بقلم: الشيخ وسام برهان البلداوي
إن البحث عن مدى ثبوت كتب الحديث والرواية ومصداقيتها والموجودة في عصرنا الحاضر أمر ضروري للغاية، لان باب التدوين والرواية والنقل قد سد بعد صدور هذه المدونات الروائية، ووجب على الأمة أن تقنع بما ورد في هذه الكتب شاءت أم أبت، وتأخذ منها أحكامها وتشريعاتها، وتتعرف بها على كتاب الله وغوامضه، وتصل من خلالها إلى معرفة الأحداث والشخصيات التي عاصرت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أو تلته، وبالجملة فهذه المصادر هي نافذتنا الوحيدة التي تطل بنا على الماضي بجميع جزئياته التاريخية والشرعية وغيرها.
لذا كان لزاما علينا أن نبحث في مدى وثاقتها وسلامتها بنحو كلي، بغض النظر عما احتوته من مسائل جزئية، لنرى هل يمكن لنا الوثوق بصحة صدورها عن مؤلفيها ومدونيها؟.
وما مدى سلامة هذه الصحاح والسنن والمسانيد من التلاعب والتزوير والتدخل من قبل النساخ أو التلاميذ أو غيرهم؟.
وهل هي عين التي كتبها أصحابها أم تم إضافة أشياء فيها لم تكن موجودة؟ كما حذفت منها أشياء كانت موجودة فعلاً؟ كل هذا وغيره سيتم معرفته وإثباته في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.
وسنقتصر في كلامنا هنا على أنموذج واحد هو كتاب (موطأ مالك بن أنس) ونترك الخوض في باقي المسانيد والصحاح الأخر إلى مقالات لاحقة ستنشر تباعاً إن شاء الله تعالى.
لماذا نثير هذه الموضوعات الحساسة؟
هذا الموضوع ما كنا لنثيره ونتعرض له لولا تلك الهجمة الشرسة التي تتعرض لها مدونات الشيعة وكتبهم الروائية من قبل كثير من علماء أهل السنة ومحدثيهم ومثقفيهم، وبالخصوص تلك الهجمات التي تشنها الفرقة الوهابية المارقة، فيكون إثارة هذا الأمر بناءً على هذا ردا ودفاعا عن أهم مقدساتنا، لان مدوناتنا الروائية هي التي نقلت جميع الكلمات والأحاديث والعقائد والأحكام التي ورثناها عن أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين، فضربهم لها وحربهم عليها معناه ضرب جميع تلك الأحكام والعقائد والأحاديث، كما أن الدفاع عنها يعد بمنزلة الدفاع عن جميع تلك الأمور المهمة.
مالك بن انس بين المدح والذم
اختلفت كلمات معاصري مالك بن انس وتقييماتهم والذين جاؤوا من بعده حول شخصية مالك ومنزلته العلمية في الفقه والحديث والضبط ما بين مادح وقادح، وإن كانت كلمات المادحين دون القادحين هي الموجود والمشهور في المصنفات الحديثة، لان القدح في مالك معناه القدح في كتابه الموطأ، والقدح في الموطأ معناه القدح في باقي الصحاح والمسانيد كمسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم وغيرها، لان أساس اعتماد هذه المسانيد وتلك الصحاح على الموطأ وعلى رجال وأسانيد الموطأ، فإذا سقط الموطأ سقط ما في أيديهم من مسانيد وصحاح، لذلك تذكر كلمات المدح والتبجيل وتخفى كلمات القدح والتجريح.
فمن المادحين نذكر ما يأتي:
1: سفيان بن عيينة
حيث كان يقول: (ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بهم). «راجع التمهيد لابن عبد البر ج1 ص65».
وقال يحيى بن معين نقلا سفيان بن عيينة: (من نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك وننظر إلى الشيخ إن كان مالك كتب عنه وإلا تركناه). « راجع إسعاف المبطأ برجال الموطأ لجلال الدين السيوطي ص10».
2: يحيى بن معين
والذي قال: (كل من روى عنه مالك بن انس فهو ثقة). «المصدر السابق ص9».
3: ابن عيينة
والذي قال: (كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقة، ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته يعني من العلم). «راجع سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 73».
أقول: وسيأتي في محله ــ إن شاء الله ــ بان مالك بن انس قد روى في كتابه الموطأ عن عدة من المقدوح في عدالتهم والضعفاء في الحديث والمدلسين والكذابين، ومنه يعلم ان القوم يغالون في تضخيم شأن مالك وكتابه، وان العلة في هذا التضخيم هي التي أوضحها سفيان بن عيينة بقوله: (من نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك...) فالقوم قد أدركوا وتيقنوا بان القدح في مالك هو قدح بمن يأتي بعده لان الجميع قد مشى على خطاه واقتدى بمنهجه.
أما القادحون مالكاً ومنزلته العلمية فهم على سبيل المثال:
1: يحيى بن عبد الله بن بكير
الذي كان يقول: (الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك). « راجع الجرح والتعديل للرازي ج 7 ص 180».
وعن ابن عساكر عن ابن بكير أيضا انه كان يقول: (أخبرت عن سعيد بن أبي أيوب قال لو أن مالكا والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكا فيمن يريد). « تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 50 ص 359».
2:يحيى بن سعيد القطان
قال يحيى بن معين: (سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إلي من مالك في كل شيء يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد). « تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 9 ص164».
3: ابن أبي ذؤيب وإبراهيم بن سعد وآخرون كثيرون
وعن ابن عبد البر قال: (وقد تكلم ابن أبي ذؤيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره وهو مشهور عنه قاله إنكارا منه لقول مالك في حديث البيعين بالخيار، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه وتكلم في مالك أيضا فيما ذكره الساجي في كتاب العلل عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه وتكلم فيه غيرهم...). « جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 2 ص 160 ــ 161».
4: الهيثم بن جميل
قال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها ب «لا أدري») « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 77».
وعن خالد بن خداش قال: (قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل). «نفس المصدر السابق».
منزلة مالك من السلطة، وعلاقة المنصور العباسي بانتشار كتاب الموطأ
نقل الذهبي عن ابن سعد قال: (حدثنا محمد بن عمر، سمعت مالكا يقول: لما حج المنصور، دعاني فدخلت عليه، فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه يعني الموطأ فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك). « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 78 ــ 79».
وقال له في مجلس آخر: (والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، فلأحملنهم عليه). «المصدر السابق ص 61 ــ 62».
وعن حاجي خليفة قال: (روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن انس أنه قال شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت لا تفعل فان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه ــ وآله ــ وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله). «كشف الظنون لحاجي خليفة ج 2 ص 1908».
أقول: والمنصور وان لم يوزّع موطأ مالك ويلزم الناس باتباعه حصرا من دون بقية الكتب بحسب الظاهر من هذه النصوص، إلا انه أعطى مالك بن انس الصلاحيات الكاملة حتى نودي في المدينة ان ليس لأحد حق الإفتاء سوى مالك بن انس وشخص آخر مقرب من السلطة أيضا، فعن الخطيب البغدادي عن ابن وهب قال: (حججت سنة ثمان وأربعين ومائة. وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة). «راجع تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 10 ص 436».
وأصبحت له بفضل السلطان مهابة وسطوة، حتى ان الشافعي حينما أراد أن يتوسط له والي المدينة عند مالك بن انس قال له الوالي: (والله يا فتى إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس فإني لست أرى الذل حتى أقف على بابه). « تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 51 ص 285 ــ 286».
وصار مجلسه يشبه مجالس الملوك ودواوينهم، يضرب من يشاء ويخرج من يشاء، وفي اغلب الأحيان تكون أسباب الضرب والطرد شخصية أو تافهة، فعن محمد بن الفيض الغساني قال: (سمعت هشام بن عمار بن نصير يقول: باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج، فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك بن أنس، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك وغلمان قيام والناس يسألونه وهو يجيبهم، فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث:سل عن ما معك، فقلت له: يا أبا عبد الله ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي...). « تهذيب الكمال للمزي ج30 ص251 ــ 252».
وعن صالح بن محمد الحافظ قال: (سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك ابن أنس، فقلت له: حدثني. فقال: اقرأ. فقلت: لا بل حدثني. فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه. قال: يا غلام تعال اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر. قال: فذهب بي فضربني خمس عشرة درة. ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته. فقلت له: لقد ظلمتني، ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل...). « تهذيب الكمال للمزي ج30 ص252».
وموقفه من ابن إسحاق معروف، فابن إسحاق كان كثير الانتقاد لمالك بن انس وكتبه، وكان يقول: (هاتوا اعرضوا علي علوم مالك، فإني أنا بيطارها). « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 7 ص 50»،فما كان من مالك إلا أن يتهمه بالدجل، وصرح لبعض الحاضرين بقوله: (نحن نفيناه من المدينة). «نفس المصدر السابق».
وهذا القرب لمالك من السلطة هو الذي أسهم إسهاما فاعلا في نشر كتابه الموطأ ونشر مذهبه، على الرغم من وجود من هو أعلم منه فقها وفتوى، وقد اعترف ابن حزم بان كل من المذهب الحنفي والمذهب المالكي قد انتشرا بفعل الرياسة والسلطان، وقد نقل ابن خلكان هذه المقولة في كتابه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) بقوله: (قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي المقدم ذكره مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة...ومذهب مالك بن انس). «راجع وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج 6 ص 144».
هل كل رواة الموطأ ثقات وليس فيهم ضعيف؟
ذكرنا من قبل محاولة الترويج والترسيخ للفكرة القائلة إن جميع من روى لهم مالك بن انس في الموطأ هم ثقات ليس فيهم ضعيف ولا كذاب، لكن وحين الرجوع إلى الموطأ نجد بان مالك بن انس قد روى ليس عن الضعفاء فحسب بل وعن المشهورين بالوضع والدس والكذب، وفيما يأتي أنموذجين ممن روى عنهم مالك بن انس مع شهرتهم بالضعف والتدليس.
1: عبد الكريم بن أبي المخارق البصري المرجئ الضعيف
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وقد سأل أباه أحمد عنه فقال: (عبد الكريم أبي أمية بصري نزل مكة وكان معلما وهو بن أبي المخارق وكان بن عيينة يستضعفه قلت له قال ضعيف قال نعم). « راجع كتاب العلل لأحمد بن حنبل ج 1 ص 401».
وعن المزي قال: (عن يحيى بن معين: قد روى مالك عن عبد الكريم أبي أمية وهو بصري ضعيف). « راجع تهذيب الكمال للمزي ج 27 ص 112».
وقال الذهبي: (فأما عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية فشيخ بصري مؤدب ليس بقوي الحديث روى عن انس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير حدث عنه السفيانان وحماد بن سلمة ومالك وغيرهم وكان فقيها مرجئا). «تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 140».
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (أبو أمية عبد الكريم بن أبي المخارق...فضعيف الحديث، مؤدب يروي عن أنس، وعن مجاهد، وسعيد بن جبير. وعنه أيضا: مالك، والسفيانان، وحماد بن سلمة. وكان يرى الإرجاء مع تعبد وخشوع، يقال: اسم أبيه قيس. قال النسائي والدارقطني: متروك. وقال أحمد: ضربت على حديثه. وقال ابن عبد البر: اغتر مالك ببكائه في المسجد، وروى عنه في الفضائل). «سير أعلام النبلاء للذهبي ج 6 ص 83»، روى له مسلم والبخاري وجماعة آخرون.
2: محمد بن مسلم بن تدرس القرشي الأسدي، أبو الزبير المكي، مولى حكيم بن حزام
قال المزي: (وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: كان أيوب السختياني يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير! قلت لأبي: كأنه يضعفه؟ قال: نعم). « تهذيب الكمال للمزي ج 26 ص 407».
وعن المزي أيضا قال: (وقال هشام بن عمار عن سويد بن عبد العزيز: قال: لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير وهو لا يحسن أن يصلي... وقال نعيم بن حماد: سمعت هشيما يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه... وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء: قلت لشعبة: مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يزن ويسترجح في الميزان... روى له الجماعة إلا أن البخاري روى له مقرونا بغيره). «نفس المصدر السابق ص407 ــ 411».
إثبات وقوع التزوير والدس في كتاب الموطأ لمالك بن أنس
كتاب الموطأ من أعجب الكتب الروائية وأكثرها غرابة، وفيما يلي جملة من غرائبه وعجائبه مرتبة على شكل نقاط ليسهل بها استنتاج ما كررناه مرارا من وقوع التلاعب والدس في هذه المدونة التي بنيت عليها بعد ذلك جميع المدونات المسماة بالصحاح والمسانيد.
مالك يحذف أربعة آلاف رواية من كتابه الموطأ ولو بقي لأسقطها كلها
أودع مالك بن انس في كتابه الموطأ في بداية الأمر أربعة آلاف حديث، وقيل عشرة آلاف حديث، لكنه وبعد مدة جعل يسقط منه الأحاديث شيئا فشيئا، فكلما شك في حديث أسقطه، حتى بقي منه ألف حديث على بعض الأقاويل وسبعمائة أو قريب منه على قول آخر، ولو بقي قليلا لأسقطه كله، قال الباجي: (ألفه من أربعة آلاف على قول سليمان بن بلال، وعشرة آلاف على قول عتيق الزبيري. « فلم يزل ينظر فيه سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله. قال القطان: كان علم الناس في زيادة وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله). «التعديل والتجريح لسليمان بن خلف الباجي ج1 ص125».
عشرون أو ثلاثون نسخة خطية لموطأ مالك والاختلاف الفاحش فيما بينها
ان أحاديث الموطأ وان كانت قليلة بالنسبة إلى غيره من كتب المسانيد والصحاح، إلا ان النسخ التي نقلت لنا هذا الكتاب قد بلغت عشرين نسخة على قول، وثلاثين نسخة على قول آخر، وقد وقع الاختلاف فيما بين هذه النسخ حول عدد الأحاديث التي يضمها كتاب الموطأ، فبعضها يذكر سبعمائة حديث فقط، وبعضها الآخر يذكر ما يقارب الألف وخمسمائة حديث.
وكذلك وقع الاختلاف بين هذه النسخ العشرين أو الثلاثين في الأحاديث نفسها فبعضهم يثبت في نسخته حديثا لا نراه في النسخ الأخر وبعضهم ينفي حديثا نراه متوفرا في باقي النسخ الأخرى وهكذا، وفي هذا الصدد يقول جلال الدين السيوطي نقلا عن القاضي عياض: (والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته أو وقف عليه أو كان من روايات شيوخنا، أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطآت نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة). « تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي ص10».
وقال السيوطي أيضا في موضع آخر: (وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص وأكبرها القعنبي ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب. فقد قال ابن حزم في موطأ أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث وقال الغافقي في مسند الموطأ، اشتمل كتابنا هذا على ستمائة حديث وستة وستين حديثا، وهو الذي انتهى إلينا من مسند موطأ مالك). « تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي ص8 ــ 9».
وقد ألف بعض علماء أهل السنة كتابا اسماه اختلاف الموطآت، قال الذهبي متحدثا عن الباجي: (وقد صنف كتابا كبيرا جامعا، بلغ فيه الغاية، سماه «الاستيفاء»، وله كتاب «الإيماء في الفقه» خمس مجلدات، وكتاب «السراج في الخلاف» لم يتم، و «مختصر المختصر في مسائل المدونة»، وله كتاب في اختلاف الموطآت). «راجع سير أعلام النبلاء للذهبي ج 18 ص 538».
وكذلك فعل أبو الحسن الدارقطني حيث كتب كتابا اسماه (اختلاف الموطآت).
النسخة المشهورة الآن لكتاب الموطأ هي واحدة من أربعة عشر نسخة قد أخفيت عن عمد
عمدة النسخ الموجودة حاليا للموطأ أربعة عشر نسخة، أشهرها نسخة يحيى بن يحيى المصمودي وهي المعروفة والمتوفرة في المكتبات العامة والأسواق اليوم، أما باقي النسخ فهي متضاربة مع بعضها ومع نسخة المصمودي أيضا، ولذلك أخفيت تلك النسخ ولم تشتهر حتى لا يشتهر تضاربها وتناقضها بين العامة فيفتضح أمرهم.
بعض التناقضات بين نسخ كتاب الموطأ
وفيما يلي جملة من تلك الأحاديث التي انفردت بها بعض النسخ عن البعض الآخر:
أ: انفردت نسخة ابن وهب (وهو أبو محمد عبد الله بن سلمة الفهري المصري) بأحاديث منها حديث: (عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) ولا يوجد هذا الحديث في الموطآت الآخر، إلا موطأ ابن القاسم. « انظر مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص10 ــ 11، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
ب: انفردت نسخة أبى عبيد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري بأحاديث منها حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: (من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، فهو له كله أنا أغنى الشركاء) قال أبو عمر، ابن عبد البر: هذا الحديث لا يوجد إلا في موطأ ابن القاسم، وابن عفير، من الموطآت. « انظر المصدر السابق ص11».
ج: انفردت نسخة أبى عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي بأحاديث منها حديث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. إنما أنا عبد. فقولوا: عبده ورسوله). « انظر المصدر السابق ص12».
د: انفردت نسخة عبد الله بن يوسف الدمشقي عن غيرها. إلا نسخة ابن وهب بحديث عن عروة: (أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال إيمان بالله). « انظر مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص12، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
هـ: انفردت نسخة معن القزاز بأحاديث منها بأحاديث منها حديث عن عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم يصلي في الليل، فإن فرغ من صلاته، فإن كنت يقظانة تحدث معي، وإلا اضطجع حتى يأتيه المؤذن). « انظر المصدر السابق ص12 ــ 13».
و: انفردت نسخة سعيد بن عفير عن غيرها من الموطآت، إلا موطأ محمد بن الحسن بحديث عن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شهاب عن جده أنه قال: (يا رسول الله. لقد خشيت أن أكون قد هلكت. قال لم؟ قال: نهانا الله أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب أن أحمد. الحديث). « انظر المصدر السابق ص13».
ز: انفردت نسخة ابن بكير إلا نسخة محمد بن الحسن بأحاديث منها حديث عن عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه ليورثنه). فمتن هذا الحديث، في رواية محمد، برواية مالك عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة. «نفس المصدر السابق».
ح: انفردت نسخة أبى مصعب الزهري بنحو مائة حديث على سائر الموطآت الأخر، وقال ابن حزم: (آخر ما روى عن مالك موطأ أبى مصعب وموطأ أبى حذافة وفيهما زيادة على الموطآت نحو من مائة حديث). « تذكرة الحفاظ للذهبي ج2 ص483».
هذه بعض الاختلافات التي انفردت بها بعض الموطآت عما سواها، واستقصاء الجميع ليس من شان هذا البحث المقتضب.
الدليل القاطع على تلاعب النساخ والمدونين بكتاب موطأ مالك
أقول: ان وجود بعض الأحاديث في بعض النسخ واختفائها من البعض الآخر، حتى يصل الاختلاف في بعض الأحيان إلى ان يزاد على الموطأ مائة حديث كما في نسخة أبي مصعب الزهري، لمن أعظم الأدلة على وجود حالة التلاعب والدس والحذف من كتاب الموطأ، لان هذه الأحاديث لو كانت مدونة عن مالك فعلا، فلماذا تحذف من بعض النسخ وتضاف إلى أخرى، وإذا لم تكن موجودة فكيف تضاف إليها؟.
وأوضح مثال يثبت لنا تدخل النساخ والمدونين وتلاعبهم بموطأ مالك بن انس، هو ما وقع في نسخة محمد بن الحسن الشيباني، حيث ذكر فيها أحاديث تتوافق ووجهة نظر المذهب الحنفي مع خلط نسخته لكتاب الموطا بأحاديث لشيوخ آخرين غير مالك بن انس، قال محمد فؤاد عبد الباقي: (ونسخته تزيد كثيرا على موطأ يحيى الليثي. لكنه شحنها بآثار ضعيفة من غير طريق مالك. يحتج بها لفقه الحنفية، كما ذكر فيها ما وافق فقه الحنفية ظاهر أحاديث الموطأ. وكما زادت نسخته بأحاديث، فهي خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات، كما قاله الزرقاني في أول شرح الموطأ). « مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص15، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
ويضاف إلى هذه الأدلة ان مالك بن انس شأنه شأن الكثيرين من المحدثين قد وقع ضحية لدس الوراقين والكتاب الذين كانوا ينسخون لهم الكتب ويقرؤون عليهم الأحاديث، كحبيب بن أبي حبيب الذي قال فيه ابن حبان: (حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك بن أنس...يروى عن مالك وربيعة، كان يورق بالمدينة على الشيوخ، ويروى عن الثقات الموضوعات كان يدخل عليهم ما ليس من أحاديثهم...فإنه كان إذا قرأ أخذ الجزء بيده ولم يعطهم النسخ ثم يقرأ البعض ويترك البعض ويقول: قد قرأت كله ثم يعطيهم فينسخونها...سمعت محمد بن عبد الله الجنيد يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول سمعت هذه الأحاديث من مالك وحبيب يقرأ فلما فرغ قلت: يا أبا عبد الله هذه أحاديثك تعرفها أرويها عنك فقال نعم، وربما قال له غيري). « كتاب المجروحين لابن حبان ج1 ص265».
وعن الذهبي في ميزان الاعتدال عند ذكره لحبيب بن أبي حبيب قال: (وقال ابن معين: كان يقرأ على مالك ويتصفح ورقتين ثلاثة فسألوني عنه بمصر، فقلت: ليس بشيء). « ميزان الاعتدال للذهبي ج1 ص452».
وتوجد أدلة وقرائن كثيرة تركناها للاختصار، وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك تعرض كتاب موطأ مالك إلى التلاعب والتزوير والزيادة والنقصان، فيسقط عن الاعتبار لا محال، فعلى من تكون صحاحه وكتبه ومسانيده بهذا المستوى أن لا يحاول التشكيك في كتب الشيعة الروائية ومدوناتهم الحديثية، لان هذا الباب إذا فتح فقد يأتي على كل ما يعتبره الطرف الآخر مقدسا وثابتا، وكما قيل: (إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجارة).
والحمد لله أولا وأخرا وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطاهرين.
إن البحث عن مدى ثبوت كتب الحديث والرواية ومصداقيتها والموجودة في عصرنا الحاضر أمر ضروري للغاية، لان باب التدوين والرواية والنقل قد سد بعد صدور هذه المدونات الروائية، ووجب على الأمة أن تقنع بما ورد في هذه الكتب شاءت أم أبت، وتأخذ منها أحكامها وتشريعاتها، وتتعرف بها على كتاب الله وغوامضه، وتصل من خلالها إلى معرفة الأحداث والشخصيات التي عاصرت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أو تلته، وبالجملة فهذه المصادر هي نافذتنا الوحيدة التي تطل بنا على الماضي بجميع جزئياته التاريخية والشرعية وغيرها.
لذا كان لزاما علينا أن نبحث في مدى وثاقتها وسلامتها بنحو كلي، بغض النظر عما احتوته من مسائل جزئية، لنرى هل يمكن لنا الوثوق بصحة صدورها عن مؤلفيها ومدونيها؟.
وما مدى سلامة هذه الصحاح والسنن والمسانيد من التلاعب والتزوير والتدخل من قبل النساخ أو التلاميذ أو غيرهم؟.
وهل هي عين التي كتبها أصحابها أم تم إضافة أشياء فيها لم تكن موجودة؟ كما حذفت منها أشياء كانت موجودة فعلاً؟ كل هذا وغيره سيتم معرفته وإثباته في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.
وسنقتصر في كلامنا هنا على أنموذج واحد هو كتاب (موطأ مالك بن أنس) ونترك الخوض في باقي المسانيد والصحاح الأخر إلى مقالات لاحقة ستنشر تباعاً إن شاء الله تعالى.
لماذا نثير هذه الموضوعات الحساسة؟
هذا الموضوع ما كنا لنثيره ونتعرض له لولا تلك الهجمة الشرسة التي تتعرض لها مدونات الشيعة وكتبهم الروائية من قبل كثير من علماء أهل السنة ومحدثيهم ومثقفيهم، وبالخصوص تلك الهجمات التي تشنها الفرقة الوهابية المارقة، فيكون إثارة هذا الأمر بناءً على هذا ردا ودفاعا عن أهم مقدساتنا، لان مدوناتنا الروائية هي التي نقلت جميع الكلمات والأحاديث والعقائد والأحكام التي ورثناها عن أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين، فضربهم لها وحربهم عليها معناه ضرب جميع تلك الأحكام والعقائد والأحاديث، كما أن الدفاع عنها يعد بمنزلة الدفاع عن جميع تلك الأمور المهمة.
مالك بن انس بين المدح والذم
اختلفت كلمات معاصري مالك بن انس وتقييماتهم والذين جاؤوا من بعده حول شخصية مالك ومنزلته العلمية في الفقه والحديث والضبط ما بين مادح وقادح، وإن كانت كلمات المادحين دون القادحين هي الموجود والمشهور في المصنفات الحديثة، لان القدح في مالك معناه القدح في كتابه الموطأ، والقدح في الموطأ معناه القدح في باقي الصحاح والمسانيد كمسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم وغيرها، لان أساس اعتماد هذه المسانيد وتلك الصحاح على الموطأ وعلى رجال وأسانيد الموطأ، فإذا سقط الموطأ سقط ما في أيديهم من مسانيد وصحاح، لذلك تذكر كلمات المدح والتبجيل وتخفى كلمات القدح والتجريح.
فمن المادحين نذكر ما يأتي:
1: سفيان بن عيينة
حيث كان يقول: (ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بهم). «راجع التمهيد لابن عبد البر ج1 ص65».
وقال يحيى بن معين نقلا سفيان بن عيينة: (من نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك وننظر إلى الشيخ إن كان مالك كتب عنه وإلا تركناه). « راجع إسعاف المبطأ برجال الموطأ لجلال الدين السيوطي ص10».
2: يحيى بن معين
والذي قال: (كل من روى عنه مالك بن انس فهو ثقة). «المصدر السابق ص9».
3: ابن عيينة
والذي قال: (كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقة، ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته يعني من العلم). «راجع سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 73».
أقول: وسيأتي في محله ــ إن شاء الله ــ بان مالك بن انس قد روى في كتابه الموطأ عن عدة من المقدوح في عدالتهم والضعفاء في الحديث والمدلسين والكذابين، ومنه يعلم ان القوم يغالون في تضخيم شأن مالك وكتابه، وان العلة في هذا التضخيم هي التي أوضحها سفيان بن عيينة بقوله: (من نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك...) فالقوم قد أدركوا وتيقنوا بان القدح في مالك هو قدح بمن يأتي بعده لان الجميع قد مشى على خطاه واقتدى بمنهجه.
أما القادحون مالكاً ومنزلته العلمية فهم على سبيل المثال:
1: يحيى بن عبد الله بن بكير
الذي كان يقول: (الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك). « راجع الجرح والتعديل للرازي ج 7 ص 180».
وعن ابن عساكر عن ابن بكير أيضا انه كان يقول: (أخبرت عن سعيد بن أبي أيوب قال لو أن مالكا والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكا فيمن يريد). « تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 50 ص 359».
2:يحيى بن سعيد القطان
قال يحيى بن معين: (سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: سفيان الثوري أحب إلي من مالك في كل شيء يعني في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد). « تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 9 ص164».
3: ابن أبي ذؤيب وإبراهيم بن سعد وآخرون كثيرون
وعن ابن عبد البر قال: (وقد تكلم ابن أبي ذؤيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره وهو مشهور عنه قاله إنكارا منه لقول مالك في حديث البيعين بالخيار، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه وتكلم في مالك أيضا فيما ذكره الساجي في كتاب العلل عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه وتكلم فيه غيرهم...). « جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 2 ص 160 ــ 161».
4: الهيثم بن جميل
قال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها ب «لا أدري») « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 77».
وعن خالد بن خداش قال: (قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل). «نفس المصدر السابق».
منزلة مالك من السلطة، وعلاقة المنصور العباسي بانتشار كتاب الموطأ
نقل الذهبي عن ابن سعد قال: (حدثنا محمد بن عمر، سمعت مالكا يقول: لما حج المنصور، دعاني فدخلت عليه، فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه يعني الموطأ فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك). « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 8 ص 78 ــ 79».
وقال له في مجلس آخر: (والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، فلأحملنهم عليه). «المصدر السابق ص 61 ــ 62».
وعن حاجي خليفة قال: (روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن انس أنه قال شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت لا تفعل فان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه ــ وآله ــ وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله). «كشف الظنون لحاجي خليفة ج 2 ص 1908».
أقول: والمنصور وان لم يوزّع موطأ مالك ويلزم الناس باتباعه حصرا من دون بقية الكتب بحسب الظاهر من هذه النصوص، إلا انه أعطى مالك بن انس الصلاحيات الكاملة حتى نودي في المدينة ان ليس لأحد حق الإفتاء سوى مالك بن انس وشخص آخر مقرب من السلطة أيضا، فعن الخطيب البغدادي عن ابن وهب قال: (حججت سنة ثمان وأربعين ومائة. وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة). «راجع تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 10 ص 436».
وأصبحت له بفضل السلطان مهابة وسطوة، حتى ان الشافعي حينما أراد أن يتوسط له والي المدينة عند مالك بن انس قال له الوالي: (والله يا فتى إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس فإني لست أرى الذل حتى أقف على بابه). « تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 51 ص 285 ــ 286».
وصار مجلسه يشبه مجالس الملوك ودواوينهم، يضرب من يشاء ويخرج من يشاء، وفي اغلب الأحيان تكون أسباب الضرب والطرد شخصية أو تافهة، فعن محمد بن الفيض الغساني قال: (سمعت هشام بن عمار بن نصير يقول: باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج، فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك بن أنس، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك وغلمان قيام والناس يسألونه وهو يجيبهم، فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث:سل عن ما معك، فقلت له: يا أبا عبد الله ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي...). « تهذيب الكمال للمزي ج30 ص251 ــ 252».
وعن صالح بن محمد الحافظ قال: (سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك ابن أنس، فقلت له: حدثني. فقال: اقرأ. فقلت: لا بل حدثني. فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه. قال: يا غلام تعال اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر. قال: فذهب بي فضربني خمس عشرة درة. ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته. فقلت له: لقد ظلمتني، ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل...). « تهذيب الكمال للمزي ج30 ص252».
وموقفه من ابن إسحاق معروف، فابن إسحاق كان كثير الانتقاد لمالك بن انس وكتبه، وكان يقول: (هاتوا اعرضوا علي علوم مالك، فإني أنا بيطارها). « سير أعلام النبلاء للذهبي ج 7 ص 50»،فما كان من مالك إلا أن يتهمه بالدجل، وصرح لبعض الحاضرين بقوله: (نحن نفيناه من المدينة). «نفس المصدر السابق».
وهذا القرب لمالك من السلطة هو الذي أسهم إسهاما فاعلا في نشر كتابه الموطأ ونشر مذهبه، على الرغم من وجود من هو أعلم منه فقها وفتوى، وقد اعترف ابن حزم بان كل من المذهب الحنفي والمذهب المالكي قد انتشرا بفعل الرياسة والسلطان، وقد نقل ابن خلكان هذه المقولة في كتابه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) بقوله: (قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي المقدم ذكره مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة...ومذهب مالك بن انس). «راجع وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج 6 ص 144».
هل كل رواة الموطأ ثقات وليس فيهم ضعيف؟
ذكرنا من قبل محاولة الترويج والترسيخ للفكرة القائلة إن جميع من روى لهم مالك بن انس في الموطأ هم ثقات ليس فيهم ضعيف ولا كذاب، لكن وحين الرجوع إلى الموطأ نجد بان مالك بن انس قد روى ليس عن الضعفاء فحسب بل وعن المشهورين بالوضع والدس والكذب، وفيما يأتي أنموذجين ممن روى عنهم مالك بن انس مع شهرتهم بالضعف والتدليس.
1: عبد الكريم بن أبي المخارق البصري المرجئ الضعيف
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وقد سأل أباه أحمد عنه فقال: (عبد الكريم أبي أمية بصري نزل مكة وكان معلما وهو بن أبي المخارق وكان بن عيينة يستضعفه قلت له قال ضعيف قال نعم). « راجع كتاب العلل لأحمد بن حنبل ج 1 ص 401».
وعن المزي قال: (عن يحيى بن معين: قد روى مالك عن عبد الكريم أبي أمية وهو بصري ضعيف). « راجع تهذيب الكمال للمزي ج 27 ص 112».
وقال الذهبي: (فأما عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية فشيخ بصري مؤدب ليس بقوي الحديث روى عن انس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير حدث عنه السفيانان وحماد بن سلمة ومالك وغيرهم وكان فقيها مرجئا). «تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 140».
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (أبو أمية عبد الكريم بن أبي المخارق...فضعيف الحديث، مؤدب يروي عن أنس، وعن مجاهد، وسعيد بن جبير. وعنه أيضا: مالك، والسفيانان، وحماد بن سلمة. وكان يرى الإرجاء مع تعبد وخشوع، يقال: اسم أبيه قيس. قال النسائي والدارقطني: متروك. وقال أحمد: ضربت على حديثه. وقال ابن عبد البر: اغتر مالك ببكائه في المسجد، وروى عنه في الفضائل). «سير أعلام النبلاء للذهبي ج 6 ص 83»، روى له مسلم والبخاري وجماعة آخرون.
2: محمد بن مسلم بن تدرس القرشي الأسدي، أبو الزبير المكي، مولى حكيم بن حزام
قال المزي: (وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: كان أيوب السختياني يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير! قلت لأبي: كأنه يضعفه؟ قال: نعم). « تهذيب الكمال للمزي ج 26 ص 407».
وعن المزي أيضا قال: (وقال هشام بن عمار عن سويد بن عبد العزيز: قال: لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير وهو لا يحسن أن يصلي... وقال نعيم بن حماد: سمعت هشيما يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه... وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء: قلت لشعبة: مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يزن ويسترجح في الميزان... روى له الجماعة إلا أن البخاري روى له مقرونا بغيره). «نفس المصدر السابق ص407 ــ 411».
إثبات وقوع التزوير والدس في كتاب الموطأ لمالك بن أنس
كتاب الموطأ من أعجب الكتب الروائية وأكثرها غرابة، وفيما يلي جملة من غرائبه وعجائبه مرتبة على شكل نقاط ليسهل بها استنتاج ما كررناه مرارا من وقوع التلاعب والدس في هذه المدونة التي بنيت عليها بعد ذلك جميع المدونات المسماة بالصحاح والمسانيد.
مالك يحذف أربعة آلاف رواية من كتابه الموطأ ولو بقي لأسقطها كلها
أودع مالك بن انس في كتابه الموطأ في بداية الأمر أربعة آلاف حديث، وقيل عشرة آلاف حديث، لكنه وبعد مدة جعل يسقط منه الأحاديث شيئا فشيئا، فكلما شك في حديث أسقطه، حتى بقي منه ألف حديث على بعض الأقاويل وسبعمائة أو قريب منه على قول آخر، ولو بقي قليلا لأسقطه كله، قال الباجي: (ألفه من أربعة آلاف على قول سليمان بن بلال، وعشرة آلاف على قول عتيق الزبيري. « فلم يزل ينظر فيه سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله. قال القطان: كان علم الناس في زيادة وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله). «التعديل والتجريح لسليمان بن خلف الباجي ج1 ص125».
عشرون أو ثلاثون نسخة خطية لموطأ مالك والاختلاف الفاحش فيما بينها
ان أحاديث الموطأ وان كانت قليلة بالنسبة إلى غيره من كتب المسانيد والصحاح، إلا ان النسخ التي نقلت لنا هذا الكتاب قد بلغت عشرين نسخة على قول، وثلاثين نسخة على قول آخر، وقد وقع الاختلاف فيما بين هذه النسخ حول عدد الأحاديث التي يضمها كتاب الموطأ، فبعضها يذكر سبعمائة حديث فقط، وبعضها الآخر يذكر ما يقارب الألف وخمسمائة حديث.
وكذلك وقع الاختلاف بين هذه النسخ العشرين أو الثلاثين في الأحاديث نفسها فبعضهم يثبت في نسخته حديثا لا نراه في النسخ الأخر وبعضهم ينفي حديثا نراه متوفرا في باقي النسخ الأخرى وهكذا، وفي هذا الصدد يقول جلال الدين السيوطي نقلا عن القاضي عياض: (والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته أو وقف عليه أو كان من روايات شيوخنا، أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطآت نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة). « تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي ص10».
وقال السيوطي أيضا في موضع آخر: (وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص وأكبرها القعنبي ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب. فقد قال ابن حزم في موطأ أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث وقال الغافقي في مسند الموطأ، اشتمل كتابنا هذا على ستمائة حديث وستة وستين حديثا، وهو الذي انتهى إلينا من مسند موطأ مالك). « تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي ص8 ــ 9».
وقد ألف بعض علماء أهل السنة كتابا اسماه اختلاف الموطآت، قال الذهبي متحدثا عن الباجي: (وقد صنف كتابا كبيرا جامعا، بلغ فيه الغاية، سماه «الاستيفاء»، وله كتاب «الإيماء في الفقه» خمس مجلدات، وكتاب «السراج في الخلاف» لم يتم، و «مختصر المختصر في مسائل المدونة»، وله كتاب في اختلاف الموطآت). «راجع سير أعلام النبلاء للذهبي ج 18 ص 538».
وكذلك فعل أبو الحسن الدارقطني حيث كتب كتابا اسماه (اختلاف الموطآت).
النسخة المشهورة الآن لكتاب الموطأ هي واحدة من أربعة عشر نسخة قد أخفيت عن عمد
عمدة النسخ الموجودة حاليا للموطأ أربعة عشر نسخة، أشهرها نسخة يحيى بن يحيى المصمودي وهي المعروفة والمتوفرة في المكتبات العامة والأسواق اليوم، أما باقي النسخ فهي متضاربة مع بعضها ومع نسخة المصمودي أيضا، ولذلك أخفيت تلك النسخ ولم تشتهر حتى لا يشتهر تضاربها وتناقضها بين العامة فيفتضح أمرهم.
بعض التناقضات بين نسخ كتاب الموطأ
وفيما يلي جملة من تلك الأحاديث التي انفردت بها بعض النسخ عن البعض الآخر:
أ: انفردت نسخة ابن وهب (وهو أبو محمد عبد الله بن سلمة الفهري المصري) بأحاديث منها حديث: (عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) ولا يوجد هذا الحديث في الموطآت الآخر، إلا موطأ ابن القاسم. « انظر مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص10 ــ 11، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
ب: انفردت نسخة أبى عبيد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري بأحاديث منها حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: (من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، فهو له كله أنا أغنى الشركاء) قال أبو عمر، ابن عبد البر: هذا الحديث لا يوجد إلا في موطأ ابن القاسم، وابن عفير، من الموطآت. « انظر المصدر السابق ص11».
ج: انفردت نسخة أبى عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي بأحاديث منها حديث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. إنما أنا عبد. فقولوا: عبده ورسوله). « انظر المصدر السابق ص12».
د: انفردت نسخة عبد الله بن يوسف الدمشقي عن غيرها. إلا نسخة ابن وهب بحديث عن عروة: (أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال إيمان بالله). « انظر مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص12، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
هـ: انفردت نسخة معن القزاز بأحاديث منها بأحاديث منها حديث عن عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم يصلي في الليل، فإن فرغ من صلاته، فإن كنت يقظانة تحدث معي، وإلا اضطجع حتى يأتيه المؤذن). « انظر المصدر السابق ص12 ــ 13».
و: انفردت نسخة سعيد بن عفير عن غيرها من الموطآت، إلا موطأ محمد بن الحسن بحديث عن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شهاب عن جده أنه قال: (يا رسول الله. لقد خشيت أن أكون قد هلكت. قال لم؟ قال: نهانا الله أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب أن أحمد. الحديث). « انظر المصدر السابق ص13».
ز: انفردت نسخة ابن بكير إلا نسخة محمد بن الحسن بأحاديث منها حديث عن عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم قال ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه ليورثنه). فمتن هذا الحديث، في رواية محمد، برواية مالك عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة. «نفس المصدر السابق».
ح: انفردت نسخة أبى مصعب الزهري بنحو مائة حديث على سائر الموطآت الأخر، وقال ابن حزم: (آخر ما روى عن مالك موطأ أبى مصعب وموطأ أبى حذافة وفيهما زيادة على الموطآت نحو من مائة حديث). « تذكرة الحفاظ للذهبي ج2 ص483».
هذه بعض الاختلافات التي انفردت بها بعض الموطآت عما سواها، واستقصاء الجميع ليس من شان هذا البحث المقتضب.
الدليل القاطع على تلاعب النساخ والمدونين بكتاب موطأ مالك
أقول: ان وجود بعض الأحاديث في بعض النسخ واختفائها من البعض الآخر، حتى يصل الاختلاف في بعض الأحيان إلى ان يزاد على الموطأ مائة حديث كما في نسخة أبي مصعب الزهري، لمن أعظم الأدلة على وجود حالة التلاعب والدس والحذف من كتاب الموطأ، لان هذه الأحاديث لو كانت مدونة عن مالك فعلا، فلماذا تحذف من بعض النسخ وتضاف إلى أخرى، وإذا لم تكن موجودة فكيف تضاف إليها؟.
وأوضح مثال يثبت لنا تدخل النساخ والمدونين وتلاعبهم بموطأ مالك بن انس، هو ما وقع في نسخة محمد بن الحسن الشيباني، حيث ذكر فيها أحاديث تتوافق ووجهة نظر المذهب الحنفي مع خلط نسخته لكتاب الموطا بأحاديث لشيوخ آخرين غير مالك بن انس، قال محمد فؤاد عبد الباقي: (ونسخته تزيد كثيرا على موطأ يحيى الليثي. لكنه شحنها بآثار ضعيفة من غير طريق مالك. يحتج بها لفقه الحنفية، كما ذكر فيها ما وافق فقه الحنفية ظاهر أحاديث الموطأ. وكما زادت نسخته بأحاديث، فهي خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات، كما قاله الزرقاني في أول شرح الموطأ). « مقدمة كتاب الموطأ لمالك بن انس ج1 ص15، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي».
ويضاف إلى هذه الأدلة ان مالك بن انس شأنه شأن الكثيرين من المحدثين قد وقع ضحية لدس الوراقين والكتاب الذين كانوا ينسخون لهم الكتب ويقرؤون عليهم الأحاديث، كحبيب بن أبي حبيب الذي قال فيه ابن حبان: (حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك بن أنس...يروى عن مالك وربيعة، كان يورق بالمدينة على الشيوخ، ويروى عن الثقات الموضوعات كان يدخل عليهم ما ليس من أحاديثهم...فإنه كان إذا قرأ أخذ الجزء بيده ولم يعطهم النسخ ثم يقرأ البعض ويترك البعض ويقول: قد قرأت كله ثم يعطيهم فينسخونها...سمعت محمد بن عبد الله الجنيد يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول سمعت هذه الأحاديث من مالك وحبيب يقرأ فلما فرغ قلت: يا أبا عبد الله هذه أحاديثك تعرفها أرويها عنك فقال نعم، وربما قال له غيري). « كتاب المجروحين لابن حبان ج1 ص265».
وعن الذهبي في ميزان الاعتدال عند ذكره لحبيب بن أبي حبيب قال: (وقال ابن معين: كان يقرأ على مالك ويتصفح ورقتين ثلاثة فسألوني عنه بمصر، فقلت: ليس بشيء). « ميزان الاعتدال للذهبي ج1 ص452».
وتوجد أدلة وقرائن كثيرة تركناها للاختصار، وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك تعرض كتاب موطأ مالك إلى التلاعب والتزوير والزيادة والنقصان، فيسقط عن الاعتبار لا محال، فعلى من تكون صحاحه وكتبه ومسانيده بهذا المستوى أن لا يحاول التشكيك في كتب الشيعة الروائية ومدوناتهم الحديثية، لان هذا الباب إذا فتح فقد يأتي على كل ما يعتبره الطرف الآخر مقدسا وثابتا، وكما قيل: (إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجارة).
والحمد لله أولا وأخرا وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطاهرين.
إرسال تعليق