قصة استبصار السيدة أُمّ عبد الرحمن الجزائرية



  بتاريخ: 2 ــ 4 ــ 2014


أُمّ عبد الرحمن تروي قصَّة استبصارها

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

حصلت على بكالوريوس التعليم الثانوي في مادّة الكيمياء في المعهد العالي للأساتذة، وانشغلت بتدريس مادّتي الفيزياء والكيمياء لمدَّة تسع سنوات، والآن ومنذ خمس سنوات أشرف على الإدارة الداخلية لمعهد السيّدة خديجة عليها السلام للعلوم الإسلاميّة في قم المقدَّسة تحت نظر اللجنة الإدارية الموقَّرة، وأدرّس علوم أهل البيت عليهم السلام.

منذ أيّام الجامعة كان أمل أبي عبد الرحمن أن يلتحق بقم المقدَّسة لطلب علم أهل البيت، وقد تعرَّف على المذهب ومنجزات الثورة الإسلاميّة عن طريق شاب إيراني، كان يدرس معنا في الجامعة، وأضحى هدفه الوحيد منذ ذلك الوقت هو الهجرة وطلب العلم ولم يتحقَّق هدفه إلاَّ بعد مرور اثنتي عشرة سنة، في أيّام الجامعة تقريباً.

أمَّا أنا فقد كنت منغمسة في التدريس ومسؤوليّاته، ولم يكن لدينا أدنى توجّه في المعارف الإسلاميّة، بل كان تديّني تقليدياً كأغلب الناس، فلم أكن أناقشه في مسائل المذهب الجديد، ولم أكن أهتمّ بمطالعة الكتب الشيعية القليلة التي كان يحصل عليها عن طريق السفارة الإيرانية، وهكذا بقيت طول هذه المدّة على مذهبي إلى أن جئت إلى إيران. 

قدم أبو عبد الرحمن إلى إيران سنة قبل سفري حيث استطاع أن يهيّئ لنا المسكن وغيره، ثُمّ أرسل إلينا على أن نلتحق به أنا والأطفال، فنزلنا إلى سوريا في محرَّم سنة (1414هـ) وهناك التقينا به.

في سوريا أوّل ما فعله هو أنَّه أخذنا إلى زيارة مقام السيّدة زينب سلام الله عليها.
طبعاً، معلوم أنَّ المشرق أرض الأنبياء والمغرب أرض الأولياء، فمقامات أولياء الله الصالحين منتشرة في كلّ المغرب العربي، حيث يرد عليهما الناس فيرفعون حاجاتهم إلى الله تعالى، ويتوسَّلون بهم. وكثيراً ما كان يستجاب دعاءهم وتقضى حاجاتهم، إلاَّ أنَّه وبعد ظهور بعض الفِرَق الإسلاميّة التي تعتقد بأنَّ زيارة المراقد شرك، قلَّت زيارة الناس وتردّدهم على هذه المقامات.

فلمَّا دخلنا إلى مقام السيّدة زينب عليها السلام، لم أتعجَّب ممَّا رأيته من توسّل الناس، وتبرّكهم بمرقدها الشريف، وبكائهم ودعائهم، إلاَّ أنَّه بهرني جماله وإتقان صنعه، واحترام الزوّار له، لم أكن أتردَّد على مراقد الأولياء الصالحين في بلدي (خاصّة أنَّ عقيدتي بهم كانت ضعيفة جدّاً لأنَّني كنت أجهل دور وساطة الأولياء والصالحين ومكانتهم عند الله تعالى، وكان يرتابني الشكّ والخوف من السقوط في الشرك بجهلنا بالدين والعقيدة).

عندها ناولني أبو عبد الرحمن التربة وزيارة السيّدة زينب عليها السلام قائلاً: صلّي ركعتين، ثُمّ اقرأي هذه الزيارة.

فصلَّيت ركعتين ثُمّ بدأت في قراءة الزيارة وكنت كلَّما أقرأ ما فيها من وصف حال أبناء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تأخذني رعشة، ولم أكن أدري ما حصل في يوم عاشوراء للحسين عليه السلام وأهله وأصحابه، ولم أكن أعلم ما حدث بالسيّدة زينب وبنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك، فكانت هذه الحقائق تدمي القلوب وتذيبها، هل يمكن أن يفعل هكذا بأحفاد الرسول ؟
 وإذا كان الأمر كذلك لماذا نجهل هذه الأمور؟
 لماذا لا ندرسها في دروس التربية الإسلاميّة والتاريخ؟
 ألا تستحقّ هذه الفجيعة أن تعرف من طرف كلّ مسلم؟ 
أم أنَّها أخفيت لهدف معيَّن وعمداً؟
 تساؤلات لا أجد لها أجوبة، لأنَّ الحقيقة حجبت علينا، والتاريخ محرَّف مزيَّف.

 فما وجدت حيلة ولا وسيلة إلاَّ البكاء والنحيب، وفي تلك اللحظات الحاسمة الحزينة التي يجد فيها الإنسان نفسه أمام حقائق خطيرة تمسّ بعقيدته وتاريخ دينه أصاب شعاع من أشعة الرحمة واللطف والعناية الإلهية التي كانت تعمّ تلك الحضرة الشريفة قلبي فحرَّك الفطرة الدفينة والحبّ العميق الذي أودعه الله تعالى في قلب الإنسان اتّجاه أهل بيت الرسول، وبحمد الله وعونه صارت نقطة التحوّل في حياتي وحياة أسرتي كلّها منذ تلك اللحظة. وقد كانت هذه الهبة الإلهية أجمل وأفضل نعمة أنعمها الله علينا إلى جانب نعمه وفضله الدائم، فالحمد لله ربّ العالمين.

بعد أسبوع تركنا سوريا وتوجَّهنا إلى إيران، هناك بدأت أطالع كتب التاريخ والسيرة وأتعرَّف على سرّ الإمامة والخلاف بين السُنّة والشيعة في هذه المسألة بالخصوص، فاستغربت كيف حجبت الحقيقة عن الناس، وقد ورد في القرآن الكريم آيات، وفي السيرة روايات عديدة تنصّ على تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة من ولده منصب الخلافة والإمامة، فأُوّلت الآيات وأُخفيت الروايات أو أُتلفت ولم يمض على رحلة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ أيّام معدودة.


وجهل الأمّة الإسلاميّة بالتاريخ في اعتقادي يرجع إلى أمرين:

الأمر الأوّل: هو تواطؤ العلماء مع الحكومات والحكّام على إخفائها.

الأمر الثاني: أنَّ البلدان العربية والإسلاميّة تعرَّضت في القرنين الأخيرين إلى الاستعمار الغربي.

وكان هذا عامل في بعد الناس عن البحث في الدين والعلم، فأضحى الدين تقليدياً من دون علم ولا بحث أو تحقيق، لذا نجد أغلب السُنّة جاهلين للتاريخ والسيرة، ففي المغرب العربي مثلاً الجهل هو عامل بعد الناس وجهلهم بأهل البيت عليهم السلام وليس بعدهم عنهم ناتج عن عداء أو بغضاء أو نصب.

وكلّ من يتعرَّف على المذهب ولاسيّما على فضائل أهل البيت ومناقبهم، فإنَّه يعثر على إيجابيّات يفتقدها المذهب السُنيّ بكلّ فرقه، وهي تتلخَّص - في اعتقادي - في هذه النقاط الآتية:

1 - أنَّ المذهب عقلي، فهو يوافق الأحكام العقلية سواء على مستوى المعتقدات أو على مستوى الفروع، فكلَّما تعمَّق الإنسان في معرفة المذهب وفهمه ازداد اقتناعه به، وأنَّه المذهب الحقّ، وهو يمتاز بهذه الميزة لسببين:

السبب الأوّل: إنَّ كلّ الديانات السماوية نزلت لتنظيم حياة الإنسان وإيصاله إلى كماله المنشود، لينال بذلك سعادة الدنيا والآخرة، والدين جعله الله تعالى الطريق الذي يوصل إلى الحقّ والكمال، ويجعل الإنسان يعيش لهدف سام وعال وهو الخلود بعد الموت.

القياس: فإن كان الدين محرَّفاً أو مشوَّهاً بالبدع والخرافات - التي يرفضها كلّ عقل سليم - فإنَّه لا يؤدّي الدور المطلوب منه، لأنَّ العقل البشري حينئذٍ يرى أنَّ هذا الدين لا يؤدّي به إلى كماله، ولا يرفع نقائصه، بل بالعكس هو يبعده عن هدفه ومراده، فيتركه ويتَّبع طرائق أُخَر ومعتقدات يتوهَّم أنَّها توصله إلى ذلك الهدف المنشود.

فباختياره الطريق الخاطئ (المادّي، العلماني، الحيواني، إلى غيره) فهدفه يتحوَّل وينحرف أيضاً فيحصل على كمالات دنيوية، فانية، اعتبارية، ويترك الكمال الحقيقي، وهو التأسّي بالإنسان الكامل الذي لا يحصل إلاَّ عن طريق الدين والالتزام به.


السبب الثاني: إنَّ المذهب الشيعي (أو الدين الإسلامي الحقّ) انتقل من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، صاحب الوحي والرسالة إلى الناس كافّة بعد ارتحاله عن طريق فئة مختارة من طرف الله تعالى، تمتاز عن باقي البريّة بكونها من أهل بيت النبوّة، كبرت وترعرعت في أحضان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخذت من فضائله، وقيمه، وأخلاقه، وعلمه، والأهمّ من ذلك تمتاز هذه الفئة بصفة لا يتَّصف بها إلاَّ نبيّ منزل أو رسول مرسل وهي العصمة.

فللعصمة الدور الأساسي للحفاظ على الدين وصونه من التحريف والبدع والخرافات، فبقي دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على حاله ينتقل من إمام معصوم إلى وصيّ معصوم إلى يومنا هذا، لذا يستحيل أن يخالف المذهب أحكام العقل. 


2 - إنَّ الإنسان في حياته اليومية قد يتعرَّض إلى مشاكل ومصائب فيسعى إلى حلّها بكلّ الوسائل، لكنَّه يفشل أو قد تكون لديه حاجات معنوية لا يقدر على تحقيقها، أو قد يشعر أحياناً بنعم خالقه ولطفه ورعايته، فلا يعرف كيف يشكره ويحمده، وقد يشعر أحياناً بشغف وشوق وحبّ عميق لله تعالى فيريد أن يبرزه فلا يجد السبيل إلى ذلك...

أمَّا من عرف أهل البيت عليهم السلام فإنَّه ينال مناله بكلّ سهولة ومن دون عناء وتعب، فهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض، لا يضيع من تمسَّك به، ولا يشقي ولا يخيب، فقد تركوا لشيعتهم ومحبّيهم ومواليهم الأدعية والأوراد والمناجاة يعيش في خلالها المؤمن مع خالقه، في كلّ آنٍ وحين، يبرز له العبودية والفقر والحبّ والاشتياق، يطلب حاجات فيجاب، يستغفر فيجاب، يتوسَّل فيجاب، يشفع فيجاب، هذا الأمر مفتقد لدى المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فلولا كذا أدعية، وكذا أوراد، وكذا أحراز لما تخلَّفوا عنها، لأنَّها حقيقة زاد معنوي ثمين يُجلي الصدى عن القلوب، ويوثّق العلاقة والرابطة بين العبد وخالقه، فلا يزيده ذلك إلاَّ إيماناً بالله وقربة منه.


3 - لا شكَّ في أنَّ المسلمين كافّة مجمعين على ظهور صاحب العصر والزمان عليه السلام وإن اختلفوا في جزئيات المسألة، والجانب الإيجابي المفقود عند السُنّة في مسألة الظهور هو: أنَّ الشيعة يعيشون الظهور بعلمائهم وعوامّهم ويحضّرون له، فيصبح للإنسان هدف مقدَّس يعيش من أجله، وهو الاستعداد ليوم الظهور، والعمل على تعجيل ذلك اليوم كلّ بحسب مرتبته، فهم يعيشون مع إمام زمانهم أرواحنا له الفداء في غيبته، وهذا أمر مهمٌّ جدّاً ; لأنَّه يعيش ضابطاً يمشي على وفقه المسلم وتترتَّب بذلك آثار إيجابية جدّاً على حياته وسلوكه ومعتقداته.


4 - النقطة الرابعة التي يمتاز بها المذهب عن باقي المذاهب أو الفِرَق الإسلاميّة هو وجود مرجع التقليد فإذا احتار المكلَّف أمام مسألة فقهية تواجهه أو في تحديد وظيفته الشرعية إزاءها، فلا يلجأ للرأي أو القياس الذي يؤدّي بالإنسان إلى الانحراف عن الشرع، بل يتَّبع فتوى العلماء الذين بذلوا حياتهم في العلم والاجتهاد على وفق ما ورد عن الأئمّة عليهم السلام وعن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فوجود المرجع يحفظ المذهب ويحميه من الانحراف ودخول البدع والأوهام فيه، كما أنَّ له دوراً أساسياً في الحفاظ على اتّحاد الأمّة واتّفاقها.


5 - ما وجدت أيديولوجية أو مذهب أو فرقة تحثُّ على العلم والتعلّم كمذهب أهل البيت عليهم السلام.

فالعلم هو الذي ينوّر العقل، والعقل هو السراج الذي يضيء الطريق، والطريق هو الشريعة السمحة التي سطّرها الحقّ تعالى للإنسان، فلو اتَّبع المسلمون نصائح أهل البيت عليهم السلام وتوجيهاتهم وعملوا بما أوصوا به لما شقي مسلم على الأرض ولما تخلَّف عن الحقّ، ولما ركن إلى رؤى كونية ومعتقدات غير المعتقدات الإسلاميّة.

 فالعقل إذا تحرَّك وصل إلى كشف الحقائق وتشخيص المصلحة من المفسدة، وفي هذا العصر مع تطوّر وسائل الإعلام والاتّصال، لم يبقَ لأحد حجّة، فعلى كلّ واحد منّا أن يبحث وينقّب في التاريخ، فليبحث كلّ واحد منّا في كتب الشيعة أو السُنّة عن حديث المنزلة، عن حديث الدار، عن حديث الثقلين، عن حديث الغدير، حتَّى يطَّلع على محتواها، وقد تواترت هذه الأحاديث بأسانيد صحيحة ومعتبرة القول على وصيّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ فرصة يُري الناس أنَّ له نائباً ووصيّاً وخليفةً، ولم يكن إلاَّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فهل يعقل أن تحمل كلّ هذه الروايات على محامل مختلفة، ما عدا الولاية والخلافة؟ 

هل يعقل أن يؤوَّل حديث الغدير بالمحبّة والقربى، والتاريخ يروي في أيّ ظروف ورد هذا الحديث؟ فلنتمعَّن أنَّ الله تعالى لمَّا جعل الدين الإسلامي خالداً صالحاً لكلّ الأزمنة والعصور فقد جعل له أيضاً رجاله، فلو لم يرسل الله تعالى الأئمّة لإكمال الرسالة المحمّدية لاضمحلَّت هذه الرسالة ولما كان الدين الإسلامي خالداً إلى قيام الساعة، فلنبحث ولنصبر ونغتنم، والله وليّ التوفيق، والحمد لله ربّ العالمين.


حوار مع المستبصرة أُمّ عبد الرحمن الجزائرية([1])

مقدّمة الموقع: الأخت الفاضلة أُمّ عبد الرحمن هي الشخصية الأولى على صعيد العلمي والفكري من النساء المواليات في المغرب العربي. 

وقد أجرت شبكة «والفجر» هذا اللقاء معها، وإليكم مجريات الحوار بعد التعرّف على شخصيتها.

اُمّ عبد الرحمن الجزائرية من مواليد (1960) ميلادي بالجزائر العاصمة، نشأت في أسرة لم تكن متشدّدة في تطبيق تعاليم الدين الإسلامي كما هو الحال بالنسبة للكثير من العوائل الجزائرية، والسبب الرئيس في ذلك، هو أنَّ الاستعمار الفرنسي الذي دام احتلاله للجزائر أكثر من مائة وثلاثين سنة، حاول بكلّ الوسائل طمس الهوية الجزائرية، فحارب الدين الإسلامي واللغة العربية، وضعَّف الحوزات الدينية التي كانت معقل التصوّف والعرفان وحاول إرساء ثقافته.

وبطبيعة الحال بعد هذه المدّة الطويلة والجهود المتواصلة لا بدَّ من أن يتأثَّر المجتمع بهذه الأفعال، وخاصّة المدن الكبيرة، فنشأ جيل تتلمذ على أيدي الفرنسيين، وتخرَّج من مدارسهم حاملاً ثقافتهم ممتزجة بالروح الإسلاميّة والتقاليد العربية المستمدّة من الدين الإسلامي، فمنحتها تلك التربية الأخلاق الحميدة والفطرة النقيّة السليمة ممَّا ساعدها على الاستبصار وقبول مذهب أهل البيت عليهم السلام بسهولة ومن دون تعصّب.

تقول أُمّ عبد الرحمن: (زاولت الدراسات العليا في المدرسة العليا للأساتذة، حيث حصلت على ليسانس التعليم الثانوي واشتغلت بتدريس مادّتي الكيمياء والفيزياء لمدَّة تسع سنوات انقطعت بالهجرة إلى الجمهورية الإسلاميّة في سنة (1993) ميلادي.


 بهذا السفر بدأت صفحة جديدة من حياتي حيث اعتنقت مذهب أهل البيت عليهم السلام وكان هذا الأمر بداية لوعيٍ جديد وأهداف جديدة، بل كان مولداً جديداً بالنسبة إليّ حيث إنَّني لم أكن أشعر بوجودي، ولم أكن أشعر بمعنى الحياة والموت، والهدف من الخلقة إلاَّ في هذه الحقبة من الزمن، ففي قم المقدَّسة توجَّهت إلى العلوم الدينية، حيث درست عند أستاذتنا الفاضلة الحاجّة أُمّ عبّاس حفظها الله تعالى دروساً في الفقه والأصول، وعند الأستاذ الشيخ أبو عبد الرحمن درست المنطق والفلسفة والكلام والعقائد، وكلَّما تبحَّر الإنسان في علوم أهل البيت عليهم السلام كلَّما أدرك عظمتهم وسؤددهم وأدرك جهله وقصوره.

سؤال: ما هي المثل التي يختصُّ بها أهل البيت عليهم السلام؟

جواب: للإجابة عن هذا السؤال انطلق من حديث الثقلين حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهي بيتي، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً»([2]).
في ضوء هذا الحديث الصحيح والمستفيض عند الفريقين يشير الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاث نقاط مهمّة وهي:


الأولى: أنَّ أهل البيت عليهم السلام والقرآن قرينان لن يفترقا ولا يمكن لغيرهم أن ينالوا هذه المرتبة الرفيعة، وهذا دليل صريح جاء على لسان الرسول الأكرم على أنَّه كما أنَّ القرآن حجّة على الناس، فإنَّ أهل البيت حجج كذلك على الناس.

الثاني: الدعوة إلى التمسّك بهم عليهم السلام والحثّ على اتّباعهم في كلّ أمورنا.

الثالث: من اتَّبعهم فإنَّه لن يضلّ أبداً، حيث نفى صلى الله عليه وآله وسلم الضلال والظلام على كلّ من اتَّبعهم إلى الأبد.

والذي أريد أن أبيّنه هو أنَّ ما انطوى عليه هذا الحديث الشريف من نكات قد شعرنا به في أوّل استبصارنا، ونحن نجهل الحديث من أصله، وهذا خير دليل على أنَّ كلام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما جاء لإثارة دفائن العقول وإحيائها، وأنَّ الولاء لأهل البيت عليهم السلام مرتكز في النفوس والقلوب، وابتعادنا عنهم إنَّما كان نتيجة جهلنا بهم لا غير.

سؤال: هل وجدت أسوتك في مذهب أهل البيت عليهم السلام؟

جواب: إنَّ الإنسان، مهما كانت طبيعته، يميل بطبعه إلى المحسوسات، ولهذا السبب نجده يبحث دائماً عن أنموذج حيّ يتأثَّر ويقتدي به، وديننا الحنيف وجَّهنا إلى الأنموذج الأسمى والأعلى حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21).

ويقول رسول الله: «أهل بيتي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»([3]).

ومن بين أهل البيت عليهم السلام بل الحجّة العظمى هي فاطمة الزهراء عليها السلام حيث يقول الإمام العسكري عليه السلام في حقّها: «نحن حجج الله على خلقه وجدَّتي فاطمة حجّة علينا»([4]).

وهذا يعني أنَّها عليها السلام قدوة الرجال والنساء.

سؤال: والاقتداء هو ممارسة عملية تقتضي الوعي والمعرفة التامّة بالمقتدى به، فأوّل سؤال يتبادر إلى الذهن هو لماذا بنت رسول الله هي الأنموذج الحيّ الذي يجب اتّباعه؟

جواب: للإجابة عن هذا السؤال نحاول عرض بعض جوانب حياتها الشريفة ولنجعلها دستوراً لممارساتنا اليومية: الذي يتأمَّل في حياتها الشريفة يلاحظ أنَّ حياتها عليها السلام تنقسم على مرحلتين: الأولى في مكّة المكرَّمة، والثانية في المدينة المنوَّرة.

أمَّا المرحلة الأولى: فتبدأ بولادتها الشريفة، حيث انعقدت نطفتها من ثمار الجنّة وهذا الشرف العظيم لم ينله غيرها. وكانت في صباها تكابد مع رسول الله المتاعب والآلام التي كانت تلحقه من طرف الكفّار في بداية الدعوة الإسلاميّة، وعمرها لم يتجاوز الخامسة، فكانت تمرّض أباها وتمسح عن وجهه الكريم الدم، وتزيح عنه التراب، حتَّى ناداها بـ(أُمّ أبيها). وهذا يدلُّ على وعيها وصلابة جأشها على الرغم من صغر سنّها عليها السلام.

أمَّا المرحلة الثانية: فبدورها تنقسم على مرحلتين:

1 - ما قبل رحلة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
 2 - وما بعد رحلته.
أمَّا المدّة الأولى من هذه المرحلة، فأوّل منقبة لها عليها السلام هي أنَّها جعلت مهرها شفاعة للمؤمنين، وهذا أيضاً دليل على مدى عنايتها بأمر الأمّة والرسالة المحمّدية. وكان المسلمون في المدينة يعيشون استقراراً تحت حكومة الرسول الأعظم، فانشغلت الزهراء عليها السلام حينها بالتعلّم وتعليم النساء أحكام الشريعة وفي هذه المرحلة من حياتها كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك مناسبة إلاَّ ويشيد بمكانتها ومناقبها وأفضليتها، فأثبت يوم المباهلة أنَّه لا يعادلها أحد من النساء مطلقاً حيث قارن الحسن بالحسين في قوله تعالى: (نَدْعُ أَبْناءَنا)، وقارن ذاته المقدَّسة بأمير المؤمنين في قوله تعالى: (وَأَنْفُسَنا)، وأمَّا قوله تعالى: (وَنـِساءَنا) فكانت عليها السلام مصداقه الفريد، فكانت سيّدة نساء العالمين.

وأمَّا الآيات الشريفة التي نزلت في أهل البيت ومنهم الزهراء عليها السلام، فآية التطهير وآية الكوثر وآية الإطعام وآية النور وغيرها من الآيات، وكلّ هذا الاهتمام بشخصها الشريف يوحي بأنَّ لها دوراً عظيماً، بل كان دورها مصيرياً في حياة البشرية لا يقلُّ عن دور النبيّ والأمير نفسهما.

وقد أبرزت هذا الدور فعلاً في المدّة الثانية من هذه المرحلة، فبعد رحلة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خرجت إلى الصحابة مدافعة عن الولاية وتحجّهم بغدير خُمّ، فما كان جزاءها من الأمّة إلاَّ الأذية والنكران. وفي هذه المدّة تجلَّت فيها منقبة لم تتجلَّ إلاَّ في الأنبياء العظام وهي نزول أمين الوحي جبرائيل عليه السلام لمدَّة أربعة وسبعين يوماً، يواسيها ويخفّف عنها آلامها إلى أن فارقت الدنيا الدنية.

هذه أسوتنا وأسوة كلّ من أراد الوصول إلى الحقّ تعالى. وهي وإن رحلت عنّا منذ قرون وأخفت قبرها فلا يزورها في هذه الأيّام - وهي أيّام ولادتها - إلاَّ ابنها بقيّة الله الأعظم أرواحنا له الفداء، فإنَّها أنموذج ربّاني حيّ لا يموت.

وقد قامت عليها السلام بتربية نماذج نسويّة فذّة، أمثال أُمّ كلثوم والسيّدة زينب عليهما السلام، التي عادت من كربلاء وقد فقدت إمام زمانها وأخاها الإمام الحسين عليه السلام وأبناءها، بل فقدت كلّ أهل بيتها وبطريقة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، ومع ذلك لم تنهار ولم تتراجع، بل كانت سفيرة الحسين عليه السلام تدافع عن الحقّ تماماً كأُمّها.

ومن سلالتها الشريفة أيضاً السيّدة رقيّة بنت الحسين وفاطمة الصغرى وغيرهما ممَّن حضرن واقعة كربلاء. ومنها السيّدة فاطمة بنت موسى الكاظم عليهما السلام الملقَّبة بالسيّدة المعصومة، حيث عرفت بالتقوى والعلم والكرم والعزّة، وقد ورثت هذه الخصال الحميدة من جدَّتها فاطمة الكبرى عليها السلام.


والخلاصة

يكفينا فخراً وعزَّة أن تكون الزهراء عليها السلام المثل الأعلى والأنموذج الأسمى الذي يجب علينا اتّباعه. جعلنا الله تعالى في مستوى هذه الوظيفة المقدَّسة ويسَّر لنا طريقنا وأمورنا.




([1]) شبكة والفجر الثقافية (26/ 7/ 2005م).
([2]) حديث متواتر روته الخاصّة والعامّة بألفاظ مختلفة، قد مرَّ تخريجاته.
([3]) ميزان الاعتدال 1: 82/ الرقم 296؛ لسان الميزان 1: 136/ الرقم 425.
([4]) أنظر: مقامات فاطمة الزهراء للشيخ محمّد السند: 20، نقلاً عن تفسير أطيب البيان 13: 235.

إرسال تعليق