السجود على التربة الحسينية في المنظور الشرعي

بقلم: السيد نبيل الحسني

1: قول العلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه


وهنا نشد الرحال بادئ بدء إلى مدرسة العلامة الأميني (طيب الله ثراه) الذي أتحف الحضارة الإسلامية برائعة «الغدير» وخصص قسماً من أبحاثه في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، فحاضر ببعض منها في سوريا تحت عنوان: (سيرتنا وسنتنا) تناول فيها البحث في عناوين فقهية، وعقائدية، فكان مما خص بالبحث مسألة السجود على التربة الحسينية أعزّها الله.

فقال رحمه الله، وتحت عنوان؛ السجدة على تربة كربلاء: إنّ الغاية المتوخاه من اتخاذ الشيعة تربة كربلاء مسجداً، إنما هي تستند إلى أصلين قويين وتتوقف على أمرين قيمين.

أولهما:
استحسان اتخاذ المصلي لنفسه تربة طاهرة طيبة يتيقن بطهارتها، من أيّ أرض أخذت ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلها في ذلك شرع سواء سواسية، لا امتياز لإحداهن على الأخرى في جواز السجود عليها، وان هو إلاّ كرعاية المصلي طهارة جسده، وملبسه، ومصلاه، يتخذ المسلم لنفسه صعيداً طيباً يسجد عليه في حله وترحاله، وفي حضره وسفره.

ولاسيما، أنَّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتخذها مسجداً لا تتأتى له في كل موضع من المدن، والرساتيق، والفنادق، والساحات، ومحال المسافرين ومحطات وسائل السير والسفر، ومهابط فئات الركاب، ومنازل الغرباء؛ أنى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها، ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.

فأي مانع من أن يستحيط الإنسان المسلم في دينه، ويتخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته، حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة والأوساخ التي لا يتقرب بها إلى الله قط، ولا تجوّز السنة السجود عليها، ولا يقبله العقل السليم، بعد ذلك التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلي ولباسه، والنهي عن الصلاة في مواطن منها: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق والحمام، ومعاطن الإبل، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها.

وكانت هذه النظرية الصائبة القيمة الدينية كانت متخذة لدى الورّع من فقهاء السلف في القرون الأولى، وأخذاً بهذه الحيطة المستحسنة جداً كان التابعي الفقيه الكبير، الثقة العظيم المتفق عليه «مسروق بن الأجدع»( أنظر في ترجمته تاريخ البخاري الكبير: ج 4 ص 35) يأخذ في أسفاره لبنة يسجد عليها كما أخرجه شيخ المشايخ الحافظ الثقة إمام السنة ومسندها في وقته أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه «المصنف» في المجلد الثاني في باب: من كان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه، فأخرج بإسنادين: أن مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها.

هذا هو الأصل الأول لدى الشيعة وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان.

 وأما الأصل الثاني:
فإن قاعدة الاعتبار المطردة تقتضي التفاضل بين الأراضي، بعضها على بعض، وتستدعي اختلاف الآثار والشؤون والنظرات فيها، وهذا أمر طبيعي عقلي متسالم عليه، مطرّد بين الأمم طرّاً، لدى الحكومات والسلطات والملوك العالمية برمتهم؛ إذ بالإضافات والنسب تقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة ومزيّة، بها تجري عليها مقرّرات، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدي والصفح عنها.

ألا ترى أنّ المستقلات والساحات والقاعات والدور والدوائر الرسمية المضافة إلى الحكومات، وبالأخص ما ينسب منها إلى البلاط الملكي، ويعرف باسم عاهل البلاد وشخصه، لها شأن خاص، وحكم ينفرد بها يجب على الشعب رعايته، والجري على ما صدر فيها من قانون.

فكذلك الأمر بالنسبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة إلى الله تعالى فإن لها شؤوناً خاصة وأحكاماً وطقوساً، ولوازم وروابط لامناص ولابدّ لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها، ويراقبها، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها والتحفظ عليها، والأخذ بها.

فبهذا الاعتبار المطرد العام المتسالم عليه انتزع للكعبة حكمها الخاص، وللحرم شأن يخصّ به، وللمسجدين الشريفين: جامع مكة والمدينة أحكامهما الخاصة بهما، وللمساجد العامة والمعابد والصوامع والبيع التي يذكر فيها اسم الله، في الحرمة والكراهة، والتطهير والتنجيس، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها، والنهي عن بيعها نهياً باتاً نهائياً من دون تصوّر أي مسوغ لذلك قط خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامة التي لها صور مسوغة لبيعها وتبديلها بالأحسن، إلى أحكام وحدود أخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك رب العالمين (سيرتنا وسنتنا للأميني رحمه الله: ص 175 ــ 177).

2: قول العلامة المرجع الديني الشيخ كاشف الغطاء (طيب الله ثراه)

قال العلامة كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه «الأرض والتربة الحسينية» في بيان حكمة إيجاب السجود على الأرض واستحباب السجود على التربة الشريفة: 

«ولعل السر في إلزام الشيعة الإمامية (استحباباً) بالسجود على التربة الحسينية، مضافاً إلى ما ورد في فضلها (إيعازاً إلى ما مرّ من الأحاديث) ومضافاً إلى أنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملونة والمملوءة غالباً من الغبار والميكروبات الكامنة فيها، مضافاً إلى كل ذلك فلعله من جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية أن يتذكر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام نفسه وآل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ وتحطيم الجور والفساد والظلم والاستبداد.

ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده».

فإنه مناسب أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعل هذا هو المقصود من أن السجود عليها تخرق الحجب السبعة من التراب إلى رب الأرباب. (الأرض والتربة الحسينية للعلامة كاشف الغطاء: ص 24).

3: قول العلامة المرجع الديني الكبير السيد أبي القاسم الخوئي (طيب الله ثراه)

قال رحمه الله في معرض بيان قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا). (سورة الجن، الآية: 18).

ودلالة هذه الآية الكريمة على المقصود مبنية على أن المراد بالمساجد، المساجد السبعة، وهي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده وهذا هو الظاهر، ويدل عليه المأثور(راجع: الوسائل، باب: حد القطع من أبواب حد السرقة: ج 3، ص 448)؛ وكيف كان فلا ريب في هذا الحكم وأنه لا يجوز السجود لنبي أو وصي، فضلاً عن غيرهما.

وأما ما ينسب إلى الشيعة الإمامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم، فهو بهتان محض، ولسوف يجمع الله بينهم وبين من افترى عليهم وهو أحكم الحاكمين، ولقد أفرط بعضهم في الفرية، فنسب إليهم ما هو أدهى وأمض، وأدعى أنهم يأخذون التراب من قبور أئمتهم، فيسجدون له، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.

وهذه كتب الشيعة: قديمها وحديثها مطبوعها ومخطوطها، وهي منتشرة في أرجاء العالم متفقة على تحريم السجود لغير الله، فمن نسب إليهم جواز السجود للتربة فهو إما مفتر تعمد البهت عليهم، وإما غافل لا يفرق بين السجود لشيء والسجود عليه.

والشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أن يكون على أجزاء الأرض الأصلية: من حجر أو مدر أو رمل أو تراب أو على نبات الأرض غير المأكول والملبوس، ويرون أن السجود على التراب أفضل من السجود على غيره، كما أن السجود على التربة الحسينية أفضل من السجود على غيرها. وفي كل ذلك اتبعوا أئمة مذهبهم الأوصياء المعصومين؛ ومع ذلك كيف تصح نسبة الشرك إليهم وانهم يسجدون لغير الله.

والتربة الحسينية ليست إلا جزءاً من أرض الله الواسعة التي جعلها لنبيه مسجداً وطهوراً؛ ولكنها تربة ما أشرفها وأعظمها قدراً! حيث تضمنت ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد شباب أهل الجنة؛ من فدى بنفسه ونفيسه ونفوس عشيرته وأصحابه في سبيل الدين وإحياء كلمة سيد المرسلين.

وقد وردت من الطريقين ــ السنة والشيعة ــ في فضل هذه التربة عدة روايات، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهب أنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أوصيائه ما يدل على فضل هذه التربة، أفليس من الحق أن يلازم المسلم هذه التربة، ويسجد عليها في مواقع السجود؟!.

فإن في السجود عليها ــ بعد كونها مما يصح السجود عليه في نفسه ــ رمزاً وإشارة إلى أن ملازمها على منهاج صاحبها الذي قتل في سبيل الدين وإصلاح المسلمين. (تفسير البيان للسيد الخوئي: ص 472 ــ 473).


إرسال تعليق