في المحاسبة والمراقبة وأثرهما على تقويم السلوك والأخلاق

بقلم: السيد عبد الله شبر، تحقيق شعبة التحقيق في قسم الشؤون الفكرية

الفصل الأول: في المحاسبة


قال الله تعالى: ((وكَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ حَسِيبًا))[1] وقال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ))[2] وقال تعالى: ((وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىَ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))[3] وقال تعالى: ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[4] وقال تعالى: ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتًا لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ))[5].

فعلم أرباب البصائر أن العليم بالسرائر والمطلع على الضمائر سيحاسبهم على الصغير والكبير والجليل والحقير والنقير والقطمير، وعلى مثاقيل الذر من اللحظات والخطرات والغفلات والالتفاتات، ولا ينجيهم من هذه الأخطار العظيمة والأهوال الجسيمة إلا محاسبة أنفسهم في الدنيا قبل أن يحاسبوا في القيامة.

قال الصادق عليه السلام: إذ أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله[6]، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا عليه السلام[7]: ((فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))( [8].[9]

وفي رواية أخرى: ينبغي أن يكون للعاقل أربع ساعات: ساعة يحاسب بها نفسه...[10].

وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام: لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله عزّوجل وفضيحة هتك الستر على المخفيات يحق للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي الى عمران، ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس، ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة، كأنه الى عرصاتها[11] مدعو وفي غمراتها[12] مسؤول، قال الله عزّوجل: ((وَإِن كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ))[13].[14]

واعلم أن معنى المحاسبة أن يطالب نفسه أولاً بالفرائض التي هي بمنزلة رأس ماله، فإن أدتها على وجهها شكر الله عليه ورغبها ومثلها، وإن فوتتها من أصلها طالبها بالقضاء، فإن أدتها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل، وإن ارتكبت معصية اشتغل بعتابها وتعذيبها ومعاقبتها، واستوفى منها ما يتدارك به ما فرط، كما يصنع التاجر بشريكه، فكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط[15] فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن بشيء منها، فينبغي أن يتقي غائلة[16] النفس ومكرها، فإنها خداعة ملبسة مكارة، فليطالبها أولاً بتصحيح الجواب عن جميع ما يتكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتولى غيره في صعيد القيامة.

وهكذا عن نظره، بل عن خواطره وأفكاره وقيامه وقعوده وأكله وشربه ونومه، حتى عن سكوته لم سكت وعن سكونه لم سكن، فإذا عرف مجموع الواجب على النفس وصح عنده قدر ما أدى الحق منه كان ذلك القدر محسوباً له، فيظهر له الباقي عليها، فليثبته عليها وليكتبه على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي الذي على شريكه على قلبه وعلى جريدته.

ثم النفس غريم[17] يمكن أن يستوفى منه الديون، أما بعضها فبالغرامة والضمان وبعضها برد عينه، وبعضها بالعقوبة له على ذلك، ولا يمكن شيء من ذلك إلا بعد تحقيق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه، فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالب والاستيفاء[18].

قال الكاظم عليه السلام: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله[19] وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه[20].

وقال الباقر عليه السلام: لا يغرنك الناس[21] من نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك فأحسن[22] فإني لم أر شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدثة لذنب قديم[23].

وقال الصادق عليه السلام: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا رسول الله أوصني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل أنت مستوص إذا أنا أوصيتك؟[24] حتى قال له ذلك ثلاثاً وفي كلها يقول له الرجل: نعم يا رسول الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإني أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه، وإن يك غياً فانته عنه[25].


الفصل الثاني: في المراقبة


ينبغي للعبد أن يراقب نفسه عند الخوف في الأعمال، ويلاحظها بالعين الكالئة، فإنها إن تركت طغت فأفسدت وفسدت، ثم يراقب الله في كل حركة وسكون، وذلك بأن يعلم بأن الله مطلع عليه وعلى ضمائره خبير بسرائره، رقيب على أعمال عباده، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أشد من ذلك، قال الله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّهَ يَرى))[26] وقال تعالى: ((إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[27].

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك[28].

وفي الحديث القدسي: إنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت أصلابهم من خشيتي، وعزتي وجلالي إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب[29].

وحكي أن زليخا[30] لما خلت بيوسف قامت فغطت وجه صنمها، فقال يوسف: ما لك تستحين من مراقبة جماد ولا أستحي من مراقبة الملك الجبار[31].

والمراقبة تحصل من معرفة الله ، والعلم بأنه تعالى مطلع على الضمائر عالم بما في السرائر، بمرأى منهم وبمسمع، وهم بمرأى منه ومسمع.

والموقنون بهذه المعرفة مراقبتهم على درجتين:

إحداهما: مراقبة المقربين، وهي مراقبة التعظيم والجلال، وهي أن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة ذلك الجلال ومنكسراً تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير، وهذا هو الذي صار همه هماً واحداً وكفاه الله سائر الهموم.

والثانية: مراقبة الورعين من أصحاب اليقين، وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظواهرهم وبواطنهم ولكن لم يدهشهم ملاحظة الجمال والجلال بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت الى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون[32] إلا بعد التثبت، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة، فإنهم يرون الله مطلعاً عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.
فإن العبد لا يخلو إما أن يكون في طاعة أو معصية أو مباح. فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات، ومراقبته في المعصية بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتكفير، ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب، بأن يقعد مستقبل القبلة وينام على اليد اليمنى مستقبلاً الى غير ذلك، فكل ذلك داخل في المراقبة. وبشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها، وبالصبر على البلاء، فإن لكل واحد منها حدوداً لابد من مراعاتها بدوام المراقبة «ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه»[33].[34]

ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الإسراء/ 17. ونصها: ((إقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)).

[2] سورة الأنبياء/ 47.

[3] سورة الكهف/ 49.

[4] سورة المجادلة/ 36.

[5] سورة الزلزلة/ 6 ــ 8.

[6] في مجموعة ورام: "الله عزّوجل".

[7] ليس في مجموعة ورام: "عليه السلام".

[8] سورة المعارج/ 4.

[9] مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 2/ 145 ــ 146.

[10] أنظر: روضة الواعظين، الفتال النيسابوري:1/4، مجلس في ماهية العقول وفصولها.

[11] العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. العرصات: جمع عرصة، وقيل: هي كل موضع واسع لا بناء فيه. لسان العرب، ابن منظور: 7/ 52 ــ  53، مادة "عرص".

[12] الغمرة: الشدة. وغمرة كل شيء: منهمكه وشدته كغمرة الهم والموت و نحوهما. لسان العرب، ابن منظور: 5/ 29، مادة "غمر".

[13] سورة الأنبياء/ 47.

[14] أنظر:مصباح الشريعة،الإمام الصادق عليه السلام:85، الباب الثامن والثلاثون في الحساب.

[15] القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشر في أكثر البلاد. مجمع البحرين، الطريحي: 3/ 489، مادة "قرط".

[16] كل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول. يقال: غالته غول، إذا وقع في مهلكة. الصحاح، الجوهري: 5/ 1786، مادة "غول".

[17] الغرم: الدين. رجل غرم: عليه دين. لسان العرب، ابن منظور: 12/ 436، مادة "غرم".

[18]  أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 303 ــ 305، الباب الثاني المحاسبة والمراقبة. جامع السعادات، النراقي: 3/ 101 ــ 102، مقامات مرابطة العقل للنفس. إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/ 351 ــ 353، كتاب المراقبة والمحاسبة.

[19] في إرشاد القلوب: "الله عزّوجل".

[20] إرشاد القلوب، الديلمي: 1/ 182، في الحكم والمواعظ، الباب الحادي والخمسون في أخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار.

[21] في الكافي: "يا أبا النعمان لا يغرنك  الناس".

[22] في الكافي: "وأحسن".

[23] الكافي، الكليني: 2/ 454، كتاب الإيمان والكفر، باب محاسبة العمل/ ح3.

[24] في الكافي: "إن أنا أوصيتك".

[25] الكافي، الكليني: 8/ 150، كتاب الروضة، حديث من ولد في الإسلام/ ح5.

[26] سورة العلق/ 14.

[27] سورة النساء/ 1.

[28] أنظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 11/ 203، بيان أحوال العارفين.

[29] المحجة البيضاء،الفيض الكاشاني:8/ 156،كتاب المراقبة والمحاسبة،المرابطة الثانية المراقبة.

[30] زليخا: هي زليخا، وقيل: زلخا، وقيل: راعيل، وقيل: فكة بنت ملك المغرب هيموس، وقيل: رعاييل، وقيل: بوش، وأمها أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر. (زوجة قطفير، وقيل: أطفير، وقيل: هو طيفار بن رجيب وزير ملك مصر، وكان يلقب بالعزيز، وهي تعرف بامرأة العزيز. تزوجها (النبي يوسف عليه السلام) وكانت قد تقدم بها السن، فطلبت منه أن يسأل الله أن يرد عليها شبابها وصباها، فطلب يوسف عليه السلام ذلك من الله سبحانه، فرد الله عليها شبابها وجمالها. أنجبت له ولدين : أفرايم ومنشا.

أعلام القرآن، عبد الحسين الشبستري: 401 ــ 402، زليخا.

[31] أنظر: مجموعة ورام، ورام بن أبي فراس: 1/ 236، باب محاسبة النفس.

[32] الإحجام: ضد الإقدام. أحجم عن الأمر: كف أو نكص هيبة.

لسان العرب، ابن منظور: 12/ 116، مادة "حجم".

[33] سورة الطلاق/ 1.

[34] أنظر: المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني: 8/ 156 ــ 162، كتاب المراقبة والمحاسبة، بيان حقيقة المراقبة ودرجاتها. الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 306 ــ 307، الفصل الثاني مراقبة العبد لنفسه. جامع السعادات، النراقي: 3/ 97 ــ 100، فصل مقامات مرابطة العقل للنفس. إحياء علوم الدين، الغزالي: 4/ 346 ــ 351، كتاب المراقبة والمحاسبة، بيان حقيقة المراقبة ودرجاتها.

إرسال تعليق