من اهداف الجهاد

بقلم: الشيخ عبد الحسن البيضاني

صاحب مجلة رسالة الجمعية الخيرية الاسلامية

لا يرتاب ذو مسكة رصينة وذو عقل سليم لا تقوده العصبية ولا تجاذبه الشهوات فيما اوتى ابن هاشم سيد قريش ومنح ابن عبد المطلب زعيم مكة من مفخرة الاحساب وعزة الانساب اوتى العلم والحكمة وفصل الخطاب وجوامع الفضائل الى ما لايحصى من الالطاف السماوية ومنح من المعاجز ما لا يستطيعه احد من الموجوده البشرية.

منح القرآن الكريم وهو المعجزة الخالدة مادامت السموات والارض منح الاخبار بالمغيبات عما كان او يكون الى غير ذلك من المعاجز الباهرات والكرامات الخارقات.

ولعل اكثر ما لاقى من العناء واشد ما قاسى من الاذى من اشقياء اقاربه ومردة قومه كل ذلك حسداً له ولبيته على ما نال واختص به من عظيم المنـزلة وشريف الكرامة وسؤدده الضافي على عامة قومه بل على عامة البشرية.

علماً منهم بان ذلك كائن لا محالة فارادوا محوه واطفائه ويأبى الله الا ان يتم نوره.

كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وابوه عبد الله وامه آمنة بنت وهب معروفاً بين اولئك الطغاة الجبابرة بالصدق والوفاء والامانة. وحين ما امر بانذارهم جمعهم في بيت عمه لذلك وقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مضمونه:لو اخبرتكم ان وراء هذا الجبل كنـزاً كنتم تصدقون ام تكذبون قالوا بأجمعهم: كلا نشهد بانك الصادق الامين.

ومع ذلك لم يجبه احد منهم الى ما ندبهم اليه سوى علي(عليه السلام) ولم يعبئوا بقوله حتى المدة الاخيرة جلس عمـه ابو طالـب (رحمه الله) على الباب -الذي يزعمون انه مات كافراً- وسيفه على ركبتيه قائلاً ((لئن قطعتم على ابن اخي كلامه لاضعن سيفي هذا فيكم … ؟ )).

كان كابوس الجهل قد ضرب اطنابه على سواد الجزيرة وبركان التمرد والطغيان قد هيمن على رجالات الامة فكان الضغط والارهاب يحكمها والشدة والعنف يسوسها لا تستند الى قانون فينظمها ولا الى دين فيجمعها ويلم شتاتها على الوجه الصحيح ومع هذا كله كانت تتحلى بصفات حسنة وتتأثر بمزايا جليلة اقرها الشرع المقدس بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((جئت لأتمم مكارم الاخلاق)).

وحينما بزغت شمس الرسالة في ذلك الجو المظلم وانبسطت اشعتها على ذلك الجهل المطبق محفوفة بما اوتى من الالطاف ومؤيدة بما منح من المعاجز فكان ولا من شك ان تنقشع غياهب تلك الظلم وتنكفأ غواشي تلك الجهالة ببركة سيد الامة وقائدها من كوة الحضيض الادنى الى اسمى اوج الفضيلة الاعلى ذاك محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وكم اب قد على بابن ذوي حسب    ****  كما علت برسول الله عدنان

وكانت قريش غب ما ارتكبته من الجرائم بهذا البيت الرفيع تحذر بأسه وتخشى سطوته ان هو استولى وقدر ولما آتاه الله ذلك وزاغت ابصار القوم وبلغت القلوب الحناجر وارتقى علي(عليه السلام) على كتفه (صلى الله عليه وآله وسلم) وحطم اصنامهم وهشم اوثانهم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً لهم: ((ما تظنون اني فاعل بكم قالوا لا نظن بك الا خيراً)) قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((اذهبوا فانتم الطلقاء)) دون ان يأمر بقتل او تنكيل او حرق او تهديم او ما الى ذلك مما يشفي الغليل ويثلج الفؤاد غير لا اله الا الله محمد رسول الله.

ولكن يا ترى هل طابت نفوسهم وصلحت ضمائرهم وحسنت نواياهم مع انه (صلى الله عليه وآله وسلم) اختصهم بميزات تكريماً لهم واعلاء لشأنهم حتى يعتنقوا دينه عن رغبه ويسلكوا سبيله عن عقيدة كلا وحاشا لم يزدهم ذلك الا فراراً و عتواً ونفوراً ((والذي خبث لا يخرج الا نكداً)).

ولما اختار الله لنبيه لقائه امره باتمام الحجة عليهم واكمال الدين بقوله تعالى ((يا ايها الرسول بلغ: الآية)) وقوله تعالى: اليوم اكملت....)) الخ. الآية فقام صلى الله عليه وآله وسلم برمضاء الهجير مبلغاً ما اراده اللطيف الخبير رافعاً صوته آخذاً بيد علي عليه السلام ما بين تلك الجموع المحتشدة مستفهماً منهم من اولى بالمؤمنين فاجابوا: الله ورسوله فاشهد الله عليهم.

ثم ادى رسالته قائلاً ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)) وايدها بالدعاء ثم سألهم هل بلغت فاجابوا ((اللهم نعم)) فأشهد الله سبحانه عليهم بالاداء والتبيلغ وامرهم بالسلام عليه بالامرة حتى بخبخ له بعضهم قائلاً بخ بخ لك يا علي اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة او مسلم ومسلمة.

ومع هذا وغيره من العهود والمواثيق انبثقت حسيكة الشرك والنفاق وانفجرت عيون الظلم والضلال وما زج الموقف لغط القيل والقال وهمس البعض الى الآخر ما يجن في فؤاده ويجول في صدره ((زعم ابن ابي كبشه انه عقد امراً لابن عمه ظن انه قد احكمه هيهات ثم هيهات)).

ومن ذلك الحين حيكت المكائد وابرمت خيوطها واحكمت الدسائس ومهدت جذورها حنقاً وحقداً على مسفه احلامها ومغير سنتها ونابذ عادتها وقاتل شجعانها ومجندل ابطالها والحاجز بينها وبين امنياتها اضف لذلك حسدهم لهذا البيت بما ناله ويتوخاه من الكرامة والشرف والسؤدد الى غير ذلك من مزايا ومواهب وغرائز جمة.

وما مر من قليل من الزمن وبرهة من الوقت الا وحان القدر ونفذ المحتوم بالقائد العظيم والنبي الكريم ولما يدرج في اكفانه وينقل الى مثواه الاخير الا وينقض العهد وتخل المواثيق وتنقلب الامة على ادبارها كأن ما سمعوه شيئاً ولا وعو حديثاً ولا شاهدوا مما امر السماء مبلغاً هذا  والعهد قريب.

تسلى الامام(عليه السلام) عن هذه الجراه وهو جذيلها المحنك وعذيقها المرجب بسيرة ابن عمه واخيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتاض بدل جلوسه في داره مشغولاً بجمع القرآن ومراعاته لشريعة اخيه من تغير او تبدل وابقائه على الاسلام والدين ان هو لم يشهر سيفه في وجه خصومه.

ويا ليتهم اكتفوا منه بذلك بل كان ما كان حتى دارت ايام البصرة رحاها مع الناكثين وخاض غمارها ايام صفين مع الفاسقين واخمد نارها يوم النهروان مع المارقين لا تاخذه في الله لومة لائم.

هذا والمؤامرات تحاك على الفتك به والقضاء به والقضاء عليه وعلى بيته حتى قالوا ذلك بدلوا القدر ونزول الاجل من علي(عليه السلام) على يدي اشقاها عبد الرحمن بن ملجم وصحبه وهو جالس في محرابه ماثل بين يدي ربه راغب فيما وعد الله الصابرين متوقع ما به اخبر الصادق الامين ما اسفر الفجر وانزاح الظلام الا والروح الامين ينعى دين الله القويم ومنار الحق المبين ((تهدمت والله اركان الهدى … الخ)) يالها من كارثة أثيمة على الاسلام واهله.

تحدث حبائل الحقد والضغينة اثر هذه الفاجعة الاليمة يسديها الغدر والارهاق ويحكمها المكر والاهراق ابناء علي(عليه السلام) وصحبه دون رحمة ورأفة حتى اصابت حجراً وقومه بالقتل صبراً واردت الامام الحسن(عليه السلام) بعد الصلح والمواثيق صريعاً يقاذف كبده بسم جعدة وزعزعت آله عن مأمنهم بابشع سيرة ومنعت جثمانه الزكي(عليه السلام) من زيارة جده وهو رابع اصحاب الكساء وسيد شباب الجنة.

كل هذا وذاك وغير ذلك بحرى من ابي عبد الله الحسين(عليه السلام) وليد علي وفاطمة ومهجة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

الحسين(عليه السلام) في عالم التكوين –نشأة قدسية نقلها الحكمة وتقبلها القدرة وتكيفها الكرمة وتحوطها العناية نور يستضيء منه الملأ الاعلى ويهتدي به المقربون حاز المواهب العظيمة واتسم بالمزايا الجميلة مواهب العز والكرامة وسمات المجد والفضيلة لا يجاريه شيء من الكائنات ولا يوازيه أحد من الممكنات سوى من أودع في صلبه ونشأ في حجره أنوار اصطفاها مكونها واختارها مدبرها علة للخليقة ورحمة للبرية وقطباً يدور عليه الوجود ((ذلك تقدير العزيز العليم)).

تلك صفة جميلة - وجوهرة أصيلة - تقدرها العقلاء وتميزها النبلاء - بها تحقن الدماء وتصان الأعراض وتحفظ الأموال وبها جاءت شريعة السماء فهي ميزة عظيمة وسجية كريمة لا يتوخاها الا الصالحون ولا يتوسمها الا المخلصـون بها تلتئم الشعوب وتتحد القلوب ويصفو الجو ولا يغضب الرب وهي قميصه وردائه ((سلام الله عليه)).

ولما ظهر الالحاد وانتهك الاسلام وعف الدين واستعملت البدعة وساد الانذال وحرف القرآن وانطمست اعلام الشريعة والامة لا تدفع منكراً ولا تردع معتدياً مكتوفة اليد مكمومة الفم مصمومة السمع تائهة في حيرتها خابطة في عشوتها فهي لما بها من الارهاق وسوء الصنيع في ندم لاذع وزفير حار على ما اسدته لشانئ علي(عليه السلام) ومبغضيه وحين شاع صيت امتناع الحسين(عليه السلام) عن البيعة وغادر المدينة إلى مكة واختلف الوفود إليه لتستفيد من نور علمه وتدخر الجوهر من حديثه وتشرب النمير من منهله.

تباشر الكثير من الأمة لهذا الامتناع وتلك الهجرة رغبة منهم في اماتة البدع واحياء السنن علماً منهم بمواهب هذا البيت الرفيعة - ويقيناً بمزاياه الجليلة وحيث لا يصلح لقيادة الامة والذب عنها وصيانة دينها وشعورها إلا الحسين(عليه السلام) لما به من الشعور الحي والشمم الرفيع على اصحاب ابيه وامه وجده اقبلت الرسل تترى ان ليس لنا امام غيرك ينقذنا من هوة الذلة ويفك رقابنا من رق العبودية.

رأيه وعزمه(عليه السلام) تجاه هذه الادوار الاثيمة - التي اخذت دوراً ما مر على الامة مثله من نضيره ازعاج وارهاق - طرد وحرق - غدر ونفاق الى غير هذه المآسي والكوارث المؤلمة وهو(عليه السلام) لما به من المؤهلات السامية - ونفس ابيه بين حناياه لا يقر على منكر ولا يداهن على مكروه كيف وهو(عليه السلام) قد رأى نسيج الحقد والظغائن وحوك الكفر والالحاد من اعداء شرفه الرفيع وبيته المنيع ودين جده الشفيع لا يلتفت الا عليه حتى ولو لاذ باستار الكعبة حذراً من باسه وخشية من دعوته والامة لا تعدل سواه.

في اسلافه وبيته وامة جده - وما بين تلك المواهب الممنوحة والموروثة من اماجد عزه وساسه فخره ان اقام على خد المواسي وهو بن ليث وغاها ومدير رحاها وسير نفسه على الدعة والذلة وحاشاه ثم حاشاه مقتول لا محالة ذلاً وصغاراً وذهبت نواميس الدين والشريعة وفرسان بيته وآمال امته وشيعته ادراج الرياح لا اثر فتبصر ولا خبر فتذكر وان غادر مكة حرم جده وام العراق عاصمة ابيه فلا يأمن غدرهم ولا يستغرب خيانتهم كما شاهد بابيه واخيه عليهم السلام.

ولما كان(عليه السلام) - آية للحق - ومثالاً للعدل - ورمزاً للفضيلة - ومناراً للهداية ذو همة دونها قمم الجبال وعزيمة دونها ابراج السماء حق ولا من شك وترديد ان ينازل اعداء الدين والمثل العليا نزال المتلهف الحنون ويقضي حراً دون عقيدته ودين جده عزيزاً تجاه امجاده وامته فقدم لذلك القرابين وضحى من اجله بانفس النفائس واعزها في حياة اخوته وصحبه وبني عمومته ونفسه وافلاذ كبده وما الى ذلك.

دون ان يسوم نفسه الحياة في ظل المتمردين الطغاة ولعل في هذا او مثله قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسين مني وانا من حسين)).

هو البحر من أي الجهات اتيته  ****   فلجته المعروف والجود ساحله

هذه الذكريات دروس وعبر تعطى البصير منهجاً وتزيده خيراً ودراية في اكتساب الفضيلة على ضوء السنة وناموس الشريعة ونبذ الرذيلة وان طبعت بطابع خلاب - تعظيم شعائر - او باسم احد القادة الاطهار - او باسم الحرية المغرية والكماليات المحبوبة - وما الى ذلك من مواد الخلاعة وعناصر الاستهتار التي بذرتها اليد الاجنبية وقومتها الروح العدوانية ابتغاء الفرقة وتشتيت الشمل والوحدة فان دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الائمة عليهم السلام واعتناق الشريعة يستغرب ذلك دون الفة ووئام كما تستغرب النار الرماد والكتاب ينبذه ويهدي الى الرشاد بقوله ((والذين جاهدوا فينا)).

إرسال تعليق