بقلم: السيد نبيل الحسني
إنّ من الحقائق التي كشفتها واقعة الطف في يوم عاشوراء اعتقاد الناس بذهاب حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته إلى المستوى الذي شهدته كربلاء من سفك دماء ولده وسبي بناته فلم يشهد حينها دين من الأديان هذا الحد من التجري على الله وأنبيائه ورسله.
ولعل البعض يستغرب من هذه الحقيقة مستبعداً إن ذلك الاعتقاد كان سائداً في المجتمع الإسلامي لاسيما ــ وكما أسلفنا ــ إننا نتحدث عن أناس كانوا بحسب الموازين الحديثية أنهم أبناء أهل غير الأزمنة، فهم اتباع السلف الصالح ومن ثم كيف يمكن أن يكون هؤلاء صلحاء وهم قد تجروا على الله تعالى ورسوله بتلك الانتهاكات للحرمة؟!
فإما أننا نقرأ هذه الوقائع وهي تتحدث عن أناس لم يعرفوا الإسلام ولم تسمع آذانهم باسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم غرباء عنه، فكيف لهم أن يؤمنوا به؟!
وأما أننا أمام حقيقة مرة تؤكد أن هؤلاء عرفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا حديثه إلاّ أنهم لم يؤمنوا به، بل حقدوا عليه أشد الحقد وبغضوه وحاربوه حيا وميتاً، بل إن حربهم له صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته أشد بكثير من حربهم له في حياته، وذلك لخوفهم من الافتضاح. قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}[1].
ولذا: فحينما شاء الله تعالى: «ان يراهن سبايا» كان من مصاديق هذه المشيئة إظهار ما كان المنافقون يحذرون من كشفه فأخرجه الله تعالى في يوم عاشوراء وغيره. كما نصت الآية المباركة. كانوا سراعاً في انتهاك هذه الحرمة وأخذ الثأر منه ببنيه وذريته فأول ما بدأوا به هجومهم على دار ابنتة فاطمة واقتحامه وجمع الحطب على بابها وحرقها.
ولم يكن وجود الحسن والحسين وأمهما فاطمة وهي بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يرضيه ما يرضيها ويغضبه ما يغضبها[2]، بما نعهم عن حرق دارها واقتحامهم له، حتى وقفت ــ بأبي وأمي ــ خلف الباب لعل البعض منهم يرتدع حينما يسمع صوتها ويعلم بوجودها فلا ينتهك حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لعلها أرادت أن تقطع عليهم العذر حينما يخاصمهم سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة فيقول أحدهم انني لم أكن أعلم بوجودها.
ولذلك: وقفت تنادي فيهم وترد على عمر بن الخطاب حينما أخذ ينادي: يا ابن أبي طالب: افتح الباب فقالت فاطمة عليها السلام: «يا عمر، ما لنا ولك؟ ألا تدعنا وما نحن فيه». قال: افتحي الباب وإلاّ أحرقناه! فقالت: «يا عمر، أما تتقي الله عزّ وجل، تدخل بيتي وتهجم عليّ داري».
فأبى أن ينصرف، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب، فأحرق الباب، ثم دفعه عمر.
فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت: «يا أبتاه يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!».
فرفع ــ عمر ــ السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت، فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت: «يا أبتاه!»[3].
فهذه النار التي أضرمت بقلب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحرقت دار بضعته وانتهكت حرمته وقتل ولده كانت الأساس الذي بنى فوقه الناس التجري على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليتضاعف هذا اللهب فيحرق قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل علي بن أبي طالب عليه السلام في محراب جامع الكوفة ومسجدها ثم لينثني بعده على ريحانته المجتبى فيمضي إليه مسموماً وقد قطع كبده ورمي جثمانه بالسهام ثم تمنعه عائشة من الدخول إلى روضة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهي تنادي بصحابة النبي وبأهل بيت النبوة: (لا تدخلوا بيتي من لا أحب، إن دفن الحسن في بيتي لتجز هذه)[4] وأشارت إلى ناصيتها.
فكيف ورثت الزوجة دون البنت، هذا ما لم يكن في ملة من الملل إلا في هذه الأمة التي لم تدع حرمة لنبيها إلا انتهكتها.
حتى إذا وصلنا إلى كربلاء الرزايا فإننا نجد أعظم المصائب التي ألمت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشدها ألماً. فبين قتل ولده وذريته، وسفك دمائهم، والتمثيل بهم، وبين سبي بناته وسلبهن، وكشف رؤوسهن، وضرب أجسامهن بالسياط وكعوب الرماح، ثم يطاف بهن البلاد يستقبلهن الذمي واليهودي والنصراني والمسلم والعربي والأعجمي.
كل هذه المشاهد المروعة والمرسخة للتجري على الله وانتهاك حرمته وحرمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كانت بحاجة إلى ما يعيدها إلى وضعها الصحيح، أي إرجاع الحرمة للحدود الشرعية وحرمة الله ورسوله إلى أذهان الناس لتستقر في قلوبهم بعد أن صدأت بما أسسه السلف. فكان كالآتي:
أولاً: دخولهن بالحالة المفجعة إلى الكوفة عمل على تصديع سنة التجري
إن من السمات الأولى التي يظهرها خطاب السيدة زينب عليها السلام في الكوفة هو انقلاب حال الكوفة عند رؤيته للسبايا وما رافقه من مشاهد للرؤوس لاسيما رأس ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ تظهر العقيلة زينب (عليها السلام) الحالة التي أصبح عليها الناس من خلال خطابها فتمرر للقارئ والباحث ذلك المشهد العام الذي أصبح عليه الناس لتقطع الطريق على المتزلفة والوضاعة حينما يحاولون طمس هذا التحرك الاجتماعي والهيجان النفسي الذي أحدثته العقيلة زينب عليها السلام على الرغم من كل التراكمات التي جمعتها السنين وهي تتلقى فكر التجري في مجتمع الكوفة.
هذه المدينة التي غير فيها التثاقف السفياني فصدع بنيانها الفكري ومعطياتها العقائدية إلى ذلك المستوى الذي شهدته أرض كربلاء[5]. فما كان دخول السبايا ومرورهن بين تلك الجموع إلا كحالة الكي للجرح الذي أصاب المسلمين منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعقبه انعقاد السقيفة.
ولذا: وقفت ابنة أمير المؤمنين تخاطب هذا الجمع فابتدأت بأول هذه المعالجات الاجتماعية والعقائدية فقالت: «الحمد لله، والصلاة على أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»[6]. وفي لفظ: «الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار»[7].
إذن: جوهر القضية العاشورائية هي حرمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولذا استخدمت في صلاتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفظ (أبي) ولم تقل جدي أو نبي الله، أو رسول الله، أو غيرها من أسمائه وصفاته، فهذه الواقفة الآن أمامكم هي ابنته وهي من يُبتدأ الكلام بحمد الله والصلاة على أبيها.
ثم تنحدر ابنة سيد البلغاء والمتكلمين إلى أداة علاجية أخرى وهي صدمهم بعظيم الجرم الذي فعلوه، فقالت: «أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟».
إذن: عامة أهل الكوفة اليوم في حال البكاء، والباكي حينما يبكي إنما لشعوره بالندم على تفريطه في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مما يعني: أنهم في حال من الغليان النفسي وحرارة المشاعر الوجدانية فيحتاجون مطرقة من يد ابنة علي الكرار تعيد النفوس التي اعوجت إلى الاستقامة.
فقالت: «فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف والصدر الشنف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفى العذاب أنتم خالدون»[8].
ثم تعود سلام الله عليها إلى تأجيج نار الندم في قلوبهم ليكوّنوا أساساً جيداً لبناء صون الحرم فقالت: «أتبكون وتنتحبون، أي والله فأبكوا كثيرا، واضحكوا قليلاً، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبداً، فسليل خاتم الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، وأمارة محجتكم، ومدرجة حجتكم خذلتم، وله قتلتم؟! ألا ساء ما تزرون، فتعسا ونكساً، فلقد خاب السعي، وتربت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة»[9].
ثانيا: إن هتك حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسده شيء.
بعد هذا الغليان الذي تجمرت له القلوب التي وقفت تستمع لابنة الكرار انعطفت عليها السلام تطرقها بمطرقة الحرمة النبوية التي انتهكت فقالت: «ويلكم يا أهل الكوفة: أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّا! ولقد أتيتم بها فرقاء شوهاء كطلاع الأرض، وملء السماء؛ أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد»[10].
قال خزيمة الأسدي وقيل بشر: فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى قد ردوا أيديهم إلى أفواههم[11].
ثانيا: التلازم بين حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة أبنائه وذريته
بعد هذا الزلزال الذي أحدثته العقيلة زينب عليها السلام في أرض تلك القلوب المتحجرة تأتي السيدة أم كلثوم بأداة لعلاج تلك القلوب، وذلك من خلال بيان التلازم فيما بين حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة أهل بيته وأبنائه وذريته فقالت عليها السلام: «صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب. يا أهل الكوفة سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتباً لكم وسحقاً، ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتم وأي كريمة أصبتموها وأي صبية أسلمتموها وأي أموال انتهبتموها قتلتم خير الرجالات بعد النبي ونزعت الرحمة من قلوبكم ألا إن حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون».
فضج الناس بالبكاء ونشرن النساء الشعور وخمشن الوجوه ولطمن الخدود ودعون بالويل والثبور فلم ير ذلك اليوم أكثر باك)[12].
وهنا: نرى بوضوح حقيقة هذا التلازم في الحرمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وما يرتبط بهم من أموال وممتلكات وأعراض التي فرضت حولها الشريعة الإسلامية حدوداً كثيرة توجب على المسلم الالتزام بها وعدم التعدي عليها.
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة، الآية: 64.
[2] أنظر صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب مناقب المهاجرين وفضلهم: ج4، ص23.
[3] كتاب سليم بن قيس بتحقيق محمد باقر الأنصاري: ص150؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج28، ص269.
[4] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج1، ص35، (مقدمة التحقيق)؛ الإرشاد للمفيد: ج2، ص18؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج1، ص242؛ تاريخ اليعقوبي: ج2، ص225؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16، ص50.
[5] لمعرفة المزيد عن الآثار التثاقفية التي اهتم بها الأنثروبولوجيون، ينظر: كتاب الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين عليه السلام للمؤلف.
[6] الأمالي للشيخ المفيد: ص323. الأمالي للطوسي: ص92.
[7] اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس: ص86. البحار: ج25، ص109. العوالم، للإمام الحسين عليه السلام: ص378.
[8] مثير الأحزان لابن نما الحلي: ص66.
[9] الأمالي للشيخ المفيد: ص323، ح8. الأمالي للطوسي: ص92. مناقب آل أبي طالب: ج3، ص362.
[10] الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص31؛ مناقب آل أبي طالب: ج3، ص262؛ بلاغات النساء لابن أبي طيفور: ص24.
[11] الفتوح لابن أعثم الكوفي: ج5، ص121.
[12] مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد المقرم: ص332؛ البحار: ج45، ص112؛ مثير الأحزان لابن نما الحلي: ص69؛ اللهوف للسيد ابن طاووس: ص91.
إرسال تعليق