أسرار الشهادة


بقلم: أحمد رضا، عضو المجمع العلمي بدمشق

تعود عاشوراء من المحرم كل عام وتعود معها ذكرى الفاجعة الكبرى فاجعة كربلا تلك التي لم يخلقها كرور الأزمان ولا تعاقب الأجيال والأعوام وإن في ميدان هذه الوقعة فئتين.

فئة تقاتل في سبيل الحق وفي سبيل المبدأ الصالح والتعاليم الفاضلة التي بني عليها الإسلام وبها علت كلمته وبه عز سلطانهم وبه كان العرب أمة فوق الأمم وبه محو تلك الظلمات الداجية ظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة العصبيات القبلية الممقوتة التي فرقت كلمة العرب وجعلتهم عبابيد ومزقتهم كل ممزق تسيل دماؤهم وتفنى رجالهم لأجل عش قبرة أو سبق فرس تلك العصبيات التي يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها (ليس فينا من دعا إلى عصبية).

قامت هذه الفئة إلى جهادها لما رأت أن المعروف لا يؤمر به والباطل لا يتناهى عنه على قلة العدد وخذلان الناصر بقلوب ملؤها الإيمان والتضحية وإنكار الذات والعمل لخير الإنسانية وتهذيبها ونصرة المبدأ النافع والعقيدة الصالحة تقدم على الموت الزؤام وفناء الأجسام بل على التمثيل بها أشنع المثلات وعلى هتك الحرمات عالمة بأن ذلك كائن لا محالة ولكن قليل في جنب نصرة الحق حتى لم يكن لهم غيره غاية وراضوا أنفسهم على محاربة الطغيان فلم يبق له عليهم سلطان لا يبالون بالقوة القاهرة الظالمة مهما عظمت لأن إيمانهم أعظم وأثبت من كل قوة في نفوسهم وتضحياتهم أرسخ من كل خلق تمكن منهم.

وفئة أخرى تقاتل في سبيل الدنيا وباطل نعيمها ليبلغوا مدى أحقادهم ويعتزوا أياماً تمر كأنها أحلام في سلطانهم لم يؤثر فيهم تهذيب الهدى الإسلامي أثره لأنه لم يتجاوز حناجرهم ولم يدخل حنايا قلوبهم وقد كان لهم في الجاهلية الجهلاء شيء من السلطان على بلد مجدب وعشائر جمعوها حولهم بحكم العصبية الجاهلية القبلية التي نهى عنها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي التي فرقت شمل العرب وأخمدت ذكرهم بين الأمم – كان لهم ذلك- فإذا هم بعد هذا في سلطان واسع ونعمة كانوا فيها فاكهين وقديماً احرزوا بعض السلطة بالتفريق والعصبية فما بالهم لا يرجعون الى طريقتهم الأولى ( فرق تسد) وهم إنما دخلوا في الإسلام كرهاً بعد أن علا أمره وغلبت كلمته فليس لهم سابقة ولا قدم صالح فيه فكيف يثبت لهم الأمر..؟!

ما برحت نفوسهم تلك البغضاء لولا الحق فكانوا يريدون هدم الهاشميين بإعزاز هذا الدين ليضعفوا أثره في النفوس فيستأثروا بالسلطان.

ينهض أبو سفيان بن حرب يوم بويع أبو بكر يحرض ويحرش ويفرق فلم يسمع له صوت والدين لا يزال غض الأهاب.

ويقوم شاعرهم ليلقي الفتنة بين المهاجرين والأنصار يومئذ وفي تآلفهم كان عز المسلمين ونصرتهم فيخفت صوته بقوة إيمان الهداة المصلحين.

ولا يلبث أبو سفيان يوم بويع عثمان أن يقول تلقفوها يا بني أمية فوالذي بيده نفس أبو سفيان لاجنة ولا نار.

ويعمل مروان بن الحكم طريد رسول الله وهو مدير أمور الخلافة في زمن عثمان في جلب الفتنة والشر بين المسلمين.

ويقوم بعد ذلك معاوية بإنتهاج هذا السبيل بدهاء وخداع بلغ بهما الغاية حتى إذا ولي يزيد فنفذ حكم اسرته وجاهر بأمجاده وهو يقول.


لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل 

انصرفت وجوه الناس يومئذ عن الاستمساك بعروة الدين الى العصبيات فهاجت العصبية بين اليمن ومضر ولكل حزب يفخر بقومه ويهجو الآخرين.

وقام الأمويون وشاع في دولتهم احتقار كل من دخل الإسلام من الأعاجم ليبعدوهم عن هذا الدين فكان من ذلك نشأة الشعوبية في الإسلام وكانت أول هادم لسلطان العرب هذه هي الفئة الثانية التي وقفت في كربلاء مقابلة للفئة الأولى.

قامت هذه الفئة لحرب كربلا وقد.
ملأوا الفضاء على ابن فاطمة **** جنداً وملء قلوبهم ذحل

قامت بألوف مؤلفة وجيوش محتشدة وبعوث متتابعة وعدة وعديد في قبالة مائة مجاهد ليس لهم سلاح أقوى من الإيمان يصرعون بطلاً بعد بطل تفيض وجوههم سروراً بالموت مما عرفوا من الحق لا يعتريهم هلع ولا جزع بعد أن باعوا نفوسهم لله وللحق يوفون ببيعتهم ويستبشرون بصفقتهم الرابحة.

حصروهم في رقعة من الأرض بغير وزر ومنعوهم المناعة لتضعف قوتهم وتنهك جسومهم بحر العطش ولكنهم لم يصرعوا حتى صرعوا أضعاف عددهم من القوم الظالمين وحتى طلب ابن سعد النجدة من ابن زياد.

ثم لم يشف اضغانهم أن أفنوهم عن آخرهم وقتلوا الأطفال حتى سبوا النساء الفاطميات مسلبات على الأقتاب العارية من العراق الى الشام.

فما كانت العاقبة…؟

إن الفئة ذات القوة والسلطان القاهر تمكنت من الغلبة لامن النصر والنصر آخر ما يفوز به المحارب.

كانت هذه المعركة وهذا العمل الفظيع من أقوى الأسباب التي ذهبت بسلطان بني أمية ولو بعد حين.

ولم يلبثوا أولئك الذين اتبعوا ناعقهم وتبادروا لنصرتهم واشتروا الضلالة بالهدى والدنيا بالدين والعاجل بالآجل لما برق لهم الطمع فاستحفظوا اليه موجفين. أن تشتت شملهم ولعبت بهم سيوف التوابين ورجال المختار بن أبي عبيدة وقامت عليهم قيامة الأمة تلقنهم وتتبرأ منهم ولم يتمتع عمر بن سعد بملك الري الذي اغروه به ولا انتفع ابن زياد بملك العراق الذي حرص عليه وقتل مذموماً مدحوراً وهكذا شأن كل من ساعد وعاون على باطل القوم.

وكان أمر أولئك المجاهدين الصابرين أنصار الحسين أن علا شأنهم وكانت لهم الدرجات العلى في الآخرة والدنيا والذكر المقرون بالإعجاب والإكبار والإعظام بل أمثولة يحتذيها كل طالب للحياة الصالحة الحياة الدائمة وهي حياة الروح.

ألا ان قتلى الطف من آل هاشم **** تأسوا فسنوا للكرام التآسيا

وهكذا تكون سيرة كل شهيد في سبيل الحق {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}.


وإنما المرء حديث بعده **** فكن حديثاً حسناً لمن روى

إرسال تعليق