التولي والتبري أهما من فروع الدين أم من أصوله؟

بقلم: الشيخ وسام البلداوي
  هل توجد ضابطة لتمييز أصول الدين من فروعه؟  
لم نجد فيما تتبعناه ضابطة منطقية أو عقلية منصوصة ومتفقاً عليها يمكن أن يعول عليها في التفريق بين أصول الدين وفروعه، اللهم إلا بعض الأمور التي ذكرت هنا وهناك والتي ربما يمكن الرجوع إليها لتحديد المائز بين أصول الدين وفروعه، وسنذكر فيما يأتي بعض ما يمكن أن يكون فارقا ومائزا, وعليها سنعول في مسألة تصنيف البراءة والولاية تحت مسائل أصول الدين أو فروعه.

  أولا: الأصول هي الأسس الفكرية العقائدية والفروع هي السلوكيات الشرعية  
قد يكون معنى الأصول هي تلك الأسس الفكرية والعقائدية للدين الإسلامي، فكل الأمور التي ترتبط بعقيدة الإنسان وسلوكه الفكري تدخل في مسائل أصول الدين، أما فروع الدين فهي تلك الأحكام والمسائل التي شرعت لتوجيه سلوك الإنسان العملي والعبادي وتنظيم حياته الفردية والاجتماعية وإرشاده إلى ما فيه خيره وصلاحه.

  ثانيا: الأصل هو الذي إن فقد لم يبق للبناء وجود والفرع بعكسه  
وقد يكون معنى أصول الدين مأخوذ من أصل البناء والأساس الذي إن فقد لم يبق للبناء وجود، أما الفروع فهي بقية البناء الذي يعتمد في وجوده على وجود تلك الأصول، فالصلاة بكل أحكامها وتفريعاتها وأفعالها تعتمد على أصل النبوة وكذلك الحال بالنسبة للصيام والحج والعمرة والجهاد وغيره، فلولا وجود النبي والنبوة لما وجد عندنا أمر بالصلاة وغيرها، والذي يستتبع بدوره وجود أحكام ومسائل تشرح وتفصل للمكلف كل ما يتعلق بهذا الأمر الإلهي.

ولنفس الأصول توجد أصول ترجع إليها، فالإمامة مثلا وان كانت أصلا من أصول الدين إلا أنها متفرعة من أصل آخر هو النبوة، وكذلك النبوة وان كانت أصلا من الأصول إلا أنها متفرعة من أصل وجود خالق للكون عادل حكيم، فلولا وجود الله سبحانه لما وجدت النبوة ولولا النبوة لما وجدت الإمامة، ولولا الكل لما وجد المعاد، فيتلخص مما مر أن للفروع أصولاً ترجع إليها كما إن لنفس الأصول أصولاً تتفرع عنها.

  ثالثا: الأصول هي التي يستدل على أصل وجودها بالعقل أما الفروع فتثبت بالأدلة الشرعية  
وربما أخذ في أصول الدين قيد أن يكون الدليل الدال على أصل وجودها دليلا عقليا وليس شرعيا، على اعتبار ان الأدلة الشرعية متأخرة في الرتبة الوجودية عن الأصول الإعتقادية، فالدليل القرآني أو الروائي متفرع عن أصل النبوة أو الإمامة، فلا يمكن أن يستدل به على إثبات النبوة، أو التوحيد، أو العدل، للزوم الدور في ذلك(يمكن تصوير الدور بهذه الصورة، فإثبات النبوة متوقف على الدليل الروائي، واثبات الدليل الروائي متوقف على النبوة، فيتوقف إثبات النبوة على إثبات النبوة، وتوقف الشيء على نفسه دور صريح)، فلابد من الاعتماد على الأدلة العقلية في إثبات الأصول الإعتقادية، ويكون الاستفادة من الدليل الروائي للتأييد أو لإثبات تفريعات ذلك الأصل، كإثبات كثير من مسائل المعاد، فأصل المعاد وإن كان قد دل العقل عليه إلا أن كثيرا من تفريعاته وتفصيلاته ثبتت بالدليل النقلي، كوجود الصراط والميزان والشفاعة وغير ذلك، وثبوتها بالدليل النقلي لا يخرجها عن كونها من مسائل أصول الدين.

أما فروع الدين فغير مأخوذ فيها قيد أن يكون الدليل الدال على ثبوتها دليلا عقليا، وعليه فيمكن أن يثبت الفروع بالدليل العقلي والنقلي القطعي أو الظني على تفصيل مذكور في محله.

  تطبيق الشروط المذكورة آنفاً على مسألة التولي والتبري:  
يمكن لنا أن نجد ثلاثة معان للولاية والبراءة من جهة سعة أو ضيق ما يندرج تحتها من مصاديق:

  الأول: الولاية والبراءة بمعناها العام  
وبملاحظة ما تقدم يمكن ان نعد مسألة البراءة والولاية بمعناها العام مسألة من مسائل أصول الدين لدخولها ضمن أصول الدين المجمع على أصوليتها، فالتوحيد لا يتم ما لم يتبرأ المؤمن من كل شريك لله سبحانه في الوجود أو التصرف أو العبادة، قال سبحانه: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهةً أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إلهٌ واحدٌ وإنني بريءٌ مما تشركون}.
بل ان شهادة التوحيد (أشهد أن لا اله إلا الله) هي عبارة عن شقين شق براءة وشق ولاية،ولا يتم هذا الأصل من أصول الدين إلا بهما، فلا تردد حينئذ من دخولهما ــ الولاية والبراءة ــ في جملة مسائل أصل التوحيد، بل هما جوهر هذا الأصل ولبه، وكذلك أصل النبوة والإمامة والمعاد فان الاعتقاد به لا يتم ولا يكتمل إلا بتفعيل مسألة الولاية والبراءة.

  الثاني والثالث: الولاية بمعناها الخاص والأخص  
أما البراءة والولاية بمعناها الخاص القاضي بولاية عموم أولياء الله سبحانه والبراءة من عموم أعداء الله سبحانه، أو الولاية بمعناها الأخص والقاضي بولاية أولياء أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والبراءة من أعدائهم، فإنها وبلا أدنى شك جزء لا يتجزأ من أصلي النبوة والإمامة، وقد وردت أقوال الأعلام رضوان الله تعالى عليهم صحيحة صريحة بان جميع الأصول الإعتقادية لا تتم إلا بالتولي والتبري، وفي هذا الصدد يقول الشيخ الصدوق قدس الله روحه: (ولا يتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمة إلا بالبراءة من أعدائهم)( الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 105 ــ 107)وما لا يتم الأصل إلا به فهو أصل أيضا.

  الدليل العقلي يثبت ضرورة الاعتقاد بمسألتي الولاية والبراءة  
ذكرنا فيما سبق أن أصول الدين مأخوذ فيها قيد أن يكون الدليل الدال على أصل وجودها دليلا عقليا وليس شرعيا، ومسألتي الولاية والبراءة، تدخل ضمن هذا القانون، والعقل ومن دون الاعتماد على أي دليل شرعي يستقل بالحكم على حسن تولي الصالحين والتبرؤ من الطالحين، أو وجوب تولي الحق وأهله، والبراءة من الباطل وأهله، لذا تكون الولاية والبراءة من أصول الدين لان الدليل الدال على أصل وجوبهما هو الدليل العقلي، وما دل على وجوب ذلك من الأدلة الشرعية يكون مؤيداً ومنطبقا مع حكم العقل وأدلته.

  القران صنف الولاية والبراءة من أجزاء الإيمان والإيمان يتعلق بالأصول  
تقدم فيما سبق ان إحدى الفوارق التي على أساسها يمكن التمييز بين أصول الدين وفروعه هي أن الأصول عبارة عن تلك الأسس الفكرية والعقائدية للدين الإسلامي، فكل الأمور التي ترتبط بعقيدة الإنسان وسلوكه الفكري تدخل في مسائل أصول الدين، والقران الكريم في آياته المباركة جعل الولاية والبراءة جزءاً من أجزاء الإيمان، وبين وبكل وضوح أن الإيمان الذي لا يترافق مع البراءة والولاية إيمان ناقص بل إيمان لا يعتد به كما قال سبحانه: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...}( سورة المجادلة الآية رقم 22).
وقال سبحانه: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون}( سورة المائدة الآية رقم 81).

  الأحاديث الشريفة جعلت الولاية والبراءة من دعائم الإسلام، ودعائم الإسلام هي أصوله  
تقدم أن معنى أصول الدين مأخوذ من أصل البناء والأساس الذي إن فقد لم يبق للبناء وجود، والأحاديث الشريفة عن المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين جعلت مسألة البراءة والولاية من دعائم الإسلام وقرنوها بالشهادة بوحدانية ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فيكون حكمها حكم هذه الأمور، فعن عيسى بن السري قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زكى عملي ولم يضرني جهل ما جهلت بعده، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله، والإقرار بما جاء به من عند الله وحق في الأموال من الزكاة(لعل المقصود من الزكاة هنا هو أصل الاعتقاد بها لا أداؤها الذي هو من الفروع)، والولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، قال الله عز وجل: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» فكان علي عليه السلام، ثم صار من بعده حسن ثم من بعده حسين ثم من بعده علي بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الأمر، إن الأرض لا تصلح إلا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه ههنا قال: وأهوى بيده إلى صدره يقول حينئذ: لقد كنت على أمر حسن)( الكافي للشيخ الكليني ج 2 ص 21 باب دعائم الإسلام الحديث رقم 9).

وعن إسماعيل الجعفي قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، فقال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئا هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين، قلت من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم)( الكافي للشيخ الكليني ج 2 ص 405 باب المستضعف الحديث رقم 6).

قال الشيخ الأنصاري قدس الله روحه بعد ذكر هذا الحديث: (فإن في قوله عليه السلام «ما جهلت شيئا» دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين)( فرائد الأصول للشيخ الأنصاري ج1 ص564 عدم اعتبار معرفة التفاصيل في الإسلام والإيمان للأخبار الكثيرة) وكلامه قدس الله روحه صريح في إدراج كل واحد من الأمور التي ذكرت في الرواية في ضمن أصول الدين، والولاية والبراءة منها فيشملهما حكمه السابق.

  تصريح جملة من العلماء بكون الولاية والبراءة من مسائل أصول الدين  
ويدل على كون التولي والتبري من مسائل أصول الدين لا فروعه إضافة إلى قول الشيخ الأنصاري قدس الله روحه المذكور آنفاً،ما صرح به العلامة المجلسي قدس الله روحه عند تعليقه على الرواية التالية: (عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحب والبغض أمن الإيمان هو فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض،ثم تلا هذه الآية {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}( سورة الحجرات الآية 7).
قال العلامة المجلسي قدس الله روحه : (تبيان:«عن الحب والبغض» أي حب الأئمة عليهم السلام وبغض أعدائهم أو الأعم منهما ومن حب المؤمنين والطاعة،وبغض المخالفين والمعصية، والغرض من السؤال إما استعلام أن الاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم السلام ومحبتهم، والتبري عن أعدائهم هل هما من أجزاء الإيمان وأصول الدين كما هو مذهب الإمامية؟ أو من فروع الدين والواجبات الخارجة عن حقيقة الإيمان كما ذهب إليه المخالفون...)( بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 66 - ص 241).
انتهى محل الشاهد من كلامه رفع الله في الجنة مقامه، وفيه ما لا يخفى من جعل مسألتي الولاية والبراءة من مسائل الأصول ونسب القول بأصوليتهما إلى مذهب الإمامية، وعد القول باعتبارهما من الفروع والواجبات الخارجية هو مذهب العامة المخالفين لمذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد عد الشيخ المفيد قدس الله روحه مسألتي الولاية والبراءة في كتابه (المقنعة) من مسائل أصول الدين،فقد قسم كتابه على شكل أبواب بدأها بالباب الأول وتحت عنوان (ما يجب من الاعتقاد في إثبات المعبود وصفاته) ثم عطف عليه الباب الثاني تحت عنوان (ما يجب من الاعتقاد في أنبياء الله ورسله) وتبعه بالباب الثالث الذي سماه (ما يجب في اعتقاد الإمامة) وتبعة بالباب الرابع الذي وضع له عنوان (ما يجب من ولاية أولياء الله) ثم تبعه بالباب الخامس تحت عنوان (ما يجب من اعتقاد المعاد والجزاء) ثم وبعد ان استوفى الكلام حول الأصول الإعتقادية شرع في الباب السادس وتحت عنوان (ما يجب معرفته والعمل به من شرائع الإسلام) وجعل الكلام في الباب السابع حول أول تلك التكاليف والأحكام وسماه (فرض الصلاة) وهكذا ترقى في بحث بقية أحكام الشريعة وأجزاء فروع الدين.

ومحل الشاهد في ذكر هذا التفصيل هو جعل الشيخ المفيد قدس الله روحه مسالة الولاية أولياء الله والتبري من أعداء الله بين أصلين من أصول الدين، بين الإمامة والمعاد ولم يذكرها في ضمن مسائل فروع الدين أو ما سماه قدس الله روحه بـ (ما يجب معرفته والعمل به من شرائع الإسلام) فلو كان قدس الله روحه يعتقد بدخولهما ضمن فروع الدين لما كان يحسن منه ذكرهما ضمن الأصول الإعتقادية، فيكون ذكرهما في الأصول دليل على اعتباره قدس الله روحه واعتقاده بأنهما من مسائل أصول الدين فتأمل.

  لماذا عد البعض مسألتي الولاية والبراءة من فروع الدين  
اتضح مما سبق أن الولاية والبراءة فكر وعقيدة قبل أن يكونا فعلاً من أفعال الجوارح، وهما منهج عقلي وفكري قبل ان يكونا منهجاً عملياً خارجياً، ولعل نظر بعض الأعلام في تصنيف الولاية والبراءة في مسائل فروع الدين ناظر إلى ارتباط وانعكاسهما هاتين المسألتين ــ التولي والتبري ــ على أفعال الإنسان الخارجية المحكومة بواحد من الأحكام الخمسة(الأحكام الخمسة هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة)، إذ أن لكل مبدأ فكري عقائدي تطبيقات خارجية تكون داخلة يقينا تحت حكم من تلك الأحكام الخمسة، فالاعتقاد بالصلاة بكونها أمراً جاء به النبي الأعظم من عند الله سبحانه داخل تحت أصل النبوة والتصديق بكل ما جاء به، أما انعكاس هذا الاعتقاد على أفعال الإنسان يستلزم قيام الإنسان المصلي بأفعال وأعمال خارجية كالوضوء والتوجه نحو القبلة والقراءة والكوع والسجود وغير ذلك، ويستلزم كذلك تحصيل بعض الشروط كخلو البدن ولباس المصلي عن النجاسة وغير ذلك، كل هذه الأفعال والمقدمات والشروط الخارجية حينما تتجسد في الخارج تدخل في ضمن مسائل فروع الدين، ليحكم على كل واحد منها بأحد الأحكام الخمسة.
فمسألتا الولاية والبراءة ما دامتا اعتقاداً يسكن الروح ويقطن في عقل الإنسان وقلبه، أمكن وبلا أدنى شك عدهما من مسائل أصول الدين، أما حينما تنعكس هاتان المسألتان على سلوك الفرد وأفعاله الخارجية فأنهما تدخلان وبلا أدنى شك في مسائل فروع الدين وتلحقهما إحدى الأحكام الخمسة.


إرسال تعليق