المرجعية الدينية الشيعية، مواقف مبدئية ضد الاحتلال

بقلم: الدكتور محمد جواد مالك

لقد تجسد تحرك المرجعية الدينية في المواقف الواضحة للعلماء المراجع، والتي بدورها رسمت للإسلاميين - عموماً - مواقفهم السياسية وخطواتهم الجهادية والموقف القيادي الحاسم الذي اتخذه الشيخ الخراساني لتحقيق الحياة الدستورية في إيران، هو أنموذج واضح لما نرمي توضيحه.

وكذلك 
الموقف التوجيهي للشيخ الخراساني من ثورة الدستور العثمانية، الذي يدلل على حرص هذه المرجعية القيادية على مستقبل الدولة الإسلامية. فقد بعث برقية مفصلة إلى السلطان عبد الحميد قبيل ثورة الدستور تتضمن إرشادات ونذر إلى جانب الدعوة الملحة للاستجابة للحياة الدستورية في البلاد، وأكثر من ذلك، لقد بعث الشيخ الخراساني رسالة شديدة اللهجة إلى السلطان عبد الحميد، في أيامه الأخيرة، يطالبه بمعالجة الموقف وإقرار الحياة الدستورية، وتفويت الفرصة على الاتحاديين في ثورتهم ممّا أثار بعض العلماء ضده، خوفاً من انتقام السلطان من المرجعية الدينية الشيعية وعموم الشيعة، إلا أنه طمأنهم بقوله: «لا تخافوا ولا تلوموني فقد استخرت الله فخار لي ذلك، وأنه معنا وسينصرنا على القوم الكافرين».

ومن ثم 
أبدت المرجعية الشيعية وتيارها في الساحة، مواقف معارضة للاتحاديين بكل ثقة وصلابة. هذا، وقد حملت المرجعية لواء الجهاد دفاعاً عن حرمة الإسلام والمسلمين، بغض النظر عن الولاءات المذهبية والحدود الإقليمية والانتماءات العرقية، فحينما تم الاحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911م، وقفت القيادة الدينية - الشيعية بكل إمكانياتها إلى جانب الدولة العثمانية في سبيل الدفاع عن ليبيا (المرجعية الشيعية وقضايا العالم الإسلامي, محمد سعيد الطريحي) «فقد أصدر الشيخ الخراساني فتوى للجهاد والدفاع عن ليبيا ضد الاحتلال الإيطالي لها، وقد أكد هذه الفتوى بعد وفاته، اثنان من كبار المجتهدين هما: السيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ محمد (صاحب الجواهر)، وقد أرسلت (الهيئة العلمية) إثنين من أعضائها إلى ليبيا لغرض الاستطلاع، ودرس إمكانية الاشتراك في حركة الجهاد هما: السيد مسلم زوين وعزيز بك، قائممقام النجف المستقيل عن الاتحاد والترقي، فسافرا إلى طرابلس ومنها إلى الآستانة».

«وتتابعت فتاوى الجهاد من العلماء السُّنة والشيعة لمقاومة الاحتلال الإيطالي، وعلى أثرها تشكلت - في جميع أنحاء العراق - لجان للدفاع عن ليبيا من السنة والشيعة، ولعب الشيعة فيها دوراً مميزاً رغم أن المعاملة التي كانوا يتلقونها من السلطة العثمانية سيئة.. وفي كربلاء عقد الأهالي اجتماعاً عاماً عند ضريح الإمام الحسين، وألقيت الخطب الحماسية، ثم جرى جمع التبرعات، وفي 12 تشرين الأول 1911م، تظاهر ما يقارب الألفين من الأهالي.. وشهدت مدينتا النجف وسامراء تظاهرات مماثلة خلال يومي 17،11 تشرين الأول، وألقيت فيها الخطب الحماسية، ودعا الخطباء إلى نبذ الخلافات الطائفية وتوحيد الجهود».

وانعكس ذلك
 في مهرجانات الأدب والشعر، التي كانت تلهب أحاسيس الناس وتدفعها للجهاد، نذكر - للإطلاع - شيئاً من قصيدة (يا بلادي) للشيخ علي الشرقي التي مطلعها:
كيف أصبحت فأفصحي يا بلادي
فيك ما يعقد الرطاب الفصاحا
إن دعونا أرائك الجور طاحت
يا دم الأبرياء كنت المطاحا
ما لروما فلا استوى عرش روما
فتلتْ ذيلها وعجّت نباحا
جنبتْ عن نضال كل قويٍّ
فأغارتْ على الزوايا اكتساحاً
نطحت برقة، وبرقة واحات
من النخل ما عرفن النطاحا

ويقول الشيخ محمد باقر الشبيي في قصيدته - ايتاليا وإعلان الحرب:
فيا ايتاليا اعتقدي بأنّا
سننشرها بأجنحة الظلامِ
ونضرب بالسيوف لكم رقاباً
ونحمي بالدفاع حمى الحريم
سلوا إن شئتم اليونان عنا
وإن شئتم سلوا حرب الصريم
نصول بكل هدّار هزبرٍ
إذا اشتد الوغى اسد هجوم
نذبّ عن الحقيقة في حماها
ونحمي حوزة الوطن القديم

وللشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قصيدة نهضوية هادفة بعنوان (حرب الطليان والبلقان) يقول فيها:
أيها المسلمون هبّوا فليس الـ
موت إلا حياتكم بهوان
قد دهاكم ويلٌ فماذا التمادي
وأتاكُمُ سيلٌ، فماذا التواني
جاءكم جارفٌ من الغرب تيّار
يهدّ البناء رأس المباني
يستغيث الإسلام فيكم فيلقي
عنه منكم تصامم الآذان
صارخاً فيكُمُ فهل من سميعٍ
صرخات الإسلام والقرآن
أفيرجو الإسلام لقيان سلم
(بعد حرب الطليان والبلقان).

إلا أن ظروف التحدي كانت كبيرة للدولة العثمانية، فاضطرت لعقد الصلح مع إيطاليا في تشرين الأول 1912م، لتفرغ لحرب دول البلقان التي أعلنتها بعد يوم واحد من التوقيع على معاهدة الصلح هذه، فشرعت جيوش بلغاريا واليونان وصربيا والجبل الأسود، تهاجم الحدود العثمانية من عدة جبهات حسب خطة مدبرة.

وتجلى الموقف الجهادي - مرة أخرى - أمام محاولات الاعتداء على إيران من قبل روسيا عام 1911م، هذا وأن الحكومة الروسية تدرك من تجربة حيّة، تأثيرات الفتاوى الصادرة من علماء الشيعة في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية فهي التي أنهت عهد محمد علي شاه المتحالف معها - من عهد قريب - وأجبرت روسيا على الانسحاب من إيران، ولكنها في هذه المرة، كانت تقدّم حججاً حول مصالحها الاقتصادية في إيران، إلا أنه يمكن القول، بأن الروس استغلوا الحالة الخلافية المتجذرة بين أنصار المشروطية وأنصار المستبدة. وراهنوا على عدم تفاعل الساحة مع الفتوى الجهادية. لذلك احتلوا شمال إيران في كانون الأول 1911م.

وعلى الأثر أبرق رئيس مجلس الشورى الإيراني في 5 كانون الأول 1911م، ببرقية إلى العلماء في العراق، تتضمن طلب التدخل على ضوء الموازين الشرعية، لردّ التهديدات الروسية واحتلال مدينة قزوين. وقد تحولت الحوزات الدينية والمجالس الشعبية إلى اجتماعات احتجاجية تعبوية إلى مستوى الانفجار، وذلك لعمق الإحساس بالمسؤولية الدينية اتجاه المسلمين في إيران. وتحوّل بيت المرجع الشيخ الخراساني إلى ملتقى عام لدرس الأوضاع، وقد أفرزت هذه الاجتماعات المتواصلة عدة قرارات من أهمها التحرك للجهاد من قبل العلماء وطلبة العلوم الدينية والعشائر العراقية وكافة أصناف المجتمع.

ومن المقررات المهمة - أيضاً-، التحرك السياسي في بغداد، بإعلام ممثلي الدول بظلامة الشعب الإيراني وفضح جرائم الروس. وعندما وصلت برقية القنصل الروسي في بغداد إلى الإمام الخراساني يوضّح له بأنّ روسيا ليست لها أطماع في إيران، وإنها ستنسحب عند قبول الحكومة الإيرانية بالشروط الروسية، رد الشيخ على تلك البرقية، رافضاً قبول التبريرات ومهدداً بإعلان الجهاد الدفاعي لكافة مسلمي العالم، فأصدر فتوى للمسلمين بضرورة تعليم فنون القتال والتدريب على السلاح، وكذلك أصدر فتوى بحرمة التعامل مع البضائع الروسية. وكانت الحكومة الروسية تعتني كثيراً بهذه الفتاوى، لأنها تمثل البدايات الحاسمة للصراع معها، فدفعت قنصلها في بغداد أن يلقي الشيخ الخراساني، ويقنعه بعدم إصدار فتوى الجهاد، إلا أن الشيخ رفض استقباله، حيث قال لوكيله أبي القاسم الشيرازي: «أخبر القنصل بأني لا أملك وقتاً للإجتماع به، وإذا أراد شيئاً فليكتب».

والجدير بالذكر أن هذا الموقف المبدئي ضد الأعداء المحتلين، لم يتخذ بمعزل عن الدولة العثمانية، بالرغم من عدم وجود التنسيق المطلوب إلا أن الجامع المشترك كان يدعو علماء الشيعة إلى تحمّل المسؤولية الشرعية، فقد بعث العلماء برقية إلى السلطان العثماني محمد الخامس جاء فيها: إن العالم الإسلامي يعمّه الاضطراب والتأثر البالغ نتيجة الهجوم الشامل الذي يتعرض له الإسلام من كل الجهات، وأننا بصفتنا نمثل الزعامة الدينية لثمانين مليون مسلم جعفري يقطنون في إيران والهند وباقي البلدان، أجمعنا على وجوب الهجوم الجهادي والدفاعي، وحكمنا بذلك. ويعتبر من واجب جميع المسلمين صد وتشتيت مسببي إراقة دماء المسلمين وصيانة دين محمد (صلوات الله عليه)، وهو واجب عيني، وأننا نعلن لجلالتكم.. الحامل للأمانة المقدسة.. ونرجو أن لا تبخلوا بإعطاء لواء الحمد النبوي (صلى الله عليه وآله) للمسلمين الذين سيحتشدون من شتى أقطار العالم بهدف الدفاع..».

وقد وقع على هذه الوثيقة كل من الشيخ الآخوند الخراساني، وعبد الله المازندراني، ومحمد حسين الحائري، وإسماعيل صدر الدين العاملي.

هذا، وقد التحق سائر العلماء الآخرين بهذه الحركة الجهادية، وعلى رأسهم السيد اليزدي تأييداً منه للموقف الجهادي العام، خلافاً لما يذهب إليه الدكتور علي الوردي بأن السيد كاظم اليزدي لم يحرك ساكنا!

فقد أصدر فتواه الجهادية ضد روسيا وبريطانيا وإيطاليا، في أواخر تشرين الثاني 1911م، جاء فيها: «اليوم هجمت الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية من كل جهة، فمن جهة هجمت إيطاليا على طرابلس الغرب، ومن جهة أخرى روسيا على شمالي إيران، وإنكلترا على جنوبها، وهذا يهّدد باضمحلال الإسلام. لذا يجب على عموم المسلمين من العرب والعجم أن يهيؤا أنفسهم للدفاع عن البلاد الإسلامية ضد الكفر، وأن لا يقصّروا ولا يبخلوا في بذل أنفسهم وأموالهم في تقديم الأسباب التي يمكن من خلالها إخراج جيش إيطاليا من طرابلس الغرب، وجيش روسيا والإنكليز من شمالي وجنوبي إيران، وهذا من أهم الفرائض الإسلامية، حتى تبقى المملكتان العثمانية والإيرانية مصونتين محفوظتين بعون الله تعالى من هجوم الصليبيين». حرر يوم الاثنين خامس ذي الحجة الحرام سنة 1329هـ الموافق للسادس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1911م.

أما بيان الشيخ الخراساني، والسيد إسماعيل الصدر، والشيخ عبد الله المازندراني، وشيخ الشريعة الاصفهاني قد جاء فيه.. «إن هجوم روسيا على إيران، وإيطاليا على طرابلس الغرب، موجب لذهاب الإسلام، واضمحلال الشريعة الطاهرة والقرآن، فيجب على كافة المسلمين أن يجتمعوا ويطالبوا من دولهم المتبوعة رفع هذه التعديات غير القانونية من روسيا وإيطاليا.. جهاداً في سبيل الله كالجهاد في بدر وحنين».

وقد أكد هذه الفتوى بفتاوى مماثلة، بعد الوفاة المفاجئة للخراساني، إثنان من كبار المجتهدين هما: الشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ مهدي الخالصي.

إلا أن الوفاة المفاجئة للخراساني، عرقلت قرار العلماء في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، بتوجيه المجاهدين نحو إيران لحرب الروس، وتلكأت حركة الجهاد من التوجه إلى ميادين القتال وتحولت الجهود والاهتمامات بالحدث المؤلم نحو إقامة مجالس العزاء والفواتح على روح المرجع القائد الشيخ الخراساني، وجرى فيها تذكير الناس بالاعتداءات الأجنبية على بلاد المسلمين.

ومع ذلك فقد تمّ تشكيل مجلس تنفيذي يتولى مهام الإعداد والتخطيط للمجاهدين ضمّ ثلاثة عشر عضواً هم (السيد مصطفى الكاشاني، السيد حسن صدر الدين، شيخ العراقيْن، الميرزا محمد حسين النائيني، الميرزا مهدي بن الآخوند الخراساني، الشيخ جواد الجواهري، السيد أبو الحسن الاصفهاني، الشيخ إسحاق الرشتي، نجل السيد صدر الدين، الشيخ عبد الحسين الرشتي، الشيخ محمد رضا بن شيخ العراقيْن، السيد عبد الله الاصفهاني، السيد محمد رضا أرومية).

ووضع لهذا المجلس مجموعة قواعد تنظيمية ترعى التحرك الجهادي. وبالفعل تحرك المجاهدون بزعامة العلماء من النجف إلى كربلاء وإلى بغداد، ثم إلى الكاظمية. إلا أن الحكومة الإيرانية طالبت العلماء المجاهدين بالتريث في الحركة الجهادية، وأخبرتهم بأنها في طريقها لحل الأزمة مع روسيا عبر المفاوضات السلمية، وأن القوات الروسية انسحبت من بعض مناطق إيران.

وفي أواخر آذار 1912م، أي أواسط ربيع الثاني 1330هـ، وصل إلى العراق خبر قصف مقام الإمام الرضا عليه السلام بالمدافع الروسية، وقتل وجرح عدد من الزائرين، فاجتمع العلماء في الكاظمية منهم: السيد مهدي الحيدري، الشيخ مهدي الخالصي، السيد إسماعيل الصدر، الشيخ عبد الله المازندراني، شيخ الشريعة الاصفهاني، الشيخ محمد حسين القمشئي، السيد علي الداماد، السيد مصطفى الكاشاني. وأعلنوا الجهاد ضد روسيا، وقد غاب عن الاجتماع المرجعان الكبيران الميرزا محمد تقي الشيرازي في سامراء، والسيد كاظم اليزدي في النجف، وتقرر أن يتصل بهما الشيخ الخالصي لينضما مع العلماء في إعلان الجهاد، ولم يجد صعوبة بإقناع الميرزا الشيرازي، وبالفعل حضر إلى الكاظمية، وبعد اجتماعات طويلة توصل العلماء إلى أن الحل السلمي عبر المفاوضات السياسية لهذه الأزمة، وهو ما تفعله الحكومة الإيرانية هو الحل الأفضل.

وعلى ضوء ما تقدم، فإن الوضع في العراق قد تبلور في الوعي الإسلامي إلى المستوى الحركي والجهادي إثر عوامل ذاتية كامنة فيه، من خصوصياته وتاريخه القيادي، إلى جانب ظهور طبقة من العلماء المصلحين والمثقفين الناضجين وعلى رأسهم القيادة المرجعية الواعية التي واكبت الأحداث بجدارة وهي تنطلق من الأصالة المبدئية في التعامل السياسي، مستمدة قوتها من الفكر الإسلامي والأمة المسلمة. وكانت للحركة الدستورية في إيران، الأثر الأكبر في نمو الوعي الثقافي والجهادي على الساحة العراقية، وذلك لطبيعة التداخل بين الشعبين المسلمين، وللوجود الشخصي للمرجع القائد في النجف، كما كان للحركة الدستورية العثمانية 1908م تأثيرها في تطور الوعي الإسلامي في العراق.

وكذلك ظهرت لتطورات سياسة الاتحاديين انعكاسات مضادة داخل الساحة العراقية، أدت بالنتيجة إلى تنضيج وبلورة الوعي إلى مستويات متقدمة في حركة الأمة على المستوى الثقافي والسياسي.






1 التعليقات:

غير معرف الكاتب

السلام عليكم دكتور محمد.. سلمت تلك الانامل التي سطرت اروع الكلمات.. فقط سؤالي دكتور عن المصادر التي استخدمتها في هذا البحث الرائع..؟ ودمتم في رعاية الله وحسن توفيقه.

تعليق

إرسال تعليق