لماذا استعمل أمير المؤمنين زياد بن أبيه وأمثاله وهو يعلم بسوء عواقبهم؟

بقلم: الشيخ وسام البلداوي
لا يخفى على المعتقد بمذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أن الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وجميع أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يعلمون بتعليم من الله سبحانه وتعالى ما يخفى عن بقية عامة الناس، وقد ورد في كتب الحديث روايات كثيرة تحكي هذه الحقيقة.
وعليه فيكون الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يعلم بتعليم من الله سبحانه وتعالى بحقيقة زياد بن أبيه وما تخفيه نفسه وينعقد عليه ضميره، وبما سيصدر منه من أفعال مشينة وجرائم خطيرة بحق المؤمنين والموالين، ويترتب على كل هذا سؤال بديهي وهو لماذا إذن استعمله أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه على ولاية أرض خراسان وكرمان وهو يعلم بما ستؤول إليه عاقبته؟.
أقول: إن الأسباب التي حدت بأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى استعمال زياد بن أبيه كثيرة يمكن إرجاعها إلى سببين رئيسين هما:

  السبب الأول: يعود إلى زياد بن أبيه نفسه  
فواحدة من أهم وظائف الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ــ بوصفه إماماً منصوباً من قبل الله سبحانه وتعالى ولطف لجميع خلقه ــ هي تربية الأمة بجميع أفرادها ومحاولة استصلاح من يكون قابلا للاستصلاح منهم، وزياد بن أبيه كان يملك من الطاقات والقدرات ما تميزه عن بقية أقرانه، كالكتابة وحسن الخط والتنظيم الإداري وغير ذلك، ولكنه كان يعاني من نقص روحي وعقدة اجتماعية لأنه قد اشتهر بين الناس بأن ولادته غير شرعية، والإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حاول الاستفادة من امتيازاته لخدمة المجتمع من جهة، وحاول أيضا إيصال الخير والنفع لشخص زياد بن أبيه واستصلاحه وسد فراغ النقص في داخل نفسه.

فأوكل إليه مهمة تهدئة الذين خرجوا على دولة أمير المؤمنين وإطفاءهم في أرض فارس وكرمان، وفي هذا الفعل خدمة جليلة للمجتمع، وفي المقابل أبعد زياد بن أبيه عن أرض العرب التي كان يشعر فيها بالضعف والامتهان والحقارة بسبب عقدة النسب، وأرسله إلى أرض بكر لا تعرفه بجميع تفاصيله ليبدأ فيها بداية جديدة تخفف آلامه ومعاناته وتساعد على علاجه من أمراضه وأزماته النفسية مع مرور الوقت، فيصبح بذلك إنساناً فعالا خدوما يستغل طاقاته لخدمة المجتمع بعيدا عن كل خلفية نفسية معقدة تستدعي فيه حالة حب الانتقام والثأر والجريمة.

فالإمام صلوات الله وسلامه عليه بناء على هذا التوضيح كان ينظر إلى زياد بن أبيه بأنه إنسان مريض يتطلب من الدولة العلوية الجديدة الرعاية والاهتمام في سبيل إزالة آلامه أو التخفيف من معاناته، وفي المقابل كان ينظر إليه بأنه إنسان لديه من الإمكانات ما يمكن ان يستغل في خدمة المجتمع ورقيه وتكامله، فكانت ولايته على أرض فارس وكرمان خطوة تحقق هاتين الفائدتين.
ثم ان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بفضل علمه وحكمته كان متيقنا من ان زياد بن أبيه لو لم يتم احتواءه من قبل دولة الحق والعدل دولة أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فانه وبلا أدنى شك سيستغل ويسخر من قبل دولة معاوية ودولته دولة الباطل والجور.

وستكون العاقبة أشد والخسارة أكبر، وسيتضرر المجتمع أكثر بانضمام زياد إلى معاوية، وسيخسر زياد نفسه وسيقع في مستنقع معاوية وآل أمية، فكانت الحكمة قاضية باستعمال زياد بن أبيه لفائدته الشخصية من جهة ولفائدة المجتمع من جهة أخرى.

  السبب الثاني: يعود إلى الظرف الحرج والصعب الذي كان يعيشه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في تلك المدة الزمنية  
فان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لما وصلت إليه الخلافة ونحى ولاة عثمان بن عفان عن ولاياتهم ومناصبهم بعث مكانهم ثقاته من أصحابه ليحلوا محل ولاة الجور وليعيدوا تربية الأمة على وفق التعاليم الجديدة للدولة الجديدة.
ولكن أعداء أمير المؤمنين ومناوئيه أشعلوا بوجهه نيران الفتن والحروب، فما هي إلا أشهر قلائل حتى خرج عليه جيش النكث والغدر، جيش عائشة وجملها، ثم تبعته حرب صفين وما كان أشدها وأشرسها من حرب أكلت الأخضر واليابس، ثم فتنة الخوارج التي استتبعتها حرب النهروان، واستمرت هذه التقلبات وتلك المؤامرات يتبع بعضها بعضا إلى ان انتهت بمؤامرة مقتل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

وفي وسط هذه الظروف الصعبة كان الإمام أمير المؤمنين بأشد الحاجة إلى رجال مخلصين يشد بهم أزره ويرمي بهم عدوه ويستعين بهم على قيادة جيشه يملكون شعبية في أوساط الجماهير ليثيروا في نفوسهم الهمم ويستنهضوهم في أوقات الحاجة والشدة، فاستدعى من كان من أصحابه وثقاته على ولايات المملكة الإسلامية ليستعين بهم على نصرته، ثم يرسل مكانه من يدير أمر تلك المملكة مع المحافظة على نظام الرقابة الشديدة والصارمة على هؤلاء البدلاء.

وكشاهد على هذه الحقيقة نستعرض للقاريء الكريم ما نقل من استدعائه لعمر بن أبي سلمة المخزومي، وكان عامله على البحرين، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه: (أما بعد، فأنى قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك، ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية، وأديت الأمانة فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمه أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين، إن شاء الله)( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 173).

فكانت ولاية زياد من هذا الباب، فمن جهة أرسل الإمام صلوات الله وسلامه عليه زيادا إلى فارس ولم يرسل إليها أحد أصحابه الذين يستعين بهم في حربه الداخلية،وبذلك وفر قائدا من قادة جيشه فهو مكسب عسكري، ومن جهة ثانية استطاع زياد إخماد الثورة التي كانت في بلاد فارس وكرمان وهو مكسب عسكري ثان، ومن جهة ثالثة كان أمير المؤمنين شديد الحيطة والحذر والمتابعة لكل فعل من أفعال زياد فقد وضع عليه العيون ليخبروه عن كل صغيرة وكبيرة وكل خطوة يخطوها، فإذا ما رأى منه تقصير أو خيانة صغيرة أو كبيرة نبهه وحذره وربما هدده، كما في كتابه الذي كتبه صلوات الله وسلامه عليه إلى زياد حيث جاء فيه: (أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه: إن الأكراد هاجت بك، فكسرت عليك كثيرا من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين. يا زياد وأقسم بالله انك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر)( تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 204 خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب).

وسياسة التشديد على ولاته ومراقبتهم ومحاسبتهم والاقتصاص منهم ان استلزم الأمر كانت الصفة البارزة التي ميزت حكومته عن حكومة من سبقه من الحكام، فقد كتب إلى احد عماله ما يلي: (بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك انك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن إعتامك من أعراب قومك، فو الذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقا لتجدن لك علي هوانا، ولتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا)( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج16 ص175 من كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني).

وكتب إلى آخر: (فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله، غير متأثم من أخذه، كأنك حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد أوما تخاف نقاش الحساب . . . كيف تسيغ شرابا وطعاما، وأنت تعلم أنك تأكل حراما، وتشرب حراما، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفراً مني بإرادة، حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل من مظلمتهما)( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج16 ص168).

وقد كان يرسل العيون لمتابعة ولاته من حيث لا يشعرون فيكتب له ذلك العين بجميع ما يقع عليه نظره من سلبيات وايجابيات كما كتب صلوات الله وسلامه عليه إلى كعب بن مالك: (أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم أن كل عمل ابن آدم محفوظ عليه مجزي به، فاصنع خيرا صنع الله بنا وبك خيرا، وأعلمني الصدق فيما صنعت، والسلام)( تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 204 ــ 205 خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) .

فمع كل هذا التشديد والمراقبة والإحصاء لكل صغيرة وكبيرة على الولاة لا يضر تولي زياد بن أبيه ولا غيره ما دامت الخيانة منهم مأمونة، والمتابعة لهم مستمرة، وحقوق المسلمين واصلة وحدودهم وثغورهم آمنة.

2 التعليقات

الامين عبدالباقي بابكر الكاتب

عمل باجتهاده المعصوم واخذ حذره في ماولاه الله من امورالعباد فجزاه الله عن العباد والبلاد اعظم الجزاء

تعليق
زهراء علي حسين الكاتب

افدتونا وبارك الله فيكم . لم نكن نعلم ماقراناه اللهم العن كل من ناصب العداء لاهل بيت رسول الله .ص. واله اجمعين

تعليق

إرسال تعليق