أسرار الزكاة والمعروف



قال الفيض الكاشاني: السر في إيجاب الزكاة وإنفاق المال امتحان العبد، وفيه ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: إن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام التوحيد وشهادة بإقرار المعبود، وشرط تمام الوفاء بذلك أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما تمتحن درجة الحب بمفارقة المحبوبات، والأموال محبوبة عند الخلق لأنها آلة تنعمهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم ويفرون من الموت مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرقومهم ومعشوقهم، ولذلك قال الله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ))[1].
والمعنى الثاني: التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه[2]. وقال الله عزّوجل: ((وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))[3].

وإنما تزول صفة البخل بأن يتعود بذل المال، فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتياداً، فالإنفاق بهذا المعنى يطهر صاحبه من حيث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى.

والمعنى الثالث: شكر النعمة، فإن لله على عبده نعمة في نفسه وماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال. وما أخسَّ[4] من ينظر إلى الفقير وقد ضيق الرزق عليه وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى في إغنائه عن السؤال[5].

وينبغي للمنفق أن يغتنم الفرصة مهما ظهرت داعية الخير من الباطن حذراً من إغواء[6] الشيطان اللعين، وأن لا يحوج الفقير إلى السؤال، فورد أنه مكافأة لوجهه المبذول سوثمن ما أخذ منه وليس بمعروف، ويتحرى الأوقات الشريفة والأمكنة المنيفة[7] كمكة والمدينة والمشاهد وشهر رمضان وذي الحجة ويوم الغدير، وأن يسر في المستحب بحيث لا تدري شماله ما تعطي يمينه قال الصادق عليه السلام : الصدقة في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية[8].

وكان عليه السلام[9] إذا صلى العتمة[10] وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم وحمله على عنقه ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه بينهم ولا يعرفونه، فلما مضى عليه السلام  فقدوا ذلك وعلموا أنه كان أبا عبد اللهعليه السلام[11].

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صدقة السر تطفئ غضب الرب[12].

وقال الصادق عليه السلام : كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلما كان تطوعاً فإسراره أفضل من إعلانه[13].

وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق[14] وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة[15]، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا[16].

وينبغي أن تستصغر الإعطاء ليعظم عند الله تعالى وهو يذكر التوفيق والثواب. قال الصادق عليه السلام : رأيت المعروف لا يصلح إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله. فإنك إذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه، فإذا[17] سترته تممته، وإذا عجلته هنأته، وإن كان غير ذلك محقته[18].[19]

وأن يعطي الأجود والأحب والأبعد عن الشبهة. قال تعالى: ((ن تَنٰالُواْ الْبِرَّ حَتّى تُنفِقُواْ مٰا تُحِبُّونَ))[20] وقال تعالى: ((أَنفِقُواْ مِن طَيِّباتِ مٰا كَسَبْتُمْ))[21]، وأن يقبل يده بعد الإعطاء، فقد ورد أن الله تعالى يأخذها قبل أن تقع في يد السائل[22]، فإنه عزّوجل ((يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ))[23]، وأن يلتمس الدعاء من الآخذ، فقد ورد أن دعاءه يستجاب فيه[24]، وأن يصرف إلى من في إعطائه أكثرية الأجر كالأرحام والعلماء والصلحاء[25]، ولا يرد السائل إلا بلطف، فورد: أكرم السائل ببذل يسير أو برد جميل[26]، ولا يحتقر ما عنده، فورد: لا تستحيوا[27] من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه[28].

ويجتنب المن والأذى كما قال تعالى: ((ولا تُبْطِلُواْ[29] صَدَقاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذى))[30]. والمن: أن يرى نفسه محسناً[31]، بل المحسن هو القابض لإيصاله إلى الثواب والإنجاء من العقاب، وكونه نائباً عنه تعالى، وهو حق الله عزّوجل أحال عليه الفقير إنجازاً لما وعده من الرزق. والأذى التعيير والتوبيخ والقول السيئ والقطوب[32] والاستخدام وهتك الستر والاستخفاف.

وينبغي للآخذ أن يعلم أن الله تعالى أمر المعطي بصرفه إليه ليكفي مهمته، فيتجرد للعبادة فيشكر الله ويشكر المعطي، فيدعو له ويثني عليه مع رؤية النعمة من الله سبحانه. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  : من لم يشكر الناس لم يشكر الله[33].

وينبغي للمؤمن أن لا يسأل الناس مهما استطاع، فإنه ذل في الدنيا وفقر معجل وحساب طويل يوم القيامة[34]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يوماً لأصحابه:ألا تبايعون![35] فقالوا: قد بايعناك يا رسول الله. قال: تبايعون[36] على أن لا تسألوا الناس شيئاً، فكان بعد ذلك تقع المخضرة[37] من يد أحدهم فينزل لها ولا يقول لأحد ناولنيها[38].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن أحدكم يأخذ حبلاً فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل[39].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه الله[40].

وقال الصادق عليه السلام : شيعتنا من لا يسأل الناس شيئاً ولو مات جوعاً[41].

وقال عليه السلام[42]: لو يعلم السائل ما عليه من الوزر ما سأل أحد أحداً، ولو يعلم المسؤول ما عليه إذا منع ما منع أحد أحداً[43].

وقال عليه السلام[44]: من سأل من غير حاجة فكأنما يأكل الجمر[45].

واعلم أن للجسد زكاة كما أن في المال زكاة، وهو نقصه لمزيد الخير والبركة، إما اضطراراً بأن يصاب بآفة، أو اختياراً بأن يصرف في الطاعة ويمنع عن المعصية.

قال الصادق عليه السلام : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يوماً لأصحابه: ملعون كل مال لا يزكى، ملعون كل جسد لا يزكى ولو في كل أربعين يوم مرة. قيل له: يا رسول الله أما زكاة المال فقد عرفناها فما زكاة الأجساد؟ فقال لهم: أن تصاب بآفة. قال: فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه. قال: فلما رآهم قد تغيرت ألوانهم قال: هل تدرون ما عنيت بقولي؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: إن الرجل يخدش[46] الخدشة وينكب النكبة[47]  ويعثر العثرة ويمرض المرضة ويشاك الشوكة وما أشبه هذا حتى ذكر في حديثه اختلاج[48] العين[49].

وفي مصباح الشريعة: قال الصادق عليه السلام : على كل جزء من أجزائك زكاة واجبة لله عزّوجل، بل على كل منبت شعرك، بل على كل لحظة فزكاة العين النظر بالعبر والغض عن الشهوات وما يضاهيها، وزكاة الأذن استماع العلم والحكمة والقرآن وفوائد الدين من الموعظة والنصيحة وما فيه نجاتك بالإعراض عما هو ضده من الكذب والغيبة وأشباههما، وزكاة اللسان النصح للمسلمين والتيقظ للغافلين وكثرة التسبيح والذكر وغيره، وزكاة اليد البذل والسخاء بما أنعم الله عليك وتحريكها بكتابة العلوم ومنافع ينتفع بها المسلمون في طاعة الله والقبض عن الشرور، وزكاة الرجل السعي في حقوق الله من زيارة الصالحين ومجالس الذكر وإصلاح الناس وصلة الرحم والجهاد وما فيه صلاح قلبك وسلامة دينك. هذا ما تحمل القلوب فهمه والنفوس استعماله، وما لا يشرف عليه إلا عباده المقربون المخلصون أكثر من أن يحصى، وهم أربابه وهو شعارهم ودثارهم[50].

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام[51].


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة/ 111.

[2] عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور: 1/ 273، الفصل العاشر في أحاديث تتضمن شيئا من الآداب الدينية/ ح96.
[3] سورة الحشر/ 9.
[4] الخسيس: الدنيء.
الصحاح، الجوهري: 3 / 922، مادة -خسس-.
[5]  أنظر: الحقايق في محاسن الأخلاق، الفيض الكاشاني: 264 ـ 265، الباب الخامس، الفصل الثاني السر في إيجاب الزكاة.
[6] أغواه الشيطان: أضله. و المغوي: الذي يحمل الناس على الغواية والجهل. وغوى يغوي من باب ضرب: انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد، والاسم الغواية بالفتح .
مجمع البحرين، الطريحي: 3/ 341، مادة -غوى-.
[7] طود منيف، أي: عال مشرف.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 5/ 141، مادة -نيف-.
[8] الكافي، الكليني: 1/ 333، كتاب الحجة، باب نادر في حال الغيبة/ ح2.
[9] أي: -الإمام الصادق عليه السلام -.
[10] العتمة: وقت صلاة العشاء، قال الخليل: العتمة، الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وقد عتم الليل من باب ضرب، وعتمت ظلامه وأعتمنا من العتمة كأصبحنا من الصبح، وعتم تعتيما سار في ذلك الوقت.
مختار الصحاح، الرازي: 218، مادة -عتم-.
[11] أنظر: الكافي، الكليني: 4/ 8، كتاب الزكاة، باب صدقة الليل/ ح1.
[12] دعائم الإسلام،المغربي:2/331،كتاب العطايا،الفصل 4 ذكر فضل الصدقة/ح1249.
[13] تفسير كنز الدقائق، المشهدي: 1/ 657، تفسير سورة البقرة.
[14] في الأمالي: -تصدق-.
[15] في الأمالي: -تأمل البقاء وتخاف الفقر-.
[16] الأمالي، الشيخ الطوسي: 398، المجلس 14/ ح34.
[17] في المكارم: -وإذا-.
[18] في المكارم: -محقته ونكدته-.
[19] مكارم الأخلاق، الطبرسي: 136، الباب 7 في الأكل والشرب، الفصل الأول في فضل إطعام الطعام.
[20] سورة آل عمران/ 92.
[21] سورة البقرة / 267.
[22] كان زين العابدين  عليه السلام  يقبل يده عند الصدقة و سئل عن ذلك فقال عليه السلام  إنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل.
عدة الداعي، ابن فهد الحلي: 68، الباب الثاني، القسم السادس ما يرجع إلى الفعل كأعقاب الصلاة.
[23] سورة التوبة / 104.
[24] قال زين العابدين عليه السلام : دعوة السائل الفقير لا ترد.
وسائل الشيعة، الحر العاملي: 9/ 425، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب 25 استحباب التماس الدعاء من السائل / ح 6.
[25] عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم  أَنَّهُ قَالَ : الصَّدَقَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ جُزْءٍ الصَّدَقَةُ فِيهِ بِعَشَرَةٍ وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْعامَّةِ وَقالَ تَعالَى: ((مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)) سورة الأنعام/ 160 . وَجُزْءٍ الصَّدَقَةُ فِيهِ بِسَبْعِينَ وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى ذَوِي الْعاهاتِ وَجُزْءٍ الصَّدَقَةُ فِيهِ بِسَبْعِمِائَةٍ وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى ذَوِي الأَرْحَامِ وَجُزْءٍ الصَّدَقَةُ بِسَبْعَةِ آلافٍ وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْعُلَماءِ وَجُزْءٍ الصَّدَقَةُ بِسَبْعِينَ أَلْفاً وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَوْتَى.
مستدرك الوسائل، النوري: 7/ 195 ــ 196، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب 18 تأكد استحباب الصدقة على ذي الرحم والقرابة/ ح10.
[26] الكافي، الكليني:4/ 15،كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب كراهية رد السائل/ ح3.
[27] في الغرر: -لا تستحي-.
[28] غرر الحكم ودرر الكلم، الآمدي: 382، الباب الرابع في الأخلاق الاقتصادية، الفصل الأول في السخاوة، مواعظ متفرقة/ ح38.
[29] بداية الآية: ((يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا ...)).
[30] سورة البقرة/ 264.
[31] يحتمل المن تأويلين: أحدهما: إحسان المحسن غير معتد بالإحسان، يقال: لحقت فلانا من فلان منة، إذا لحقته نعمة باستنقاذ من قتل، أو ما أشبهه.
والثاني: من فلان على فلان إذا عظم الإحسان، وفخر به، وأبدأ فيه، وأعاد حتى يفسده ويبغضه، فالأول حسن، والثاني قبيح.
لسان العرب، ابن منظور: 13/ 418، مادة -منن-.
[32] القطوب، أي: العبوس.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 4/ 79 ، مادة - قطب-.
[33] تفسير مجمع البيان، الطبرسي: 10/ 386، تفسير سورة الضحى.
[34] عن أَبَي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام : إِيّاكُمْ وَسُؤالَ النّاسِ فَإِنَّهُ ذُلٌّ فِي الدُّنْيا وَفَقْرٌ تُعَجِّلُونَهُ وَحِسَابٌ طَوِيلٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
الكافي، الكليني: 4/ 20، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب كراهية المسألة/ ح1.
[35] في الوسائل: -تبايعوني-.
[36] في الوسائل: -تبايعوني-.
[37] في الوسائل: -المخصرة-. المخضرة: الغليظة عودها، والصلبة شوكها.
[38] وسائل الشيعة، الحر العاملي: 9/ 443، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب 32 كراهة المسألة مع الاحتياج/ ح 18.
[39] عدة الداعي، ابن فهد الحلي: 100، الباب الثاني، القسم السادس ما يرجع إلى الفعل كأعقاب الصلاة، فصل في كراهية السؤال ورد السؤال.
[40] مشكاة الأنوار،الطبرسي:131،الباب الثالث في محاسن الأفعال،الفصل السابع في القناعة.
[41] عدة الداعي،ابن فهد الحلي:99،الباب الثاني،القسم السادس ما يرجع إلى الفعل كأعقاب الصلاة.
[42] أي: -الإمام الصادق عليه السلام -.
[43] وسائل الشيعة، الحر العاملي: 9/ 443، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب 32 كراهة مسألة مع الاحتياج/ ح17.
[44] أي: -الإمام الصادق عليه السلام -.
[45] جامع السعادات، النراقي: 2/ 99، فصل لا يجوز السؤال من غير حاجة.
[46] الخدش: مزق الجلد قل أو كثر.
كتاب العين، الفراهيدي: 4/ 166، مادة -خدش-.
[47] النكبة: هي ما يصيب الإنسان من الحوادث.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 5/ 113.
[48] الاختلاج: الحركة والاضطراب.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: 2/ 60.
[49] أنظر:الكافي،الكليني:2/258،كتاب الإيمان والكفر،باب شدة ابتلاء المؤمن/ ح26.
[50] أنظر: مصباح الشريعة، الإمام الصادق عليه السلام : 51 ــ 52، الباب 22 في الزكاة.
[51] المقنعة، الشيخ المفيد: 304، كتاب الصيام، باب 7 ثواب الصيام.

إرسال تعليق