دور مدرسة المدينة في تطور علم السيرة

بقلم: السيد نبيل الحسني

يمكن لنا أن نستظهر من خلال الفترة التي أعقبت استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وحتى نهاية القرن الأول الهجري وجود حالة من السبات لتطور علم السير والمغازي، أي أن هذه الستين سنة لم تشهد حركة متميزة لتطور علم السيرة.

والسبب في ذلك يعود إلى الأوضاع الخطيرة التي عصفت بالإسلام ابتداء من الكوفة حيث شهدت استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام وما تبعه من استظهار لدولة معاوية بن أبي سفيان التي شهدت تتبعا لحملة العلوم وتصفيتهم جسديا أو فكريا فتمت تصفية الصحابة الذين شايعوا علي بن أبي طالب عليه السلام كحجر بن عدي الكندي وأصحابه[1]، وقتل الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام مسموماً، وعمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر، ثم توليته ولده يزيد للحكم الذي جهز الجيوش، وأمر بقتل الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، وأهل بيته سنة 61هـ، ثم ما تبع هذه الفاجعة من ظلام وجهل وسبات لجميع العلوم التي يمكن لنا أن نتصور آثارها المدمرة من خلال بعض الروايات التي شهدت هذه الأجواء.

1 ــ فقد روي: (إن الناس في زمن الإمام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام المتوفى سنة 95هـ، كانوا لا يعرفون كيف يصلون، ولا كيف يحجون)[2].

2 ــ أخرج أحمد بن حنبل، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب فقلت من أغضبك.

فقال: (والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا)[3].

3 ــ ومما روي أيضا في آثار نشوب الحرب بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان: إن عبد الله بن الزبير منع أهل الشام من القدوم إلى مكة لتأدية فريضة الحج.

فقام عبد الملك بن مروان بردٍ على هذه الخطوة أن أمر ببناء قبة فوق صخرة بيت المقدس ــ عوضا وبديلا عن الحجر الأسود والكعبة المشرفة ــ ثم أمر المسلمين بالذهاب إلى بيت المقدس لتأدية الحج فطافوا حولها، ونحروا يوم العيد، وحلقوا رؤوسهم[4].

4 ــ وخير وصف لهذه المرحلة التي أعقبت عاشوراء عام 61هـ ما روي عن الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو يبث شكواه إلى ربه تعالى، قال عليه السلام:

«وكيف بهم وقد خالفوا الآمرين؟ وسبقهم زمان الهادين، ووكلوا إلى أنفسهم، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات»[5].

«وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة بعد مفارقتها أئمة الدين، وشجرة النبوة، إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتغالوا في العلوم، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاتهم، وتحلوا بأحسن السنة، حتى إذا طال عليهم الأمد، وبعدت عليهم الشقة، وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى وعلم النجاة»[6].

«وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوه بآرائهم، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب ولا أثرة علم من مظان العلم، بتحذير مثبطين وزعموا أنهم على الرشد من غيرهم.

وإلى من يفزع خلف هذه الأمة!؟ وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا والله تعالى يقول:

((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))[7].

فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة؟ وتأويل الحكمة؟ إلا إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتج بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة.

هل تعرفونهم؟ أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وبرأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب، هم العروة الوثقى، وخير حبال العالمين وثيقها»[8].

فهذه الأسباب وغيرها فرضت حالة من السبات على تطور علم السيرة في مدرسة الكوفة والمدينة، وحينما نقول (حالة من السبات) فهذا يعني توجه مدرسة أهل البيت عليهم السلام واهتمامها بالعلوم القرآنية والحديث والفقه والعقائد لأهميتها ولخطورة المرحلة التي كانت الأمة الإسلامية تمر بها.

ولكن هذا لا يعني العزوف عن دفع علم السيرة إلى الأمام، وإلى خلق نماذج متميزة وفاعلة في حركة علم السيرة وتطوره، فكان عمل مدرسة أهل البيت عليهم السلام ممثلا بثلاثة من أئمة العترة النبوية وهم (الإمام زين العابدين، والإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام) في إرجاع المسلمين إلى سنة رسول الله وشريعته وإلى هديه وسيرته فأخذوا يروون لهم كل ما له علاقة بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا هذه المدرسة لما عرف الناس شيئا عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الإمام الباقر عليه السلام:

«بَلِيَّةُ النَّاسِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ إِنْ دَعَوْنَاهُمْ لَمْ يستجِيبُو لنَا وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِغَيْرِنَا»[9].

ولذا: نجدهم عليهم السلام قد أسسوا المدارس وعلموا الناس العلوم المختلفة، ويكفي من الشواهد على ذلك مدرسة الإمام الصادق عليه السلام في الكوفة التي احتوت على أكثر من (4000) شيخ، أدرك منهم حسن الوشاء تسعمائة رجل كل يقول حدثني جعفر بن محمد[10].

كما يمكن للباحث أو القارئ الاطلاع على كتب مدرسة أهل البيت عليهم السلام كـ(بحار الأنوار للمجلسي رحمه الله) الأجزاء المتعلقة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفة دور أئمة أهل البيت عليهم السلام في حفظ علم السيرة وتطوره ولاسيما الكم الهائل في الروايات التي نقلها الرواة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهذا يكشف عن دور الأئمة الثلاثة في نهوض مدرسة المدينة والكوفة.

وعليه: يمكن لنا أن نسجل هنا بعض الأسماء التي اهتمت برواية المغازي والسير أو تدوينهما خلال القرن الأول والثاني للهجره والتي أسهمت في نشأة علم السيرة النبوية وتطوره.

أولا: دور مدرسة أهل البيت عليهم السلام في تعليم ونشر العلوم الشرعية، فضلاً عن علم المغازي والسير


أشارت بعض الدراسات التاريخية[11] إلى أن أهمية مدرسة المدينة تكمن في تصدّرها التخصص في علم التاريخ، وعُزي ذلك إلى بعض الأسباب:

1 ــ إن المدينة كانت عاصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والخلفاء من بعده.

2 ــ إنها مركز تجمع الصحابة.

3 ــ إنها البلد الأساس للدين الجديد صاحب الدولة والفتوح.

ثم أشارت هذه الدراسة إلى أن السبب في توجه المسلمين إلى مدرسة المدينة هو احتياجهم إلى (معرفة أوسع بالدين وصاحب الرسالة وبالأحكام والحديث والسنن والتفسير وأحاديث الدعوة الإسلامية الأولى وتفاصيل الهجرة والمغازي وقد تصدى لإيضاح ذلك أبناء الصحابة أنفسهم خاصة)[12].

ثم تذهب هذه الدراسة إلى (أن مؤسس المدرسة العلمية لمختلف فروع العلم في المدينة هو عبد الله بن عباس).

وكان قد ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث عشرة سنة، وتوفي سنة 78 بالطائف، وكان أبرز فقهاء المدينة، وأوسعهم إطلاعا وعلما، وكان يسمى البحر لا لكثرة علمه في الفقه فحسب، ولكن في الأخبار الماضية أيضا، والنسب، بجانب الشعر واللغة وتفسير القرآن والحساب والفرائض.

وقد روى ابن سعد في الطبقات: (إن عبد الله بن عباس كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه ويوما التأويل ويوما المغازي، ويوما الشعر ويوما أيام العرب)[13].

وهذه الدراسة وإن كانت أنصفت ابن عباس رحمه الله إلا أنها لم تنصف أستاذه ومعلمه ومصدر علمه وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي لزمه ابن عباس أكثر من نصف قرن.

وخير ما يستدل به العاقل على مستوى الطالب العلمي هو وثيقة تخرجه أو حديثه هو عن معلمه، والمدرسة التي تعلم بها ونهل علومه منها، وفي هذا الصدد فإن عبد الله بن عباس رحمه الله له رأي آخر غير الذي جاءت به الدراسة وذلك من خلال الروايات الآتية:

1 ــ روى الشيخ المفيد رحمه الله، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: (سمعت رجلا يسأل عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له ابن عباس: إن علي بن أبي طالب صلى القبلتين وبايع البيعتين، ولم يعبد صنما، ولا وثنا، ولا يضرب على رأسه بزلم ولا قدم، ولد على الفطرة، ولم يشرك بالله طرفة عين.

فقال الرجل: إني لم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن حمله سيفه على عاتقه يختال به حتى أتى البصرة فقتل بها أربعين ألفا، ثم سار إلى الشام فلقي مواجب العرب فضربهم ببعض حتى قتلهم، ثم أتى النهروان وهم مسلحون فقلتهم عن آخرهم؟.

فقال ابن عباس: علي أعلم عندك أم أنا؟.

فقال: لو كان علي أعلم عندي منك لما سألتك!.

قال: فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه، ثم قال: ثكلتك أمك علي علمني، كان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمه الله من فوق عرشه، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلم علي من النبي، وعلمي من علم علي وعلم أصحاب محمد كلهم في علم علي عليه السلام كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر)[14].

2 ــ وروى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم، عن عبد الله بن عباس، قال: (والله لقد أعطى علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر)[15].

3 ــ وروى طاووس عنه أيضا قال: (كان علي والله قد ملئ علما وحلما)[16].

4 ــ وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به)[17].

أما ما روي من شهادات في رجوع مدرسة المدينة إلى معلمها الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكثيرة هي، منها:

ألف ــ علمه عليه السلام بالسنة


عن جابر، عن عائشة زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: من أفتاكم بصوم عاشوراء؟.

قالوا: علي.

قالت: أما إنه أعلمكم بالسنة[18].

باء ــ علمه عليه السلام بالفرائض


عن سعيد بن وهب قال: قال عبد الله بن مسعود: (أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب عليه السلام)[19].

جيم ــ علمه عليه السلام بالقرآن


عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن)[20].

دال ــ علمه عليه السلام بالقضاء


عن ابن أبي ملكية، عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: (علي أقضانا)[21]، وفي لفظ آخر أخرجه البخاري عنه، أنه قال: (أقرؤنا اُبي، وأقضانا علي)[22]، وقد اشتهر عنه قوله: (لولا علي لهلك عمر)[23].

هاء ــ علمه عليه السلام بجميع العلوم


1 ــ عن الأسود بن يزيد النخعي، قال: لما بويع علي بن أبي طالب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر:


إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتنْ

وجدناه أولى الناس بالناس انه *** أطب قريش بالكتاب وبالسننْ[24]



2 ــ ذكر ابن عبد البر: أن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: قلت لعبد الله بن عياش بن أحمد بن أبي ربيعة، يا عم لم كان صفو الناس إلى علي؟.

قال: يا ابن أخي إن عليا عليه السلام كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشرة، والقدم في الإسلام، والصهر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفقه في السنة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون.

3 ــ وذكر ابن عبد البر أيضا: أن معاوية بن أبي سفيان كان يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب عليه السلام فلما بلغه قتله قال: (ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب).

فقال له عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام.

فقال له معاوية: دعني عنك[25].

واو ــ شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له في حيازة العلوم كافة


ويكفي الباحث في الدراسات التاريخية وغيرها من الأدلة على أن مؤسس مدرسة المدينة لمختلف العلوم ومعلمها أن يرجع إلى شهادة سيد الأنبياء والمرسلين ومعلم الإنسانية الأول صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فقال:

1 ــ أخرج أحمد بن حنبل من حديث معقل بن يسار، أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال لابنته فاطمة عليها السلام:

«أما ترضين أنّي زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما»[26].

2 ــ سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن علي عليه السلام؟.

فقال:

«قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء، والناس جزءا واحدا»[27].

ناهيك عن حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فلْيأتِ الباب)[28].

وقوله عليه السلام عن نفسه:

«علمني رسول الله ألف باب من العلم»[29].

ثانياً: دور مدرسة الصحابة في حيرة الناس في معرفة دينهم! ونفي! وتعذيب من يسأل عن دينه!!


أما ما ذهبت إليه الدراسة التاريخية في بيانها للأسباب التي دفعت المسلمين بالتوجه إلى مدرسة المدينة دون غيرها من المدارس هو (لاحتياجهم إلى معرفة أوسع بالدين وصاحب الرسالة وبالأحكام والحديث والسنن والتفسير وأحاديث الدعوة إلى الإسلام الأولى وتفاصيل الهجرة والمغازي، وقد تصدى لايضاح ذلك أبناء الصحابة أنفسهم خاصة)[30].

فإن الشطر الأخير ليس بدقيق، والسبب في ذلك يعود إلى امتناع أكثر الصحابة عن الفتيا، كما صرح البعض بذلك، وحسبك من هذه الحقية المؤلمة ما يلي:

1 ــ عن عطاء بن السائب قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إذا سُئل أحدهم عن المسألة أحب أن يكفيه غيره[31].

2 ــ وذكر الدارمي عن داود، أنه قال: سألت الشعبي كيف كنتم تصنعون إذا سُئلتم؟ قال: على الخبير وقعت كان إذا سُئل الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول[32].

فهذا هو حال الصحابة في تعليم الناس وإرشادهم إلى أمور دينهم.

أما حال من يقدم للمدينة من المسلمين لكي يتعلم ويسأل عن أمور دينه فان حاله يرثى له، بل إنه ليحرم على نفسه ألا يعود إلى المدينة حتى يلقى ملك الموت!!؟ كما دلت عليه الحادثة الآتية:

أخرج الدارمي في سننه عن سليمان بن يسار: (أن رجلا قدم المدينة يقال له ضبيع ــ وهو من أهل البصرة ــ فجعل يسأل عن تشابه القرآن، فأرسل إليه عمر ــ بن الخطاب ــ فأعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟.

قال: أنا عبد الله، ضبيع. قال: وأنا عبد الله، عمر.

فضربه حتى دمى رأسه، فقال ــ ضبيع ــ: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة)[33].

وعن سعيد بن المسيب: (فأمر به عمر فضرب مائة سوط، فلما برئ دعاه فضربه مائة أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى: حرّم على الناس مجالسته)[34]. وذكر السائب بن يزيد: (وكتب ــ عمر ــ إلى أبي موسى، يأمره أن يحرم على الناس مجالسته، وإن يقوم في الناس خطيبا، ثم يقول: إن ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه.

فلم يزل ــ الرجل ــ وضيعا في قومه حتى هلك)[35]!.

إذن: إذا كان هناك دور لمدرسة المدينة المنورة في نشر العلوم المختلفة، ولاسيما علم المغازي والسير فإنها قد اكتسبته ــ أي: هذا الدور ــ من خلال مدرسة أهل البيت عليهم السلام والتي كانت لها منهجية خاصة في تعليم المسلمين العلوم الدينية والطبيعية ونشرها؛ إذ تعتمد هذه المنهجية على تثقيف الناس على طلب العلم وتعليمه مع بسط في البيان وعمق في المعرفة، وهي مع ذلك تولي طلابها عناية خاصة ممثلا في تكريمهم والاهتمام بأحوالهم وحثهم على المشاركة وطرح الأسئلة، مستندين في ذلك إلى تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

1 ــ فقد أوصى صلى الله عليه وآله وسلم أحد طلاب هذه المدرسة بقوله:

«يا أبا ذر، لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة»[36].

2 ــ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب له بكل قدم عبادة سنة»[37].

3 ــ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«طالب العلم حبيب الله»[38].

4 ــ وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

«إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم من شيعتنا»[39].

5 ــ وقال الباقر عليه السلام:

«ما من عبد يغدو في طلب العلم أو يروح إلاّ خاض الرحمة وهتفت به الملائكة: مرحبا بزائر الله، سلك من الجنة مثل ذلك السالك»[40].

وغير ذلك من الأحاديث التي تظهر منهاج أئمة العترة عليهم السلام في تعليم العلوم المختلفة ونشرها ولاسيما علم المغازي والسير سواء كان هذا العلم ظهر في المدينة أو الكوفة إلاّ أن الحرب التي أعلنت على أهل البيت عليهم السلام منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والهجمات التي تلقتها هذه المدرسة مع طلابها حالت دون ظهور أسماء الذين رووا أو صنفوا في السير والمغازي، هذا فضلاً عن أن الذين تصدوا لرواية والسيرة النبوية ونشرها في مدرسة أهل البيت عليهم السلام هم أئمة العترة ابتداءً من الإمام علي عليه السلام وإلى الإمام الثاني عشر عليهم السلام؛ بل لولا هذه السيرة التي نقلها أئمة أهل البيت عليهم السلام لما استطاع القارئ ان يميز بين الصحيح والسقيم مما كتبه المخالفون لمدرسة العترة النبوية.

وعليه: فإننا سنورد أسماء الذين رووا أو دونوا في السير والمغازي في المدارس الإسلامية الأخرى خلال القرن الأول للهجرة والذي يعرف بالعصر الأموي دون الإشارة إلى ذكر أسماء أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن روى عنهم؛ لكثرة ما روي عنهم في هذا الصدد. لاسيما وان العلامة المجلسي قد أفرد لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موسوعة البحار البالغة (111) جزءاً ــ أفرد ــ ثمانية أجزاء مما يتعذر علينا فرز الأحاديث التي تعود إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام كلاً على حده.

 
ـــــــــــــــــــــ
[1] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج12، ص222.

[2] الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجعفر مرتضى العاملي: ج 1، ص 145.

[3] مسند احمد بن حنبل، من حديث أم فروة: ج 6، ص 443.

[4] البداية والنهاية لابن كثير: ج 8، ص 283.

[5] بلاغات الإمام علي بن الحسين عليهما السلام لجعفر عباس الحائري: ص 75.

[6] بلاغات الإمام علي بن الحسين عليهما السلام لجعفر عباس الحائري: ص 66.

[7] سورة آل عمران، الآية: 105.

[8] الصحيفة السجادية، جمع الأبطحي: ص 523و524.

[9] الأمالي للصدوق: ص708. الإرشاد للمفيد: ج2، ص168. كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي:ص197.

[10] رجال النجاشي: ص 40. معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 6، ص 38. ترجمة الحسن بن علي الوشاء.

[11] التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ج 1، ص 150.

[12] المصدر السابق.

[13] الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، قسم 2، ص 121 و122.

[14] أمالي المفيد: ص 236. أمالي الشيخ الطوسي: ص 12. مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 310. سعد السعود لابن طاووس: ص 285. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 32، ص 350. ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي الشافعي: ج 1، ص 215.

[15] الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1105. دلائل الإمامة للطبري الإمامي: ص 22. المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 311. فتح الملك العلي للمغربي: ص 72.

[16] الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 40. فتح الملك العلي لأحمد بن الصديق المغربي: ص72.

[17] فتح الملك العلي للمغربي: ص 73. الغدير للأميني: ج 3، ص 91.

[18] الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 114، فتح الملك العلي للمغربي: ص 73.

[19] فتح الملك العلي للمغربي: ص 72. الغدير للأميني: ج 3، ص 91.

[20] حلية الأولياء للإصفهاني: ج 1، ص 65. فتح الملك العلي للمغربي: ص 72.

[21] الاستيعاب لابن عبد البر: ج 2، ص 461، ط حيدر آباد.

[22] صحيح البخاري: ج 6، ص 187، ط بولاق.

[23] الاستيعاب: ج 3، ص 39. الرياض النظرة للطبري: ص 194. فتح الملك العلي للمغربي: ص 71. الغدير للعلامة الأميني: ج 3، ص 91.

[24] المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج3، ص114. فتح الملك العلي للمغربي: ص73.

[25] الاستيعاب لابن عبد البر: ج 2، ص 463.

[26] مسند أحمد بن حنبل: ج 5، ص 26. المعجم الكبير للطبراني: ج 1، ص 94.

[27] المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 312. العمدة لابن البطريق: ص 379. فيض القدير للمناوي: ج 3، ص 60. فتح الملك العلي للمغربي: ص 69. شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 135. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 384. مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: ص 172. حلية الأولياء للأصفهاني: ج 1، ص 65. ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 215.

[28] المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 126. الاستيعاب لابن عبد البر: ج3، ص1103. الفايق في غريب الحديث للزمخشري: ج2، ص16. المعجم الكبير للطبراني: ج11، ص 55. مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 114. ينابيع المودة: ج 2، ص74.

[29] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 315. وأخرجه الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: ج 1، ص 239. الأمالي للصدوق: ص 737. تاريخ الإسلام للذهبي: ج 11، ص 226. ينابيع المودة: ج 1، ص 231. الفضائل لابن شاذان: ص 102.

[30] التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ج 1، ص 150.

[31] الطبقات لابن سعد: ج 6، ص 110. سنن الدارمي: ج 1، ص 53. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 36، ص 86.

[32] سنن الدارمي: ج 1، ص 53. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 25، ص 366.

[33] سنن الدارمي: ج 1، ص 54. نصب الراية للزيلعي: ج 3، ص 118. الدراية لابن حجر: ج2، ص 98. الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 7. فتح القدير للشوكاني: ج 1، ص 319. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 23، ص 411.

[34] الإصابة لابن حجر: ج 3، ص 371.

[35] كنز العمال للمتقي الهندي: ج 2، ص 334. الغدير للأميني: ج 6، ص 292.

[36] سنن ابن ماجة: ج 1، ص 79. العهود المحمدية للشعراني: ص 25. ميزان الحكمة لمحمد الريشهري: ص 220.

[37] منية المريد: ص 100.

[38] جامع الأخبار: ص 110.

[39] الاختصاص للمفيد: ص 234.

[40] ثواب الأعمال: ص 160.

إرسال تعليق