بقلم الدكتور المستبصر: أحمد راسم النفيس
تاريخ النشر: 3 ــ 4 ــ 2014
لقد قتل الحسين عليه السلام ولم يشهد أحد من
المؤمنين هذه الجريمة إلاَّ حرائر أهل بيت النبوّة، من ينعاك إذن يا أبا عبد الله
إلاَّ بنات علي وفاطمة؟ ها هي زينب عليها السلام حتَّى تمرُّ بالحسين عليه السلام
صريعاً فتبكيه، وتقول: (يا محمّداه يا محمّداه صلّى عليك ملائكة السماء هذا الحسين
بالعرا مرمَّل بالدما مقطع الأعضا، يا محمّداه وبناتك سبايا وذرّيتك مقتلة تسفي
عليها الصبا). فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق([1]).
ثمّ ها هي أسيرة في مجلس ابن زياد، فيسأل: من هذه
الجالسة؟ فلم تكلّمه، فقال ذلك ثلاثاً كلّ ذلك لا تكلّمه، فقال بعضُ إمائها: هذه
زينب ابنة فاطمة. فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب
أحدوثتكم. فقالت: (الحمد لله الذي أكرمنا بمحمّد صلى الله عليه وآله
وسلم وطهَّرنا تطهيراً لا كما تقول أنت، إنَّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر).
قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: (كتب
عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون
عنده).
قال: فغضب ابن زياد واستشاط. قال له عمر بن حريث:
أصلح الله الأمير إنَّما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ فقال لها ابن
زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة والمردة من أهل بيتك. فبكت ثمّ قالت: (لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي
واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت)([2]).
محاولات إخفاء الحقيقة، ابن كثير يناقض نفسه
كلمات واضحة يفهمها من يقرأها، تستعصي على التزوير،
لكن يد الغشّ والخيانة أخفت كلّ شيء وزوَّرت كلّ شيء، ونشأت أجيال وأجيال لا تعرف
من ذكرى الحسين إلاَّ أنَّه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّه
خرج يطلب الملك والإمارة فخذله المسلمون الشيعة، وقتله بنو أميّة وهم أصحاب الدولة
الشرعية، وأمَّا الشيعة فهم يضربون أنفسهم ويسيلون دماءهم لأنَّهم قتلوه، قليل
أولئك الذين يعرفون الحقيقة بتفصيلاتها حتَّى (ابن كثير) يكتب فصلاً، في البداية
والنهاية، بعنوان: (صفة مقتل الحسين بن علي عليه السلام مأخوذة من كلام أئمّة هذا
الشأن لا كما يزعمه أهل التشيّع من الكذب الصريح والبهتان).
ولا يلام ابن كثير الدمشقي على حبّ قومه من بني
أميّة، ولا على سبابه للمسلمين الشيعة واتّهامه لهم بالكذب الصريح والبهتان.
ولكن العجب كلّ العجب أنَّه لم يخالف حرفاً واحداً
ممَّا رواه أئمّة التشيّع في كتبهم عن مقتل الحسين عليه السلام، ويكذّب عدَّة
روايات وردت في هذا الشأن ليست محورية ولا أساسية في القضيّة وهو يتناقض مع نفسه
فيقول: (ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً، من
كون الشمس كسفت يومئذٍ حتَّى بدت النجوم...)([3]).
ثمّ يقول ناقضاً ما ذهب إليه: (وأمَّا ما روي من
الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح! فإنَّه قلَّ من نجا من أولئك
الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا فلم يخرج منها حتَّى أصيب بمرض وأكثرهم
أصابهم الجنون)([4]).
ثمّ يناقض نفسه، ويتخبَّط ويواصل الشتم والسبّ،
ويقول: (للشيعة والروافض في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة وفي ما ذكرناه
كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أنَّ ابن جرير وغيره من الحفّاظ ذكروا ما
سقته وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند
الأئمّة، ولكنَّه إخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره...)، ثمّ
يقول: (وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه... فكانت الدبادب تضرب بغداد ونحوها من
البلاد في يوم عاشوراء...) الخ.
(وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من
أهل الشام فكانوا يوم عاشوراء يطبخون ويغتسلون ويتطيَّبون ويلبسون أفخر ثيابهم،
ويتَّخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون السرور والفرح يريدون
بذلك عناد الروافض ومعاكستهم)([5]).
إذن الشيخ ابن كثير يقرُّ ويعترف أنَّ أجهزة
الدعاية الأموية قلبت الحقائق وحوَّلت يوم الكارثة إلى عيد وسرور، وهو الذي ما زال
متداولاً إلى يومنا هذا. ويمضي الرجل يكشف على استحياء دخيلة نفسه فيقول: (وقد
تأوَّل عليه من قتله أنَّه جاء ليفرّق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه
من الناس واجتمعوا عليه، فقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك والتحذير منه
والتوعيد عليه)([6]).
عفواً، أيّها الشيخ، يبدو أنَّ (خطأ) الإمام الحسين
عليه السلام أنَّه ولد واستشهد قبل مجيء (مسلم) وكتابه، فلم يدر بالحديث المزعوم
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعلم أنَّ الأمّة بعد قرنين ستعرف
(صحيح مسلم) وتجعل (صحيح الحسين).
عفواً، أيّها الشيخ، فقد جهلت الأمّة (حديث
الثقلين): «إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به بعدي لن تضلّوا أبداً كتاب الله
وعترتي أهل بيتي وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»([7])،
وهو حديث رواه (مسلم) في صحيحه بعد الحسين بقرنين، لقد جهلت الأمّة هذا الحديث يوم
كان عليها أن تذكره ثمّ روته بعد ذلك ولم تفهمه هذه الأمّة التي نسيت وتناست ما
صحَّ نصّاً وما جسَّده الإمام الحسين، مارست الدين على الطريقة الأموية ومن حاول
المقاومة كان مصيره القتل كما أسلفنا من قبل.
ثمّ يمضي الشيخ في منطقه ويقول بعدما عدَّد القتلى
ممَّن عدَّهم أفضل من الحسين وأبيه: (ولم يتَّخذ أحدٌ يومَ موتهم مأتماً يفعلون
فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين)([8]).
ثمّ يناقض نفسه كعادته: (وأحسن ما يقال، عند ذكر
هذه المصائب وأمثالها، ما رواه علي بن الحسين، عن جدّه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أنَّه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكَّرها وإن تقادم عهدها فيحدث
لها استرجاعاً إلاَّ أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها»)([9]).
إنَّنا نستعرض كلمات (ابن كثير) لأنَّها أنموذج
لحالة التناقض والارتباك التي وقع فيه الكثيرون ممَّن أذهلهم الحدث وعجزوا عن
متابعته وقول كلمة الحقّ فيه، ومن أولئك الذين أرادوا استتباب الأمر لبني أميّة
وظنّوا أنَّ قضيّة آل البيت قد طويت وانتهت فلمَّا أعلن الحسين ثورته وخطَّ كلمة
الحقّ بدمائه على الأرض، وفي السماء بل وفي الكون كلّه، لجأوا مرَّة أخرى إلى
الكتمان والتزييف لعلَّ الناس ينسون، ولكن هيهاتَ هيهاتَ.
من يُقيل عثرة الأمّة المنكوبة؟
وهكذا انقضت هذه الجولة ونال كلّ طرف ما يستحقّه،
نال الحسين وآل بيته الشهادة التي أرادوها واستحقّوها، فيما نال بنو أميّة ومن
والاهم اللعنة الدائمة، والخسران المبين.
أمَّا هذه الأمّة المنكوبة فلا نجد من يصف حالها
ومآلها إلاَّ هذه الرواية التي يذكرها الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) فيقول ما
نصّه: لمَّا وضع رأس الحسين عليه السلام بين يدي ابن زياد أخذ ينكت بين ثنيتيه
ساعة، فلمَّا رآه زيد بن أرقم لا ينجِمُ عن نكته بالقضيب قال له: أعلُ بهذا القضيب
عن هاتين الثنيتين فهو الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبّلهما. ثمّ انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد:
أبكى الله عينيك، فوَالله لولا أنَّك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك لضربت عنقك. قال:
فنهض فخرج. فلمَّا خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو
سمعه ابن زياد لقتله، فقلت: ما قال؟ قالوا: مرَّ بنا وهو يقول: ملك عبد عبداً،
فاتَّخذهم تُلداً. أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمَّرتم
ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذلّ فبُعداً لمن رضي بالذلّ([10]).
أي والله، أيّها الشيخ، إنَّها لشهادة حقّ ولكن بعد
فوات الأوان، ولكنَّها تحكي الواقع الذي احتار الناس في تفسيره، لماذا وكيف صرنا
لما نحن عليه الآن عبيد في ديارنا لا نملك من الظالمين دفعاً ولا نفعاً، هذا يحكي
لنا عن الحرّية في أوروبا! وذاك يحكي لنا عن طبيعة هذا الشعب أو ذاك الذي يحبّ
العبودية ولم يحاول أحد أن يصل إلى الحقيقة.
إنَّ ما جرى علينا هو استجابة لدعوة دعاها أبو عبد
الله على من قتله أو رضي بذلك أو سمع فلم ينكر. فها هو أبو عبد الله الحسين يدعو
عليهم وقد أثخنته الجراح: «اللّهمّ أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض،
اللّهمّ فإن متعتَّهم إلى حين ففرّقهم فِرَقاً واجعلهم طرائقَ قِدداً ولا تُرْض
عنهم الولاة أبداً فإنَّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا»([11]).
ثمّ هو عليه السلام يقول قبل قتله مباشرة - وهو
يقاتل على رجليه قتالَ الفارس الشجاع يتَّقي الرمية ويفترص العورة ويشدّ على الخيل
-: «أعلى قتلي تحاثون؟ أمَا والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله، الله أسخط
عليكم لقتله منّي، وأيم الله إنّي لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم
من حيث لا تشعرون، أمَا والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك
دماءكم ثمّ لا يرضى لكم حتَّى يضاعف لكم العذاب الأليم»([12]).
وهكذا ضاعت الفرصة تلو الفرصة
من هذه الأمّة من دون أن تستفيد منها وكان أمر الله قدراً مقدوراً. والفرص لا تمنح
للأمم مائة مرَّة، ولا عشرين مرَّة، ولا عشر مرَّات، إنَّ الفرص التاريخية لإصلاح
الأحوال والسير على نهج مستقيم لا تأتي إلاَّ قليلاً.
وهكذا ضاعت من هذه الأمّة فرصة السير على نهج
نبيّها ثلاث مرَّات، فرصة الإمام علي، ثمّ فرصة الإمام الحسن، ثمّ كانت فرصة
الإمام الحسين هي القاصمة التي ما بعدها قاصمة، وكان لا بدَّ من انتظار طويل.
وأسدل ستار الليل في سماء هذه الأمّة وهو ليل لن يجلوه إلاَّ ظهور قائم أهل البيت
عليهم السلام، الإمام الثاني عشر محمّد المهدي المنتظر عليه السلام.
وهكذا قُدِّر لنا أن ننتظر ذلك الانتظار الطويل وأن
نعيش ذلك الصراع المرير بين قوى الحقّ والباطل داخل هذه الأمّة، وأن نرى كلّ هذه
المصاعب والويلات من سفك دماء وطاقات تهدر في صراعات داخلية ورؤوس تطير وسجون تملأ
وغزوات خارجية تترية وصليبية وأخيراً صهيونية وقبلها أوروبية وحكومات من الأنواع
والأشكال كافّة مملوكية وعبّاسية وأموية وعثمانية، وهل هناك أسوأ من أن يحكم
المماليك العبيدُ أمّة وهم لا يملكون حقّ التصرّف في ذواتهم؟ كلّ هذه الحكومات
أكثرت من الظلم، وقلَّلت من العدل وادّعى الجميع أنَّهم يطبّقون الإسلام، والكلّ
يقتل بالظنّة، والكلّ يستبيح الخمور، وانتهاك الأعراض. وأخيراً جاءت إلينا
الحكومات العلمانية والقومية والاشتراكية والملكية والشيوعية، جرَّبوا فينا كلّ
شيء إلاَّ العدل، ذلك الممنوع علينا من يوم جاء بنو أميّة.
وهكذا قُدّر لنا أن نعيش الصراع والانتظار.
إرسال تعليق