بقلم: الشيخ جعفر النقدي
لم يعهد التاريخ لنبي ولا وصي من الأوصياء ولا لملك من الملوك ولا لزعيم من الزعماء ولا لقائد من قائدي الحروب أصحاباً كأصحاب أبي عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام فإنهم صلوات الله عليهم كانوا ينظرون الى حركات إمامهم وسكناته ويعملون ما كان يعمله عليه السلام ويتركون ما كان يتركه وكانوا لا يحيدون عن ذلك قيد شعرة.
نهضوا مع الحسين (عليه السلام) غضباً لله ولرسوله وطلقوا الدنيا وما فيها وتآزروا وتكاتفوا على احقاق الحق وإبطال الباطل في نصرة ابن بنت نبيهم باعوا هذه الدنيا الفانية بالحياة الباقية وقفوا مع سيدهم في وجه الكفر والإلحاد وقفة لم يسجلها تاريخ البشر لأحد من أبطاله.
نعم لم يسجل التاريخ من عهد آدم الى اليوم أن سبعين رجلاً وقفوا في مقابلة سبعين ألفاً من الرجال ولله در المبرور السيد حيدر الحلي قدس سره حيث يقول:
لقد وقفوا في ذلك اليوم موقفـاً *** الى الحشر لا يزداد إلا معاليـا
بكل ابن هيجاء تربـى بحجرهـا *** عليه أبوه السيف لا زال حانيـا
طويل تجاد السيف فالدرع لم يكن *** ليلـبسه إلاّ من الصبر ضافيـا
يرى السمر يحملن المنايا شوارعـا *** الى صدره ان قد حملن الأمانيا
من القوم اقمار للندى وجوههـم *** تضيء من الآفاق ما كان داجيا
وصفهم سيدهم الحسين صلوات الله عليه لأخته الحوراء الأنسية زينب الكبرى عليها السلام فقال إنهم يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل بلبن أمه. ولما جمعهم عليه السلام وخطبهم بخطبته المشهورة ليكونوا على بصيرة من أمرهم وأذن لهم بالإنصراف عنه وأخبرهم أن آل ابي سفيان وأتباعهم لا يريدون غيره ولا حاجة لهم في سواه وانه يقاتلهم ولا يعطيهم بيده اعطاء الذليل وأنه مقتول لا محالة، فقال من جملة تلك الخطبة:
((أما بعد فإني لا أعلم اصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاهم الله عني خير الجزاء، ألا وإني قد اذنت لكم فأنطلقوا وأنتم جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فأتخذوه جملاً)).
فأجابوه بلسان واحده (( لم نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك)) ولما قال لبني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فأذهبوا قد أذنت لكم، جرت دموعهم على خدودهم وقالوا يا سبحان الله فما يقول الناس لنا تركنا شيخنا وسيدنا ولم نرم معه بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب دونه بسيف ولا ندري ما صنعوا به لا والله ما نفعل ذلك لكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا ونقاتل دونك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك، وقام مسلم بن عوسجة فقال أنحن نخلي عنك وما عذرنا الى الله تعالى لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه بيدي والله لو علمت اني اقتل ثم احرق ثم احيى يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك فكيف وهي قتلة واحدة ثم الكرامة التي لا انقضاء لها ابداً، وقام زهير بن القين فقال والله وددت أني قتلت ونشرت ثم قتلت ونشرت ثم قتلت يفعل بي ذلك الف مرة وان الله دفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الصبيان من أهل بيتك. ثم تكلم جماعة من اصحابه بما يشبه هذا الكلام فجزاهم الحسين عليه السلام خيراً، وأنصرف الى مضربه، ومن الذين أذن لهم الحسين (عليه السلام) بالإنصراف جون مولى أبي ذر وكان عبداً أسود قال له الحسين (عليه السلام) يا جون أنت في حل مني إنما تبعتنا لطلب العافية فاستعبر باكياً وقال يابن رسول الله أفي الرخاء الحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، والله أن ريحي لنتن وإن حسبي للئيم وإن لوني لأسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي، وهملت عيناه بالدموع فدعى له الحسين (عليه السلام) ولما أخبر محمد بن بشير الحضرمي أن أبنه أسر في ثغر الري قال عند الله أحتسبه ونفسي ما أحب أن يؤسر وأبقى بعده فبلغ الحسين (عليه السلام) قوله فقال له رحمك الله أنت في حل من بيعتي أمض وأعمل في فكاك إبنك فقال أكلتني السباع حياً إن فارقتك قال عليه السلام فأعط أبنك هذه الأثواب يستعين بها في فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار وفي الليلة العاشرة من المحرم وهي الليلة التي قتلوا في صباحها قسموا أنفسهم أولئك الصفوة قسمين القسم الأول الهاشميون ويرأسهم أبو الفضل العباس بن علي عليه السلام والقسم الثاني الأنصار ويرأسهم حبيب بن مظاهر الأسدي وصار كل قسم منها يطلب التقدم على الآخر في الذب عن أبي عبد الله (عليه السلام) فكان الهاشميون يقولون لا نترك أصحابنا يتقدمونا الى القتال لأن الحمل الثقيل لا يقوم به إلاّ أهله وكان الأنصار يقولون بل نحن نتقدم الى الموت حتى لانرى هاشمياً مضرجاً بدمه وهكذا كانوا يتنافسون على طلب المنية.
متنافسين على المنية بينهـم *** فكأنما هي غادة معطار
يتسابقون على الكفاح ثيابهم *** فيها وعمتهم قناً وشفار
ولما مشى الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر الى مصرع مسلم بن عوسجة فأدركوه وبه رمق من الحياة ومما قال له حبيب لولا علمي أني لاحق بك لأحببت أن توصي إلي فأجابه مسلم مشيراً الى الحسين (عليه السلام) أوصيك بهذا، قاتل دونه حتى تموت فقال له حبيب لانعمنك عيناً.
هذا بعض ما يؤثر عن أولئك الأصحاب الكرام من المودة والوفاء لسيدهم الحسين (عليه السلام) ونصرتهم لمبدأه السامي من الإنتصار للدين الحنيف والمكافحة عنه حتى النفس الأخير من أنفاسهم وبذلوا تلك النفوس الطاهرة الزكية في هذه الغاية الشريفة التي تقتصر دونها الغايات ولم يقتل الواحد منهم حتى قتل العشرات أو المئات من أعداء دين الله وما أحسن قول القائل فيهم:
تحملوا محناً لو بعضـها حمـل الـ *** ـسبع الطباق هوت ضعفاً على التـرب
بساعة لو تكون الساعة اقتربـت *** منـها تكـافئتـا في شـدة الكرب
حيث الكريهة ترمـي للسما شرراً *** كـالقـصر نيرانـها من شدة اللهب
وحين قامت على ساق جثت غضباً *** لـها بنو مضـر الحمـرا على الركب
من تحتهم لو تزول الأرض لانتضبوا *** على الهوى هضباً أرسـى من الهضب
ابطال حرب اذا عضوا نواجذهـم *** لا منـجد لأعاديهـم سـوى الهرب
وقلت انا من قصيدة فيهم عليهم الصلاة والسلام:
وقام سبط رسول الله ليس يـرى *** لنصرة الدين إلاّ بـذل مهجتـه
في فتية عجنت في الذر طينتهـم *** كـف الـهدى بقراح من محبته
لنصره طلقوا الدنيا وقد نهضـوا *** يسـارعـون الى العقبى بصحبته
على حفيظته شدوا الحبا وعلـى *** أجسـادهم لبسوا ابراد طاعتـه
كأنما الطف إذ في أرضها نزلـوا *** افـق السماء تـراها في أهلتـه
من كل أبلج أن ليل الخطوب دجا *** يهـدي الأنام على انوار غرتـه
وكل ذي سطوة تحكي صوارمه *** على جموع العدى اسياف عزمته
الروس تسجد اجلالاً لصارمـه *** وتـركـع الهام تعظيماً لصعدته
يستقبل الموت مرتاحاً على طرب *** كـأن نيـل الأمـاني في منيتـه
حتى إذا كشف الله الغطاء لهـم *** وأبصـروا النعمة العظمى بجنتـه
تسابقوا للقا حتى قضوا وغـدا *** يثني الـزمان لهم اسرار مدحتـه
إن نساء هؤلاء الكرام لم يكنَّ أقل مودة ووفاء للحسين عليه السلام وأهل بيته من رجالهن فأنهن رضوان الله عليهن كن بأعمالهن الخالدة يطلبن المواسات بل المساوات للرجال فمنهن زوجة زهير بن القين الذي كان يساير الحسين في الطريق عند خروجه من الحجاز ويتباعد عنه ولما جاءه رسول الحسين (عليه السلام) يدعوه نظرت اليه زوجته فرأته كالمتثاقل إليه (عليه السلام) فأخذت تلومه على ذلك قائلة يا سبحان الله يدعوك إبن رسول الله وتتثاقل ثم أخذت تستفز حفيظته وتقوي عزيمته على الإلتحاق بالحسين (عليه السلام) ((ومنهن)) زوجة علي بن مظاهر الأسدي حين أمرها بالإلتحاق بأهلها بكت بكاء عالياً وقالت والله لا أذهب فأنتم تشاركون الرجال ونحن نشارك النساء فجاء الى الحسين (عليه السلام) وقال سيدي أبت الأسدية إلاّ مشاركتكم ((ومنهن)) زوجة مسلم بن عوسجة التي قتل زوجها في المعركة دعت ولدها الذي لم يبلغ الحلم وشدت له سيف والده مقصرة له الحمائل ليجاهد دون سيده الحسين (عليه السلام) ((ومنهن)) أم وهب بن حباب الكلبي وزوجته المجاهدتين هذه بيدها عمود الخيمة وتلك بالحجر الصلد وهكذا بقية الكريمات من نساء هؤلاء الأبطال فهل كان في العالم منذ نشأته الى اليوم أصحاباً لأحد كهؤلاء الصفوة الكرام من رجال ونساء كلا ثم كلا فجزاهم الله عن هذا الدين وأهله وعن الحسين وجده المختار خير جزاء المحسنين ولعنة الله على القوم الظالمين.
إرسال تعليق