من أخلاقيات كربلاء: موقف الإمام الحسين عليه السلام من أنصاره

بقلم: الشيخ محمد البغدادي

من نافلة القول أن نؤكّد بأن معاهدة أهل الكوفة للإمام على معاضدته ومساندة حركته بعد استنصارهم له لأكثر من عشر سنين كان لها الأثر المهمّ في قيام الإمام بنهضته المباركة والسير فيها قدماً.

نعم، ما نحتاج إلى التأكيد عليه هو التكليف الشرعي بعنوانه الأوّلي للأمّة تجاه الإمام المعصوم عليه السلام.

فالله سبحانه ــ بحسب أصل التكوين ــ جعل في قدرة كل امرئ إمكانية السير في الطريق الذي يريده ويختاره فمن اختار طريق الصلاح وطريق الأنبياء والصلحاء وجد المنفذ إليه والقدرة عليه، ومن اختار طريق الشرّ والكفران وطريق التمرّد على الله ورسله تمكّن من السير في ذلك الطريق أيضاً.

فلم يُجبر المرء في أصل خلقته على نهج معيّن ولم يتحدّد أمامه طريق الحياة، بل المناهج أمامه واضحة، والأعلام لائحة، والعقل معه يحاكم الأشياء ويحكم لها أو عليها ثم هو عليه أنْ يختار، وعلى هذا يكون بلوغه الجنة أو النار بحسب اختياراته في الدنيا فالدنيا دار اختبار، أما غيرها فيتحدّد فيها المسار بحسب ما يناسب مسيرته الدنيوية، فهو مضطرّ بعدها إلى المصير إلى ساحة الشقاء أو ساحة النعيم ولا يتمكّن من الفكاك من نتائج عمله الدنيوي أبداً وإن فعل ما فعل.

ما تقدّم كله بحسب أصل الجعل التكويني.

أما بحسب الجعل التشريعي في الإسلام العزيز: فإن الله سبحانه جعل للمعصوم ــ النبي الأكرم أو أحد أوصيائه الاثني عشر ــ حق الطاعة على الأمة وجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلنصّ الآية المباركة: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ))[1].

وأما الوصي علي بن أبي طالب عليه السلام فلحديث الغدير المبارك إذ سأل النبي أمته: «ألستم تعلمون أني أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟». فقالوا: بلى. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أللهم من كنت مولاه فعلي مولاه..، أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه»[2].

وأما بقية المعصومين فلجريان ما ورد في أمير المؤمنين عليه السلام في حقّهم أيضاً لوحدة الملاك ولوجود نصوص خاصة بشأنهم أيضاً. منها، الآية المباركة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ))[3].

فإنهم أولو الأمر الذين يجب على الأمة إطاعتهم ــ بل على الناس كافة ــ وذلك بضميمة ما ورد في روايات العامة والخاصة من أنهم هم أولو الأمر المقصودون في الآية المباركة.

منها ما عن مولانا الإمام الباقر عليه السلام في أن أولي الأمر: «الأئمة من ولد علي وفاطمة عليهما السلام إلى يوم القيامة»[4].

ولسنا هنا في مقام استقصاء المطلب بل المقصود الإشارة فقط. فلما كان للأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام حق الطاعة على الأمة فإنه يجب على كل فرد في الأمة الوصول إليهم ومراجعتهم ومعرفة أوامرهم وتوجيهاتهم في كل صغيرة وكبيرة ومن لم يطعهم فقد استحق النار والعذاب العظيم، وهذا معناه أن لا خيار للمرء في مخالفتهم إلاّ إذا صدر التخيير من نفس الإمام عليه السلام. هذا الشقّ الأول من الكلام.

والشق الثاني: إنه يجب على كل إنسان اتباع أوامر الله ونواهيه ــ المعصوم وغيره ــ وَمِن أمْرِهِ سبحانه أن يقوم المسلم بأمر الظالمين والعصاة بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومجاهدة الكافرين والظالمين والطواغيت وإزاحتهم من سدّة الحكم وإقامة دولة الحق وإفساح المجال للخلفاء الحق لله تعالى وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياؤه عليهم السلام لارتقاء المقام المختصّ بهم، مقام الخلافة والإمامة والزعامة في الأمة ــ وكل ما تقدم مع تحقق شروطه ــ.

فيجب على الأمّة النهضة ومؤازرة الإمام المعصوم في جهوده لدفع الطواغيت عن مقام الأنبياء والأوصياء. ومتى ما تمرّدَت الأمة وعصت، أو تقاعست وكسلت وأخلدت إلى الراحة فإنه يجب على الإمام النهضة بمن تحقق به الكفاية ويتم به الهدف.

ومع عدم توفر الإمكانيات المطلوبة والعدد الكافي يسقط الوجوب عن الإمام ويأثم من الأمّة من لم يطعه ولم ينهض معه ومن لم يجعل نفسه تحت إمرته. وهذا هو الذي حصل مع الأئمة علي والحسن والحسين إلى المهدي وكذا مع الزهراء عليهم السلام حين استنهضت المهاجرين والأنصار لرد الظلامة عنها واسترجاع الحقوق المسلوبة.

نعم حين يتوفر الأنصار يلزم الإمام النهضة، وهو الذي حصل للإمام أمير المؤمنين بعد مقتل عثمان وللإمام الحسن بعد رحيل والده مباشرة وللإمام الحسين عليه السلام بعد استنصار أهل الكوفة به.

وقد نهض الإمام الحسين بعد الاستنصار وبعد انتهاء أمد الصلح بهلاك فرعون الأمة الإسلامية وطاغيتها: معاوية. وحين نهض الإمام الحسين خليفة الله ورسوله في الأرض فقد وجب على الناس كافة ــ الأمة الإسلامية بكل فرد من أفرادها ــ النهضة معه ومساندته ومعاضدته وحمايته والسعي لتحقيق أهدافه سواءٌ في ذلك أهل الكوفة أم غيرهم، شيعة أم مخالفون، لأن التكليف إسلامي بحت وليس بأمر خاص بالشيعة أو بالبيت النبوي.

وقد وجه الإمام عليه السلام أمراً عاماً للأمة بلزوم نصرتها له وقد بقي إلى الساعات الأخيرة يوجه النداء تلو النداء. أما من ناصر ينصرنا. أما من مغيث يغيثنا لوجه الله. أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله.فوجوب النصرة تام وثابت في رقبة كل فردٍ من الأمة، وإلى اللحظة الأخيرة من حياة الإمام الحسين المظلوم عليه السلام.

لكن لما خذل معظم الأمة إمامهم. وجبُن أهل الكوفة عن الالتزام بمواثيقهم وعهودهم المستمرة منذ سنين، فإن الإمام عليه السلام فصّل توجيهاته بحسب طواعية الأفراد للأمر الإلهي.

والتفصيل: أن التكليف بالالتحاق به ونصرته والاستماتة في سبيله لم يسقط عن أي فرد. نعم الذين أظهروا طواعية واستجابة ومماشاة لأمر الإمام ونهيه فإن الإمام أسقط عنهم التكليف الإلزامي بل حثّهم على الرجوع حباً لهم وتقديراً لموقفهم إلاّ أنهم تمسكوا بخيار البقاء ومفاداة الإمام المظلوم فأجاز الإمام لهم هذا وأثنى عليهم لموقفهم النبيل وأبان لهم عن عظيم مقام الكرامة المعد لهم في الآخرة جزاءً لصمودهم معه، وذلك أن الساقط عنهم هو الإلزام دون أصل الأمر؛ إذ مفاداة الإمام والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس فيه المحبوبية العظيمة للمولى تبارك وتقدس.

فالأمر بالالتحاق به عليه السلام لكل أفراد الأمة مستمر إلى آخر لحظة من حياته الشريفة وإسقاطه الأمر الإلزامي عمن التحق به مستمر إلى النهاية.

وهو عليه السلام خيّر من يسير في ركابه ــ عموماً ــ بين الاستمرار معه أو الرجوع، وذلك بعد ما بلغه خبر استشهاد مسلم وانقلاب الأمور في الكوفة لصالح الفئة الحاكمة الكافرة ــ الأموية ــ ولم يحصل تخيير أو إسقاط للتكليف الإلزامي عن الأمة جمعاء أبداً بل التكليف ثابت في أعناق الكل ــ دون من شملهم التخيير وإسقاط الإلزام عنهم ــ.

وعبيد الله بن الحر الجعفي والذي التقاه الإمام في منطقة قصر بني مقاتل في طريقه إلى الكوفة، لو رضي ما عرضه عليه الإمام من الالتحاق به لينال رضا الله ورسوله لحصل على رضا الله سبحانه ولحصل أيضاً على تخيير الإمام بالرجوع أو الاستمرار فيختار الرجوع إن أراده ورغب فيه، غير أنه غلبت عليه شقوته فأبى مطاوعة الإمام من البداية فخسر الكرامة وخسر التخيير من الإمام وبقي الإثم في عنقه، بل لحقه العار والخزي لإبائه الالتحاق بالإمام مع طلب الإمام منه النصرة بمباشرةٍ منه عليه السلام.

أخلاقيات كربلاء


من أراد التمييز بين الفئة المحقة والفئة المبطلة فليحضر إلى كربلاء.

من أراد معرفة طريق الله وطريق الشيطان فضالته في كربلاء.

من أراد معرفة الإسلام والإيمان بأكثر صوره إشراقاً ومعرفة الكفر والرذيلة بأكثر صوره قتامة.

فالموعد في كربلاء.

هناك طفح كل إناء بما فيه.

وعبّرت كل فئة عن منهجها.

وكل فردٍ عن ذاتياته.

ووضحت عندها غاية كل طريق.

الصورة المشرقة


أما مواقف الإمام الحسين عليه السلام فلا يسعنا ــ هنا ــ الحديث عن مكارم أخلاقه وسمو مقاصده. فهو ابن من خاطبه الله سبحانه: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[5]. وهو الذي قال النبي في حقه: «حسين مني وأنا من حسين»[6].

ويكفيك ــ لتستشف من عظمته ــ أن أعداءه ومبغضيه من الأمويين وغيرهم لم يجرؤوا ولم يتمكنوا من الخدش بساحة قدسه مع شدة عداوتهم له حتى سفكوا دمه وقطعوا رأسه وداروا به في البلدان وحرثوا فيما بعد قبره وقتلوا كل من يزور مرقده بل بطشوا بكل من يهواه.

الحسين خليفة الله ورسوله في الأرض، فهو منبع الفضائل بل هو القرآن في سلوكه وسيرته. غير أنا لا نبخس أنفسنا حظوظها بحرمانها من ذكر بعض ما صدر عن الإمام في عرصات كربلاء.

ولعل من مواقفه التي تتجلى فيها تلك الروح المحمدية الطاهرة التي تثير فينا الألم والحسرة، تخييره عليه السلام لأهل بيته وصحبه بل حثه لهم على استغلال ظلمة الليل وترك عرصات كربلاء والعودة إلى ديارهم ومأمنهم وتركه في مقابلة عشرات الآلاف من جنود الدولة الطاغوتية الكافرة.

إن أصل التكليف الشرعي الموجه للأمة ــ كل فرد في الأمة ــ بنصرة الإمام وفدائه بكل غال ونفيس: مستمر. كما أن كل من صحب الإمام ورافقه عن طواعية ورغبة وتسليم له فإن مخير بين البقاء والرجوع.

إن من يتعرض لخطر يجب على الآخرين إنجاؤه. فإذا كان إنجاؤه يؤدي إلى هلاك المنجي فهنا يقع تزاحم بين وجوب إنقاذ المؤمن وبين وجوب حفظ نفسه، ولا يمكن التحفظ على التكليفين في نفس الوقت كما هو الفرض فيصبح الإنسان هنا مخيّراً بين إنجاء الآخر وإتلاف نفسه، أو المحافظة على نفسه وترك الآخر لما قدّر له.

أما إذا كان الآخر في معرض الهلاك والتلف والموت على كل حال فيحتمل هنا لزوم المحافظة على نفسه ليأسه من إمكانية إنجاء الطرف الآخر فلا تزاحم بين تكليفين في البين ويبقى لزوم حفظه لنفسه قائماً.

وقضية بقاء أصحاب الإمام عليه السلام معه وتعريضهم أنفسهم للموت في سبيل الإمام الأقدس عليه السلام مع كونه المقصود أساساً للدولة الظالمة ــ أما هم فمقصودون بالتبع للبثهم مع الإمام ولاستماتتهم في المحافظة عليه أن لا تصل إليه يد السلطة الكافرة ــ تثير تساؤلا.

فما الوجه الفقهي في لبثهم؟


إن الإمام عليه السلام صرح لهم ليلة العاشر من محرم الحرام بأنه المقصود ــ شخصياً ــ لهذا الجيش المتجمع في كربلاء ولو ظفروا به لانشغلوا عن غيره.

فعنه عليه السلام: «... فهذا الليل قد أقبل فقوموا واتخذوه جملاً، ليأخذ كل رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم»[7].

وفي نص ابن طاوس: (أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً خيراً منكم، ولا أهل بيت أفضل وأبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري»[8].

هناك احتمالان في توجيه موقف الأنصار من الإمام عليه السلام


أ : إن موقفهم ــ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ــ إنما هو بحسب التكليف الإسلامي العام وهو وجوب أو جواز تعريض النفس لخطر التهلكة رجاءً إنقاذ أي نفس مؤمنة ــ واختلاف التكليف لاختلاف خصوصيات الحالة، فكيف إذا كانت هذه النفس هي نفس إمام معصوم فعلى المرء أن يتقدم ويضحي بنفسه ذيادةً عن الإمام ودفعاً للموت عنه ولو أدى هذا إلى فناء الجميع؛ لأن نفس المعصوم فوق كل نفس بخلافته لله ورسوله في الأرض، والأسباب الأخرى فإذا فعلوا هذا وأدوا ما عليهم من تضحية فقد أبرؤوا ذمتهم من تكليف النتيجة النهائية يتخذ الإمام لها الموقف المناسب، فإما يقدم نفسه قرباناً لله سبحانه أو يصنع ما يجده صالحاً، ويتحمل الجيش الأموي إثم قتل الإمام، وبقية الأمة إثم خذلانه وبلوغه إلى النتيجة المأساوية دون أن يحركوا ساكناً.

ب: إن موقفهم من الإمام لم يكن على طبق التكليف الإسلامي العام، بل كان لخصوصية الحسين عليه السلام كإمام معصوم، وخليفة لله ورسوله في الأرض جهة حيثية في وقوفهم ذلك الموقف المفاداتي منه ولو كان الأمر طبق التكليف العام لكان من المحتمل المنع من اتخاذهم لذلك الموقف؛ لأنه عليه السلام مقتول على كل حال وصمودهم إلى جانبه معناه تعريض جميع تلك النفوس المؤمنة للقتل الحتمي مع أنّها غير مطلوبة للسلطة أولاً وبالذات وإنما بمقدار حمايتهم للإمام وحؤولهم السلطة عن التمكن منه ولدفاعهم المستميت عنه فما الداعي لهذه الاستماتة والنتيجة محسومة؟

إذن: كان للإمامة والإمام مدخلية في صحة تقديم أنفسهم قرابين فداءً لخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحق في الأمة.

أما موقف الإمام من أنصاره

1 ــ فإنه طبقاً للاحتمال الأول: أرجعهم؛ لأن تصميمهم على البقاء والمفاداة قبل أن يعلموا قطعية شهادته فكان تكليفهم البقاء، غير أنه عليه السلام لعلمه بانتهائه إلى الشهادة قدم لهم التخيير في اللبث والرجوع بل حثهم عليه، ــ وسيأتي وجه الحث ــ.

2 ــ وأما إرجاعهم طبقاً للاحتمال الثاني فيُحتمل أن الإمام بحكم أنه ذو صلاحيات خاصة ــ لإمامته وعصمته وخلافته لله ورسوله في الأرض ــ قد أذن لكل من أطاع الله تعالى في نصرته وقدّم نفسه رخيصة فداءً لنفسه المقدسة بالانصراف وأسقط هذا التكليف عنهم تقديراً لموقفهم فلهم أن يرجعوا فيحيوا في أهلهم وذراريهم وذمتهم بريئة من خذلان الإمام ومعصية الله ورسوله، كما لهم البقاء والاستمرار ومشاركة الإمام في جهاده وكفاحه فيكون فداؤهم طوعياً دون أن يكونوا ملجئين إليه بسبب التكليف بالثبات والتضحية.

ومن المعلوم أن من يخير تخييراً كهذا ويختار البقاء والتضحية فموقفه هذا غاية النبل والسمو ونكران الذات في جنب الله ورسوله والإمام المعصوم، ومن يكن هذا شأنه فلا حدّ لرضا الله ورسوله والإمام عنه كما لا حدّ لجود الله سبحانه معه.

إن إسقاط الإمام عليه السلام لتكليف لزوم البقاء واللبث الثابت في ذمة أهل بيته وصحبه لغرض نصره والدفع عنه بما أنه إمام معصوم وخليفة الله ورسوله في الأرض، وسماحه لهم بالرجوع وارتضاؤه لمواجهة القوم الظالمين وحيداً منفرداً مع تصميمه اللانهائي على الامتناع عن مبايعة يزيد وتصميمهم على قتله لهو في حد نفسه دليل على إمامته وعصمته وخلافته لله ورسوله وعلى عدم النظير له.

وكذلك على أخلاق عظيمة سامية أسسها الإسلام وشيدها النبي وآله، وبهذا الخلق ونحوه قام الإسلام على سوقه ونبتت شجرة الإمامة وأرسلت فروعها في كل صوب وآتت ثمارها طيبة مباركة ولا تزال.

إن أول من أجاب الحسين ببيان ثباته وتصميمه على البقاء معه والاستماتة في سبيله مهما تكن النتائج هو أبو الفضل العباس وعلى إثر موقفه تتابعت مواقف الصمود والفداء فكان له مقام السبق إلى هذه الكرامة، وكان هو المعلّم والموجه لهؤلاء الأطياب الأكارم في اتخاذ الموقف الصحيح في هذا الموقف الذي يهز الجبال الرواسي.

وأما وجه حث الإمام لهم على الرجوع دون بيان تخييرهم فقط:


فيحتمل أنه تقديراً منه عليه السلام لموقفهم البطولي في الثبات معه، وشفقة عليهم من أن تنال سيوف الفراعنة منهم منالها فتمزقهم إرباً، وتقليلاً للخسائر ما أمكن، مع الإبقاء عليهم كي يبقى الرعيل الواعي والرسالي والمستعد للتضحية والتغيير من واقع الأمة الفاسد، ويبقى بعد لهم التميز في المقام عند الله ورسوله والأئمة على بقية الأمة لموقفهم النادر مع الإمام السبط الشهيد.

غير أنهم أصروا على مرافقة الحسين عليه السلام في رحلته إلى عالم البقاء والخلود بل على التضحية بكل شيء فداءً له.

وما كان الحسين عليه السلام لينفس عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقد صح منهم العزم وعرف منهم الثبات فأعلن الإمام عليه السلام السماح لهم بمشاطرته نهضته والقدوم معه على الله سبحانه بموقف ثائر في سبيل الله لتحقيق إرادته تعالى في الأرض لم تعرف له الدنيا نظيراً فكانت العظمة كل العظمة للحسين السبط عليه السلام وكانوا هم معه حيثما ذكر.

(السلام عليك يا أبا عبد الله... وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار).

ـــــــــــــــــ
[1] سورة الأحزاب، الآية: 6.
[2] راجع حديث الغدير الشريف: الجزء الأول من كتاب الغدير للشيخ عبد الحسين الأميني، فقد ذكر أن من رواه من الصحابة فقط مائة وعشرة صحابي والنصّ منقول من نفحات الأزهار: ج7، ص63، عن مسند أحمد بن حنبل.

[3] سورة النساء، الآية: 59.
[4] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج23، ص288، ح13.
[5] سورة القلم، الآية: 4.
[6] فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ج3، ص264، عن صحيح الترمذي وابن ماجة، وغيرهما.
[7] مقتل الحسين عليه السلام لابن أعثم الكوفي: ص113.
[8] الملهوف للسيد ابن طاووس: ص151.

إرسال تعليق