وقفة مع كتاب: كربلاء الثورة والمأساة للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب


كانت ملحمة كربلاء وما زالت مناراً ينير الدرب في تاريخنا الإسلامي، فلمعرفة كيفية مواجهة الإسلام المتمثّل في الإمام المعصوم عليه السلام للظالمين المتستّرين بظاهر خلافة المسلمين وفي الوقت نفسه لا يرتدعون عن ارتكاب أيّ جريمة انتهاك كلّ مقدَّس، يمكن استيحاء دروس هذه الملحمة واستيعابها لتبيّن للأجيال معنى انتصار الفئة القليلة التي لا تملك إلاَّ أنفسها الكريمة الأبيّة على الفئة الكثيرة المدجَّجة بأنواع السلاح والإمكانات، ولتبيّن كذلك معنى انتصار دم الشهداء على سيوف المجرمين العتاة والجبناء في الوقت نفسه، ثمّ لتوضّح كيفية إقامة الحجّة من الإمام المعصوم عليه السلام الشاهد على عصره على الأمّة المتخاذلة التي أحبَّت الدنيا وكرهت الموت في سبيل الله.

قائد الفئة المجرمة

يوضّح الكاتب أنَّ المسؤول الحقيقي عن مجزرة كربلاء هو الخليفة الأموي يزيد الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([1])، ويرد بذلك على ما قيل في بعض كتب التاريخ بعدم علم يزيد بالمذبحة وسبَّه لعبيد الله بن زياد محاولاً تبرئة نفسه وإلصاق المسؤولية بتابعه الذليل، فيقول: (القائد الفعلي لجيش الخلافة الجرّار في كربلاء، هو يزيد بن معاوية بن صخر المكنَّى بأبي سفيان، فهو المهندس الفعلي لمجزرة كربلاء، وصانعها، وما كان عبيد الله بن زياد، ولا عمر بن سعد بن أبي وقّاص، ولا بقيّة أركان القتل والإجرام في كربلاء إلاَّ مجرَّد جلاوزة، أو عبيد، يأتمرون بأمر سيّدهم يزيد بن معاوية وينفّذون توجيهاته العسكرية بدقّة كاملة، أو مجرَّد أدوات أو دمى يحرّكها حيثما يشاء، وكيفما يشاء، ومتى شاء! وَلـِمَ لا؟! فهو (أمير المؤمنين وخليفة رسول الله على المسلمين!)، بيده مفاتيح خزائن الدولة (الإسلاميّة) وتحت إمرته تعمل جيوشها الجرّارة كافّة، والأكثرية الساحقة من رعايا دولته تصفّق له رغبة أو رهبة! متأمّلة باستمرار وصول (الأرزاق) إليها من خليفتها، ووجلها من أن يغضب فيقطع عنها (الأرزاق) فتموت جوعاً!).

ثمّ يضيف موضّحاً طبيعة يزيد بذكر بعض خصائصه وأفعاله، فيقول:وأخرج الواقدي عن عبد الله بن حنظلة الغسيل، قال: (والله ما خرجنا على يزيد حتَّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنَّه رجل ينكح أُمّهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة)([2])، تجد ذلك في الصواعق المحرقة لابن حجر (ص 137).

وقال الذهبي: (ولمَّا فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شربه الخمر، وإتيانه المنكرات اشتدَّ عليه الناس)([3]).

وجاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم: (إنَّ يزيد رجل يشرب الخمر، ويزني بالحرم!)([4])، راجع: فضائل الخمسة (ج 3/ ص 390).

هذه طبيعة يزيد الذي قاد جيش الخلافة في كربلاء، وصنع مجزرتها الرهيبة، فذبح آل محمّد وأهل بيته ومن والاهم وأخذ بنات النبيّ سبايا، بعد أن مَثَّل بضحاياه شرَّ تمثيل!

وقد ولي الحكم ثلاث سنوات، ففي السنة الأولى من حكمه قتل أولاد النبيّ وأحفاده وبني عمومته ومَن والاهم بمذبحة كربلاء، وفي السنة الثانية، استباح المدينة، وفضَّ جيشهُ ألفَ عذراء وقتل عشرة آلاف مسلم بيوم واحد وهو (يوم الحَرّة)، وختم أعناق الصحابة وأخذ البيعة على أنَّهم خول وعبيد (لأمير المؤمنين) يتصرَّف بهم تصرُّف السيّد بعبيده، أمَّا في السنة الثالثة فقد هدَّم الكعبة وأحرقها. وهذه أمور قد أجمعت الأمّة على صحَّة وقوعها وتوثيقها!

موقف الإمام الحسين عليه السلام

في المقابل يوضّح الكاتب موقف الإمام الحسين عليه السلام من خلافة يزيد وأساس هذا الموقف، فيقول: منذ اللحظة التي تأكَّد فيها الإمام الحسين من هلاك معاوية ومن استخلافه رسمياً لابنه يزيد من بعده قرَّر الإمام وصمَّم تصميماً نهائياً على عدم مبايعة يزيد بن معاوية مهما كانت النتائج.

أساس الموقف: عهد رسول الله للإمام الحسين بالإمامة والقيادة الشرعية للأمّة، كما عهد بها من قبل لأبيه علي ولأخيه الحسن، فهو موقن أنَّه:

1 - إمام زمانه بعهد من الله ورسوله، وباستخلاف معاوية لابنه وتجاهله للإمام الحسين يكون معاوية قد غصب حقّ الإمام الشرعي بقيادة الأمّة، تماماً كما فعل هو والذين من قبله بأبيه وأخيه، وهذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنَّ الأمّة هي أمّة محمّد رسول الله، فمحمّد هو الذي كوَّن الأمّة وأسَّس دولتها والإمام الحسين كأبيه وأخيه أولى المسلمين بمحمّد رسول الله، ومن جهة ثالثة فإنَّ آل محمّد وذوي قرباه هم الذين احتضنوا النبيّ ودينه، وضحّوا بأرواحهم لتكون الأمّة وتكون الدولة، بالوقت الذي حاربه فيه الأمويون وناصبوه العداء. فهل من العدل أن يتقدَّم أعداء الله ورسوله على أولياء الله ورسوله، المؤهَّلين لقيادة الأمّة قيادة شرعية؟!

2 - لمَّا تمكَّن معاوية من هزيمة الأمّة، والاستيلاء على أمرها بالقوَّة والقهر والتغلّب، قطع على نفسه عهد الله أن يجعل الأمر من بعده شورى بين المسلمين ليختاروا بمحض إرادتهم من يريدون، واستخلاف معاوية ليزيد بهذه الحالة هو نقض لعهد الله.

3 - الأمّة كلّها تعلم حال يزيد، فهو مستهتر، تارك للصلاة، شارب للخمر، وزانٍ، ثمّ إنَّه يجاهر بفجوره ويجاهر حتَّى بكفره! ومن غير الجائز شرعاً أن يتولّى أمر المسلمين من كانت هذه حاله! وفيهم ابن النبيّ المعهود إليه بالإمامة من الله ورسوله! ولا ميزة ليزيد بن معاوية سوى أنَّه قد ورث ملكاً مغصوباً حصل عليه وأبوه بالقوَّة والقهر والتغلّب!

4 - إنَّ الأمّة كلّها تعرف الإمام الحسين، وتعرف قرابته القريبة من رسول الله، وأنَّه المعهود إليه بإمامة الأمّة وقيادتها، وتعرف الأمّة كلّها علمه، ودينه، ومكانته الدينية المميّزة، فعندما يضع الإمام الحسين يده المباركة بيد يزيد القذرة النجسة ويبايعه خليفة لرسول الله على المسلمين! فإنَّ الإمام الحسين يصدر فتوى ضمنية بصلاحية يزيد للخلافة، وبشرعية غصبه لأمر المسلمين، ويتنازل ضمنياً عن حقّه الشرعي بقيادة الأمّة! وفي ذلك مسّ بالدين والعقيدة.

5 - إنَّ من واجب الإمام الحسين أن يرشد الأمّة إلى الطريق الشرعي، فإن سلكته الأمّة وأخذت به فقد اهتدت وإن تنكَّبت عنه فلا سلطان للحسين عليها ولا قدرة له، بل ولا ينبغي له إجبارها على الحقّ وجرّها إليه جرّاً فعاجلاً أو آجلاً ستدفع الأمّة ضريبة تنكّبها عن الشرعية وتهاونها بأمر الله.

6 - وبهذه الحالة فإنَّ أقصى ما يتمنّاه الإمام الحسين أن لا يجبر على البيعة، وأن يترك وشأنه حتَّى يستبين الصبح للأمّة!


أين كانت الأمّة؟

يتساءل الكاتب عن دور الأمّة الإسلامية ودور عقلائها بالخصوص، فيقول: أين كانت الأمّة الإسلاميّة عندما وقعت مذبحة كربلاء؟! أين كان المسلمون؟! وأين كان عقلاء الأمّة ووجهاؤها؟! هل كانوا بالحجّ فشغلوا بمناسكه؟! أم كانوا غزاة يجاهدون في سبيل الله؟! أم كانوا نياماً وقد استغرقوا في نومهم فلم يسمعوا صرخات الاستغاثة، ولا قرقعة السيوف، ووقع سنابك جيش الخليفة؟!


الأدلَّة القاطعة تشير إلى أنَّهم لم يكونوا بالحجّ، ولا كانوا غُزّىً، ولا كانوا مستغرقين بالنوم، بل جرت أمامهم فصول المذبحة فصلاً فصلاً، وبالتصوير الفنّي البطيء، وأنَّهم تابعوا وشاهدوا وقائع المذبحة البشعة في كربلاء، بنظرات ساكنة، وأعصاب باردة، تماماً كما يشاهدون فلماً من أفلام الرعب على شاشة التلفاز، وكان دور الأكثرية الساحقة من الأمّة الإسلاميّة، ودور وجهائها وعقلائها مقتصراً على المتابعة والمشاهدة باستثناء بعض التعليقات أو الانفعالات الشخصية المحدودة التي أبداها بعضهم همساً وهو يتابع ويشاهد المذبحة!


كان بإمكان عقلاء الأمّة الإسلاميّة ووجهائها، وكان بإمكان أكثرية تلك الأمّة على الأقلّ أن يحجزوا بين الفئتين المتنازعتين قبل وقوع المذبحة! فالوجهاء والعقلاء الذين لا دين لهم يحجزون في مثل هذه الحالات!
موقف الأكثرية الساحقة

يوضّح الكاتب حالة الأمّة الإسلاميّة وموقف الأكثرية فيها، فيقول: لم يقف يزيد بن معاوية وحده في وجه الإمام الحسين وأهل بيت النبوّة، إنَّما وقفت مع يزيد بن معاوية واستنكرت موقف الإمام الحسين وأهل بيت النبوّة مجموعة من القوى الكبرى التي كانت تكوِّن رعايا دولة الخلافة أو ما عرف باسم (الأمّة الإسلاميّة)، وهذه القوى هي:

1 - بطون قريش الـ(23) وأحابيشها وموالوها وهي القوّة نفسها التي كذَّبت النبيّ وقاومته وتآمرت على قتله، وحاربته (21) عاماً حتَّى أحاط بها النبيّ فاستسلمت واضطرَّت مكرهة لإعلان إسلامها وهي تخفي في صدورها غير الإسلام، ويزيد بن معاوية ليس غريباً على البطون، فجدّه أبو سفيان هو الذي قاد البطون ووحَّدها للوقوف ضدّ محمّد، لمحاربة محمّد. ومعاوية والد يزيد هو الذي قاد البطون، ووحَّدها لحرب علي، ثمّ إنَّ يزيد موتور شأنه شأن كلّ واحد من أبناء البطون، وتشترك بطون قريش الـ(23) بكراهية آل محمّد والحقد عليهم ورفضها المطلق لقيادتهم وإمامتهم وخلافتهم.


2 - ووقف المنافقون من أهل المدينة وممَّن حولها من الأعراب، ومن خَبُثَ من ذرّياتهم، ومنافقو مكّة ومن حولها جميعاً مع يزيد بن معاوية، لا حبّاً بيزيد، ولا حبّاً ببطون قريش ولكن كراهيةً وحقداً على محمّد وآل محمّد وطمعاً بهدم أساسيات الدين بيد معتنقيه وقد اعتقدوا أنَّ الفرص قد لاحت لإبادة آل محمّد إبادة تامّة لذلك أيَّدوا يزيد بن معاوية.


3 - ووقفت المرتزقة من الأعراب مع يزيد أيضاً، وقد وجدت ظاهرة الارتزاق جنباً إلى جنب مع ظاهرة النفاق، ومات النبيّ وبقيت الظاهرتان، والمرتزقة قوم لا مبادئ لهم إلاَّ مصالحهم، مهنتهم اقتناص الفرص، وتأييد المواقف، وترجيح الكفّات والانقضاض على المغلوب، وهم على استعداد لمناصرة من يدفع لهم أكثر كائناً من كان، ولا فرق عندهم سواء أيَّدوا رسول الله أم أيَّدوا الشيطان، فهم يدورون مع النفع العاجل حيث دار، أنظر إلى قول سنان بن أنس، قاتل الإمام الحسين لعمر بن سعد بن أبي وقّاص عندما جاءه طالباً المكافأة على قتل الحسين:

املأ ركابي فضَّة أو ذهبا *** إنّي قتلت السيّد المحجّبا

وخيرهم من يذكرون النسبا *** قتلت خير الناس أُمّاً وأبا([5])


فاللعين يعرف الإمام الحسين، ويعرف مكانته العلّية، ولكن ما يعني هذا التافه هو المال، اعطه المال وكلّفه بقتل نبيّ يقتله مع علمه بأنَّه نبيّ، أو كلّفه بقتل الشيطان يقتله إن رآه وبأعصاب باردة، لا فرق عنده بين الاثنين!

لقد أدركت المرتزقة أنَّ الإمام الحسين وأهل بيته سيغلبون وأنَّ يزيد سينتصر وسيعطيهم بعض المال لذلك أيَّدوا يزيد بن معاوية.

4 - الأكثرية الساحقة من الأنصار، وقفت مع يزيد بن معاوية، فقد بايعته أو قبلت به، أو تظاهرت بقبوله، فليس وارداً على الإطلاق أن تقف مع الإمام الحسين، وليس وارداً أن تعصي أمر يزيد بن معاوية، فلو طلب منها يزيد أن تميل على الإمام الحسين وأهل بيت النبوّة فتحرق عليهم بيوتهم وهم أحياء لأجابته أكثرية الأنصار إلى ذلك، فللأنصار تاريخ بالطاعة، فالسرية التي أرسلها الخليفة الأوّل وقادها الخليفة الثاني لحرق بيت فاطمة بنت محمّد على من فيه - وفيه علي، والحسن، والحسين، وفاطمة بنت محمّد وآل محمّد - كانت من الأنصار([6]) لذلك يمكنك القول وبكلّ ارتياح: إنَّ أكثرية الأنصار كانت سيوفهم مع يزيد وتحت تصرّفه، وكانوا عملياً من حزبه ومن حزب خلفاء البطون أو على الأقلّ ليسوا من حزب أهل بيت النبوّة!


5 - المسلمون الجدد الذين دخلوا في الإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح كانوا بأكثريتهم الساحقة مع يزيد بن معاوية، لأنَّهم فهموا الإسلام على طريقة قادة البطون وأبنائها، وتلقّوا تعليمهم في مدارس البطون وأكثريتهم لا يعرفون أهل بيت محمّد، ولا ذوي قرباه ويجهلون تاريخهم الحافل بالأمجاد، لأنَّ الخلفاء وأبناء بطون قريش الـ(23) تعمَّدوا تجهيل الناس بذلك، بل وأبعد من ذلك فإنَّ أكثريتهم يعتقدون أنَّ علي بن أبي طالب قاتل ومجرم (حاشاه)، وأنَّه وأهل بيت النبوّة ينازعون الأمر أهله، وأنَّهم أعداء للدين، وإلاَّ فلماذا فرض (الخليفة معاوية) سَبَّه ولعنه على رعايا الدولة؟! ولماذا أصدر الخليفة معاوية أمراً بقتل كلّ من يوالي علياً وأهل بيته([7])؟! لذلك وقفت الأكثرية الساحقة من المسلمين الجدد مع يزيد بن معاوية.


6 - ووقف مع يزيد بن معاوية أبناء الخمسة الذين عرفوا بـ(أهل الشورى) وبطونهم وشيعهم ويكفي أن تعلم أنَّ مذبحة كربلاء قد نُفّذت على يد عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وكان أبوه أحد الخمسة الذين اختارهم عمر بن الخطّاب لمنافسة علي بن أبي طالب صاحب الحقّ الشرعي بالإمامة من بعد النبيّ!


7 - كذلك وقف مع يزيد بن معاوية أبناء الخلفاء الذين استولوا على مقاليد الأمور من بعد النبيّ، ووقفت معهم أيضاً بطون الخلفاء وشيعهم، ويكفي أن تعلم أنَّ عبد الله بن عمر بن الخطّاب كان من أكثر المتحمّسين لبيعة يزيد بن معاوية، ومن أكثر المشجّعين على هذه البيعة! وهو نفسه الذي امتنع عن مبايعة علي بن أبي طالب!

الأقلّية التي أيَّدت ثورة الإمام الحسين

الأقلّية المؤمنة التي أيَّدت ثورة الإمام الحسين تنقسم على فئتين أيضاً:

الفئة الأولى: وهي الفئة التي خرجت مع الإمام الحسين، فرافقته دربه وشاطرته قناعاته وتحليلاته، وأيَّدت موقفه، ونالت شرف الدفاع عنه، وقاتلت بكلّ قواها حتَّى قتلت بين يديه، وهم بتعبير أدقّ شهداء مذبحة كربلاء ومن نجا منهم بعذر شرعي.


الفئة الثانية: وهم فئة مؤمنة، أحبّوا الإمام الحسين بالفعل وتفهَّموا شرعية موقفه وعدالته، ولكنَّهم قدَّروا أنَّ الحسين ومن معه لا طاقة لهم بمواجهة الخليفة وأركان دولته والأكثرية التي تؤيّده، وقد اكتفت هذه الفئة بالتعاطف القلبي مع الإمام الحسين، وتصعيد خالص الدعاء لله لحفظه وسلامته، وتابعت أنباءه بشغف بالغ، ولكنَّها فضَّلت حياتها على الوقوف معه ومناصرته، ولمَّا استشهد الإمام الحسين بكت هذه الفئة عليه بصدق وحرقة، وندمت على موقفها وتمنَّت لو ماتت دونه، بعد أن تيقَّنت أنَّ الإمام الشرعي قد قتل، وأنَّ قمر العزّ والأمل قد اختفى نهائياً من سماء العالم الإسلامي!

معقولية قرار الإمام الحسين عليه السلام بالتوجّه إلى الكوفة

اقترح بعض المشفقين على الإمام الحسين عليه السلام أن لا يذهب إلى العراق وأن يبقى في مكّة أو يعود إلى المدينة أو يذهب إلى اليمن، وقد أصغى الإمام لأصحاب المقترحات وشكرهم مِن دون الإفصاح عن رأيه، وهنا يحاول الكاتب أن يبيّن دواعي اختيار الإمام للكوفة، فيقول: لقد سمعت جماعات الأمّة الإسلاميّة كلّها امتناع الإمام الحسين عن البيعة وخروجه من المدينة، واستقراره مؤقَّتاً في مكّة، وعرفت كذلك أنَّ الإمام الحسين يبحث عن مأوى ومكان آمن، وجماعة تحميه وتحمي أهل بيت النبوّة من الأمويين وأذنابهم، فأغمضت كلّ تلك الجماعات عيونها، وأغلقت آذانها وتجاهلت بالكامل محنة الإمام الحسين وأهل بيت النبوّة، وأهل الكوفة هم وحدهم الذين كتبوا للإمام الحسين، وأرسلوا له رسلاً ودعوه لا ليحموه فحسب بل دعوه ليكون إماماً وقائداً لهم، وليس في ذلك غرابة، فالكوفة كانت عاصمة دولة الخلافة في زمن الإمام علي، والأكثرية الساحقة من أهل الكوفة عرفوا فضل علي خاصّة وأهل بيت النبوّة، وقارنوا بين حكم الإمام علي وسيرته وحكم الجبابرة وسيرهم، وأدركوا البون الشاسع بين هذين الخطّين من الحكم، فليس عجيباً بعد أن هلك معاوية أن يدركوا أنَّ الفرصة مؤاتية لإعادة الحقّ إلى أهله خاصّة بعد أن سمعوا امتناع الإمام الحسين عن البيعة وخروجه من المدينة وبحثه عن المأوى الآمن له ولأهل بيته. فالمعقول أن يصدّقهم الناس، والمعقول أيضاً أن يصدِّقهم الإمام الحسين، ثمّ إنَّه ليس أمام الحسين أيّ خيار آخر فإلى أين عساه أن يلجأ؟ وممَّن سيطلب الحماية والمنعة؟ والأهمّ أنَّ ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة قد بايعوه فإن كانوا صادقين بالفعل، فإنَّ قائداً مثل الإمام الحسين له القدرة على أن يفتح بهم العالم كلّه!

وفكرة المؤامرة بإرسال الرسل والكتب، وفكرة الاختراق الأموي لعملية إرسال الرسل والكتب، لم تكن ببال عاقل!

إذن فإنَّ اختيار الإمام الحسين للكوفة كان اختياراً معقولاً في مثل ظروف الحسين، وخياراته المحدودة.

الإمام يقيم الحجّة قبل بدء القتال

لم يبدأ الإمام عليه السلام جيش الخلافة بالقتال قبل إقامة الحجّة عليهم كاملة، وقد سنحت عدَّة فرص لأصحاب الإمام للنيل من أعداء الله لكن الإمام منعهم من ذلك. وقد صوَّر الكاتب كيفية إقامة الحجّة وأهمّيتها، فقال: أحاط (الجيش الإسلامي!) بمعسكر الإمام الحسين إحاطة تامّة، وأشرفوا عليه إشرافاً كاملاً، فما من حركة يتحرَّكها الإمام أو أحد في معسكره إلاَّ ويشاهدها جيش الخلافة كلّه بوضوح تامّ، وما من كلمة يتلفَّظ بها الإمام أو أحد من معسكره إلاَّ ويسمعها جيش الخلافة! إنَّها حالة من الإحاطة التامّة!

إنَّه وإن كان ذلك الوضع من الناحية العسكرية كارثة محقّقة على الإمام الحسين وأهل بيت النبوّة ومن والاهم وأقام في معسكرهم، إلاَّ أنَّه من ناحية ثانية هو الوضع الأمثل لإقامة الحجّة على القوم قبل القتال، فإذا تكلَّم الإمام الحسين بذلك الوضع، فإنَّ بإمكان جيش الخلافة كلّه أن يسمع كلامه، فالجيش يحيط به من كلّ جانب، ولا يبعدون عنه إلاَّ بضع عشرات من الأمتار. فكأنَّ الله سبحانه وتعالى قد جمعهم على هذه الصورة ليمكّن الإمام الحسين من إقامة الحجّة عليهم تمهيداً لإنزال العذاب بهم.

تجاوز حدّ التصوّر والتصديق

اعتاد الكثير من الذين يمسكون بالقلم أن يسوّغوا للسلطات جرائمها، وأن ينتقدوا إضافة إلى ذلك الثوّار والأحرار الذين يقاومون الظلم ويجعلوهم السبب في المآسي التي يرتكبها الطغاة، والكاتب هنا يفعل العكس فينتقد السلطات ويبيّن جرائمها وعدم إمكانية تسويغها، ويمتدح أبا الأحرار الإمام الحسين عليه السلام ويبيّن خصائصه ومزاياه، وهذا هو الخطّ الصحيح لكلّ الكتّاب الذين يريدون أن يلتزموا الحياد والإنصاف في عرض الحقائق، يقول الكاتب: عندما تستعرض بذهنك صور كثرة جيش الخلافة، وصور عدَّته واستعداداته وإمكانيات الدولة وطاقاتها التي تدعمه، ومكانتها في العالم السياسي المعاصر لها بوصفها دولة عظمى، وتستعرض صورة الجمع الآخر الذي كان يضمّ الإمام الحسين وآل محمّد وذوي قرباه، والقلَّة القليلة التي أيَّدتهم ووقفت معهم، فإنَّك لا تستطيع أن تصدّق أنَّ مواجهة عسكرية يمكن أن تحدث بين هذين الجمعين! وإنَّ احتمال حدوث مواجهة عسكرية أمر يفوق حدّ التصوّر والتصديق، فجيش الخلافة بغنى عن هذه المواجهة، لأنَّه ليست له على الإطلاق ضرورة عسكرية وليست هنالك ضرورة لتعذيب الإمام الحسين وأهل بيت النبيّ وذوي قرباه وصحبه وأطفالهم ونسائهم وهم أحياء، والحيلولة بينهم وبين ماء الفرات الجاري، ومنعهم من الماء، حتَّى يموتوا عطشاً في صيف الصحراء الملتهب!

ثمّ إنَّ جيش الخلافة لو حاصرهم يومين آخرين فقط لماتوا من العطش من دون قتال، ولَمَا كانت هنالك ضرورة لتلك المواجهة العسكرية المخجلة!

إنَّ أي إنسان يعرف طبيعة الإمام الحسين، وطبيعة آل محمّد، وذوي قرباه يخرج بيقين كامل بأنَّهم أكبر وأعظم من أن يعطوا الدنيّة مخافة الموت، لأنَّ الموت بمفاهيمهم العلوية الخالدة أمنية، وخروج من الشقاء إلى السعادة المطلقة!

ثمّ لو أنَّ جدَّ الإمام الحسين كان رجل دين لأيّ ملّة من الملل لوجد الجيش - أيّ جيش - حتَّى جيوش المشركين حرجاً كبيراً لمجرَّد التفكير في قتله! ولكان وضعه الديني حاجزاً لذلك الجيش عن سفك دمه! فكيف بابن بنت رسول الله محمّد، وبإمام كالإمام الحسين!؟

ثمّ إنَّ قتل الرجل وأولاده وأهل بيته دفعة واحدة يُثير بالإنسان - أيّ إنسان - حتَّى إنسان العصور الحجرية شعوراً بالاشمئزاز والاستياء، لأنَّه عمل يعارض الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، فكيف برجل كالإمام وبأهل بيت كأهل بيت النبوّة!؟

ويظهر لنا أنَّ تصرّفات الخليفة وأعماله، وأعمال أركان دولته، ما هي في الحقيقة إلاَّ انعكاس لقلوب مملوءة بالحقد على النبيّ، وعلى آل محمّد، ومسكونة بشبح الوتر والثأر كما بيَّنا، وسيظهر بهذا التحليل أنَّ الذين وقفوا على أهبّة الاستعداد لقتال الإمام الحسين وقتله، وإبادة أهل بيت النبوّة لم يكونوا بشراً، إنَّما كانوا وحوشاً مفترسة ضارية ولكن على هيئة البشر! لم يعرف التاريخ البشري جيشاً بهذا الخلق والانحطاط، ولا حاكماً بتلك الجلافة، والفساد، والحقد، إنَّها نفوس مريضة نتنة، وتغطّي على مرضها ونتنها بالادّعاء الزائف بالإسلام، والإسلام بريء منهم، فلقد دخلوه مُكرَهين، وخرجوا منه طائعين، ألا بُعداً لهم كما بَعُدَت ثمود.


.................................................................
الهوامش:

([1]) المعجم الكبير للطبراني 3: 120/ ح 2861؛ كنز العمّال 11: 166/ ح 31061.


([2]) طبقات ابن سعد 5: 66؛ تاريخ مدينة دمشق 27: 429؛ الصواعق المحرقة 2: 634.


([3]) أنظر: تاريخ الإسلام 5: 30.


([4]) أنظر: مستدرك الحاكم 3: 522.


([5]) أنظر: تاريخ الطبري 4: 347.


([6]) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 56 - 59، لتجد أسماء الأنصار الذين اشتركوا في عملية الإحراق.


([7]) أنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 45 و46.

إرسال تعليق