الآثار النفسية والتربوية لزيارة القبور

بقلم: الشيخ جميل الربيعي
لم تكن زيارة قبور المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مجرد تسلية للنفس، أو قضاء للوقت، وإنما هي عملية تربوية يتذكر فيها الإنسان الذين عايشهم، وكانوا معه يأكلون ويشربون ويعملون... والآن هم تحت الجنادل تأكل لحومهم ديدان الأرض.

 في الزيارة تعميق لخوف الله في النفس وتذكير لها بالفناء 
وبهذا التفكير يعمّق الإنسان إيمانه بيوم الدين، ويركز الخوف من الله في نفسه، ويلقنّها دروساً تربوية رائعة، ويوحي لها بالفناء والرحيل عن هذه الدنيا، فيا له من درس عميق الدلالة! وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله فتراه يخرج آخر الليل إلى البقيع ويقول:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غداً، مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». (النووي، شرح صحيح مسلم: 7/44).

 في زيارة القبور وعظ وتطهير للنفس  
فالزيارة تعبر عن طريقة تربوية إيجابية للنفس، لتحد من طموحها الدنيوي وطول أملها إذن لم تكن زيارة القبور عملية عبثية، ولا المقصود منها عبادة الموتى كما صورتها الوهابية الضالة، وإنما هي عملية وعظ للنفس، وتطهير لها من الطمع والجشع وطول الأمل، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.

 في الزيارة وفاء لحق الأموات من المسلمين 
والحكمة الأخرى لزيارة القبور هي: التواصل الإنساني مع الميت، وفاء لبعض حقوقه حيث انقطعت علاقته بالدنيا فينبغي لمحبيه وعارفيه الدعاء والترحم، والاستغفار له كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارته لأهل البقيع قال السبكي: «وهذا مستحب في حق كل ميت». (شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 191).
وقد روى بن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه وردّ عليه السلام». (المصدر السابق نفسه).

كما أن الزيارة لقبر الميت رحمة له، ورقّة وتأنيساً له، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:«آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبّه في دار الدنيا». (نفس المصدر السابق).

 في زيارة قبور الأنبياء والصالحين استلهام للدروس والعبر  
ومن حكمة الزيارة للقبور لاسيما الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم استلهام الدروس والعبر من حياتهم الشريفة، يقول تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة هود120)
وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة يوسف 111) .
فالإنسان المؤمن الواعي الكادح إلى الله عندما يقف أمام قبور العظماء يستعيد في ذهنه سيرة هذا العظيم، ويستلهم من حياته الصبر على مواصلة السير والسلوك إلى الله.
ولعل أهم ما في زيارة القبور هو هذا الدرس العظيم حيث يقتدي بهم، ويتأسى بسيرتهم، وبهذا أمرنا الله تعالى بقوله:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...* لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. (سورة الممتحنة، الآيتان: 4 و6).
وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ذكر عدداً من الأنبياء والمرسلين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}. (سورة الأنعام، الآية: 90).

 في الاستغفار عند قبور النبي والأئمة عليهم السلام رقة للقلب وترسيخ للعقيدة 
ولا شك أن المؤمن عندما يقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر أي نبي، أو وصي نبي يستحضر تعاليمه، وهداه وهذا أكثر تأثيراً في النفس مما لو كان تصوراً مجرداً بعيداً عنه فالاستغفار عند ضرائحهم، والدعاء فيها، يولد الرقة ويفيض الدمعة، ويرسّخ العبرة، وما أجمل ما استدل به السبكي على شرعية زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (سورة النساء، الآية: 64).

يقول: «دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده، واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له صلى الله عليه وآله وسلم لا تنقطع بموته تعظيماً له.

فان قلت: المجيء إليه في حال الحياة؛ ليستغفر لهم، وبعد الموت ليس كذلك؟
قلت: دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تعالى توّاباً رحيماً بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم، واستغفار الرسول.

فأما استغفار الرسول: فإنه حاصل لجميع المؤمنين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (سورة محمد، الآية: 19).

ولهذا قال عاصم بن سليمان ــ وهو تابعي ــ لعبد الله بن سرجس الصحابي رضي الله عنه: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية». (صحيح مسلم: 7/86. كتاب الفضائل، باب إثبات خاتم النبوة، وانظر الشمائل للترمذي:22).

فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة؛ وهو استغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن ومؤمنة فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملة الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته... فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجيء إليه صلى الله عليه وآله وسلم مستغفراً في حياته، وبعد مماته». (السبكي شفاء السقام في زيارة خيرة الأنام: 181 ــ 182).

لذلك تواصل الحث والتأكيد حتى أصبحت الزيارات شعاراً من شعارات الشيعة ووسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى فلم تكن الزيارة للتسلية والترفيه، وليست عملاً دنيوياً بل هي عبادة روحية وبدنية يراد بها التقرب إلى الله تعالى بتكريم عباده الصالحين كما أنها لم تكن مجرد تكريم لإنسان ميت، وإنما هي عمل عبادي خالص لله تبارك وتعالى ذات أبعاد تربوية، وعقائدية، وفكرية تبني شخصية الزائر، وتشده إلى مسيرة المزور وعقيدته.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطاهرين.

إرسال تعليق