمان والإعتداد فنحن من حيواتنا الأدبية والإجتماعية والسياسية في مهاب الريح بل الدنيا كلها تستقبل اليوم ما كنت تستقبله من يزيد وبني سمية والزرقاء.

فتنة وغرور، وتكالب وما شيء غير المنفعة الخاصة يستدنيه افراد هذا الزمان وجماعاته وشعوبه وأقطابه فهب لنا من روحك هذا العظيم شجاعة تتبختر على مهاد التضحية والإيثار وفضاء يحملنا على أجنحة الإيمان والإعتداد، وليعد روحك هذا العظيم مرة أخرة لنحي به من جديد.

إرسال تعليق