تأملات بلاغية في خطاب الإمام الحسين بأصحابه في كربلاء

بقلم: الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري

نزل الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته في أرض كربلاء، وأمر بنصب خيامه فيها، ونزل في مقابلته جيش الأعداء الذين جمعوا لقتاله، ولما رأى الإمام الحسين عزم القوم على قتاله جمع أهل بيته وأصحابه وقام فيهم خطيباً، قال: «أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين، أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي، ولا أهل بيت ابر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيراً، ألا واني لأظن يومنا مع هؤلاء الأعداء غداً ألا واني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يطلبون غيري ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم»( تاريخ الطبري 3 / 315).

الوضوح والصراحة في شخصية القائد

تتجلى في هذا الخطاب مسـؤولية القائد وحكمته، ونظرته الإنسانية في أصعب الظروف، فالإمام الحسين حين خرج من مكة إلى العراق كان أهل العراق قد كاتبوه وعقدوا له البيعة وطلبوا منه القدوم إلى بلدهم وحين وصل إليهم رسول الإمام مسلم بن عقيل أعلنوا بيعتهم أمامه.

لكن هذا الأمر لم يدم طويلاً فقد جرت في المنطقة تغيرات جعلت كثيراً من أهل الكوفة ينقضون بيعتهم للإمام، وجرت الأمور بعكس ما يريد الإمام الحسين، وقتل رسوله مسلم بن عقيل وأعدت الجيوش لقتله هو وأصحابه، ومن هنا رأى الإمام أن يبين لأهل بيته وأصحابه ما ينتظرهم من مصير، فقد يكون بينهم من لا يرتضي هذا المصير، فكان هذا الخطاب.

التراكيب البلاغية في هذا الخطاب

بدا الإمام في خطابه هادئاًَ راضياً بالمصير الذي يلاقيه، وقد استعمل التراكيب الواضحة في دلالتها والتي تكون في متناول فهم الجميع بدأ الخطاب بحمد الله والثناء عليه أحسن الثناء وانه محمود في السراء والضراء ثم انتقل الإمام إلى ذكر ما أنعم الله عليهم من نعم، وما خصهم به من صفات، وقد استعمل الجمل القصيرة التي تبدأ بالصيغ الفعلية ليعبر من خلالها عن الاستمرار والتجدد في هذه النعم، وهكذا بدأت تراكيب الجمل «أكرمتنا، علمتنا، فقهتنا، جعلت لنا...» وهكذا ترد هذه الأفضال التي خصهم بها الله يتبع بعضها بعضاً، وقد أشار الإمام إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل لعباده أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ليسمعوا ما يقال ويبصروا ما يجري أمامهم ثم يتفكروا فيما سمعوا وأبصروا ليهتدوا إلى معرفة الحق وإتباعه.

الثناء على أصحابه وأهل بيته

كل هذا كان مقدمة لما يريد الإمام بيانه لأصحابه وأهل بيته، وبعد هذه المقدمة التي بدأ بها الإمام خطابه، انتقل إلى الثناء على أصحابه وأهل بيته فوصفهم بأنهم أوفى الأصحاب وأخيرهم وأبر أهل بيت وأوصلهم:«فأني لا أعلم أصحاباً أوفى وأخير من أصحابي، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي».

إن هذه الشهادة بحق هؤلاء الأصحاب من إمام عصرهم ووارث الرسول الأعظم تعد أعظم شهادة لهؤلاء بالوفاء والصدق والبر وصلة الأرحام. وهي وسام ظل يزين صدورهم إلى يومنا هذا.

لماذا استعمل الإمام صيغ التفضيل وحالة التنكير في وصف أصحابه وأهل بيته؟

لقد بنى الإمام تراكيب هذه الفقرة من خطابه على أسلوب التفضيل، فقد ورد فيها على قصرها أربع صيغ على وزن أفعل الذي يفيد التفضيل، وقد وردت هذه الصيغ بحالة التنكير لتدل على العموم والاتساع في تفضيل هؤلاء الأهل والأصحاب على غيرهم من أمثالهم في كل الدنيا، وقد أراد الإمام من خلال إيراد هذه الصيغ«أوفى، وأخير، وأبر، وأوفى» الدلالة على عظم ما يحمله أصحابه وأهل بيته من هذه الصفات، وقد كان الإمام دقيقاً في استعمال صيغ التفضيل في هذه التراكيب، فالبر وصلة الأرحام من لوازم الأهل وصفاتهم، وقد أوصى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ببر الوالدين وصلة الأرحام، وجعل ذلك تكليفاً شرعياً على المسلمين، لذا وصف الإمام أهل بيته بأنهم «أبر وأوصل» تفضيلاً لهم على غيرهم ممن يحمل صفة الأهل، أما الوفاء والخير فمن لوازم الصحبة، ومن هنا جاء وصف الإمام لأصحابه بأنهم أوفى وأخير من غيرهم ممن يحمل صفة الأصحاب، ومن الملاحظ أن الإمام قد استعمل اسم التفضيل «أخير» على خلاف ما ورد في الاستعمال الشائع وهو «خير» بحذف الهمزة لكثرة الاستعمال، وربما أراد الإمام من هذا الاستعمال مجانسة الصيغ التي وردت في هذا السياق وكلها تبدأ بالهمزة «أبر أوفى ــ أوصل».

لماذا قدم ذكر الأصحاب على الأهل في هذا الخطاب

ويبدو أن الإمام قدم الأصحاب على الأهل لمغزى دلالي، هو أن الأهل أكثر لزوماً لمن ينتمي إليهم من الأصحاب، ومن هنا جاء تقديم الأصحاب اهتماماً وإكباراً بموقفهم العظيم.

حتمية الصراع واستعمال أسلوب التوكيد للدلالة عليه

وبعد ثناء الإمام على أصحابه وأهل بيته أخبرهم أن المعركة مع هؤلاء القوم أمر لا مناص منه، وقد استعمل الإمام أسلوب التوكيد لتثبيت وقوع المعركة (اني لأظن..) وقال لهم إن القوم لا يطلبون غيره فمن أراد أن ينجو بنفسه فهو في حل من أمر الإمام ولا حرج ولا ذمام عليه في ذلك. فمن شاء ذلك فليتخذ الليل جملاً ويخرج من ميدان الحرب، وقد أذنت لكم جميعاً بالانصراف، لقد استعمل الإمام تعبيراً استعارياً جميلاً لتصوير كيفية الانصراف لمن يشاء منهم مستمداً هذه الصورة من أمثال العرب يقول: «وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً».

يقول أحد الباحثين: إن الإمام «وضع لهم الواسطة التي يتفرقون بها من حوله، وهي سواد الليل، فسيكون لهم كالجمل في القدرة على حملهم إلى بر الأمان بالرغم من الصعاب وخطورة الطريق»( التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية /49).

الإمام يخير أصحابه وأهل بيته بين الانصراف والبقاء

قال الإمام هذا الكلام لأهل بيته ولأصحابه وهو يعلم أنّ أحداً منهم لا يمكن أن يفعل ذلك، ويعلم أن مصيرهم قد ارتبط بمصيره ولا يمكن لأحد أن يتصور أنّ واحداً منهم يفكر في مفارقة الإمام ويختار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ولا أحداً منهم يفضل الفناء على الخلود الأبدي، وهكذا جاء ردهم جميعاً أنهم يختارون الموت معه على الحياة مع هؤلاء الظالمين، وهو قرار سيدهم وإمامهم: «لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما».

وقد كان لهم ما أرادوا فكانوا من الفائزين في الدنيا والأخرة، وأصبحوا من الخالدين حتى صار موتهم أُمنية كل الأحياء والأموات ليفوزوا الفوز العظيم وكل منهم يردد: > يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا < النساء/73.

إرسال تعليق