كلّهم أرادوها أموية وكرهوها إسلاميّة خالصة لله

بقلم الدكتور المستبصر: أحمد راسم النفيس

تاريخ النشر: 3 ــ 4 ــ 2014 

شريعة ملوك السوء

لا بأس بأن نورد نماذج من تطبيق الشريعة الإسلاميّة، على الطريقة الأموية، وهو ما يتمنّاه بعض المخدوعين في هذا الزمان:

أوّلاً: النهج الأموي يبيح شرب الخمور

روى أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثمّ أتينا بالطعام، فأكلنا. ثمّ أتينا بالشراب، فشرب معاوية، ثمّ ناول أبي، ثمّ قال: ما شربته منذ حرَّمه رسول الله([1]).


ثانياً: النهج الأموي يبيح الربا

أخرج مالك والنسائي وغيرهما، من طريق عطاء بن يسار أنَّ معاويةَ باعَ سِقايَة من ذهب، أو ورق، بأكثر من وزنـِها، فقال له أبو الدرداء : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَنْهى عن مِثْل هذا إلاَّ مثلاً بـِمِثْل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً([2]).


ثالثاً: استلحاق زياد

وصّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّ الولد للفراش وللعاهر الحجر([3]). متَّفق عليه.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنَّه غير أبيه، فالجنّة عليه حرام». رواه البخاري ومسلم وأبو داود([4]).

أمَّا ابن آكلة الأكباد فجاء بزياد، وكان يدعى زياد ابن أبيه، وتارة زياد ابن أُمّه، وتارة زياد بن سمية، وأقام الشهادة أنَّ أباه أبا سفيان قد وضعه في رحم سمية، وكانت بغيّاً، وسمّاه زياد بن أبي سفيان ليستخدمه في قمع المسلمين الشيعة وقتلهم.


رابعاً: قتل الأحرار من أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم

قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَْرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).

روى الطبري في تاريخه: استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة وأوصاه: لا تحجم عن شتم علي وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي والاقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان... والإدناء لهم والاستماع منهم. وأقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين وأشهراً، وهو من أحسن شيء سيرة، وأشدّه حبّاً للعافية غير أنَّه لا يدع ذمّ علي والوقوع فيه والعيب لقَتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي، إذا سمع ذلك قال: بل إيّاكم فذمَّم الله ولعن. ثمّ قام فقال: إنَّ الله عز وجل يقول: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) (النساء: 135).

وأنا أشهد أنَّ من تذمّون وتعيّرون لأحقّ بالفضل، وإنَّ من تزكّون وتطرون أولى بالذمّ.
واستمرَّت هذه الحالة حتَّى ولّي زياد الكوفة فقال مثلما كان يقول المغيرة، وردَّ عليه حجر رضوان الله عليه بمثل ما كان يردّ على المغيرة، فأرسل زياد إلى أميره معاوية فأمر باعتقاله (على وفق قانون طوارئ بني أميّة) وأُرسل إلى ابن آكلة الأكباد مشدوداً في الحديد فأمر بقتله، فقال حجر للذين يلون أمره: دعوني حتَّى أُصلّي ركعتين، فقالوا: صلّ، فصلّى ركعتين خفَّف فيهما ثمّ قال: لولا أن تظنّوا بي غير الذي أنا عليه، لأحببت أن تكونا أطول ممَّا كانتا، ثمّ قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عنّي حديداً ولا تغسّلوا عنّي دماً فإنّي ألاقي معاوية غداً على الجادّة، ثمّ قدّم فضربت عنقه([5]).

لم يكن حجر بن عدي الأنموذج الوحيد الدالّ على ظلم هذه الدولة الجائرة التي يزعم جاهلو أمرها، وحدهم، أنَّها كانت تُحكم أو تَحكم بشريعة الإسلام. لقد كان بنو أميّة يدأبون ليل نهار لإطفاء نور الله، وفي الوقت نفسه كان خطّ الأئمّة عليهم السلام قد تحوَّل إلى مشروع تأسيس لإقامة دولة المهدي المنتظر وإن تأخَّر ذلك قروناً وقروناً. أمَّا بنو أميّة فيجهدون لإحداث أكبر قدر من الدمار بالأمّة الإسلاميّة وبرجالاتها وبقيمها. وفي الوقت نفسه كان خطّ آل بيت محمّد حريصاً على إبقاء قيم الإسلام الرسالي الأصيل حيّة ومتوهّجة، والتأكيد على أنَّ مرحلة التمهيد وتأسيس دولة الإمام المهدي ليست مرحلة هدنة سلبية، وليست إيثاراً للإبقاء على حياة مجموعة من البشر وإنَّما إبقاءً للقيم وإمدادها بكلّ ما يبقيها متألّقة وحيّة حتَّى زمن الظهور.


محاولة تحويل النهج الأموي إلى قدر أبدي

نفَّذ معاوية سياسة واضحة المعالم، من أبرز معالمها:

أ - لعن آل البيت عليهم السلام، ولاسيّما إمام الأئمّة علي بن أبي طالب عليه السلام على منابر الأمّة، صباح مساء.


ب - العمل على رفع مكانة مناوئي أهل البيت ومنافسيهم باختلاق الروايات المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ج - القضاء على خطوط الدفاع بقتل رجال الشيعة واغتيالهم، مثل حجر وعمرو ابن الحمق كما أسلفنا، بل وحتَّى قتل أيّ معارض آخر له وزن وإن لم يكن من شيعة أهل البيت، ومثال ذلك سعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.


د - استعمال سياسة الرشوة وإفساد الذمم لاستمالة من تبقّى.


وهذه السياسات نفسها هي التي بدأ بها تمدّده السرطاني في جسد الأمّة.


امتداد الملك، يزيد وليّ عهد

أراد ابن آكلة الأكباد أن يمهِّد الأمر ليزيد ابنه ليمتدّ الملك في عقبه حتَّى قيام الساعة. ومن يتتبَّع أخبار الرواة، في هذا الصدد، يجد تبايناً، فمن قائل يقول: إنَّ هذا الأمر كان بمبادرة من المغيرة بن شعبة ليمدّ له معاوية في ولايته على الكوفة، ومن قائل يقول: إنَّ هذا كان بأمر من معاوية، واتّفاق مع الضحّاك بن قيس، وما اعتقده أنَّ هذه أمور واحدة... كلّ المنافقين يعلمون رغبة سيّدهم والكلّ يتبارى في اختيار الأسلوب الملائم للتنفيذ، ولا بأس بإيراد بعض النماذج التي توضّح طبيعة الملك الأموي وسياسته:


أوفد المغيرة بن شعبة عشرة من شيعة بني أميّة إلى معاوية، ليطالبوا ببيعة يزيد، وعليهم موسى بن المغيرة، فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا، وكونوا على رأيكم، ثمّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك هؤلاء من دينهم، قال: بثلاثين ألفاً، قال: لقد هان عليهم دينهم([6]).

 لمَّا اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، بإحضار منه، دعا الضحّاك بن قيس، فقال له: إذا جلستُ على المنبر، وفرغتُ من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فأحمد الله تعالى، واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحقّ له عليك، من حسن الثناء عليه، ثمّ اُدعني إلى توليته من بعدي، فإنّي قد رأيتُ وأجمعتُ على توليته، فاسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء. ثمّ دعا عدّة رجال فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحّاك، وأن يصدّقوا قوله، ويدعو إلى يزيد.
 
ثمّ خطب معاوية فتكلَّم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية: أين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلَّم؟ فقام الأحنف، فحمد الله وأثنى عليه وقال بعد مقدّمة: إنَّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

فغضب الضحّاك وردَّ غاضباً: ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهاتَ ولا تورث الخلافة عن كلالة ولا يحجب غير الذكر العصبة، فوطّنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم، وكاتب نبيّكم وصهره، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل.

ثمّ قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه فقال: قد علمت أنَّك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قصعاً، ولكنَّك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر بعدك([7]).

أمَّا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان من خواصّ أصحاب معاوية فقد لقي حتفه مسموماً حيث حدَّثته نفسه بالسلطة والإمارة بدلاً من يزيد.

جاء في تاريخ الطبري: أنَّ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام، أو مال إليه أهلها كما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه حتَّى خافه معاوية، وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه فأمر ابن آثال أن يحتال في قتله وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يولّيه جباية خراج حمص. فلمَّا قدم عبد الرحمن بن خالد لحمص منصرفاً من بلاد الروم دسَّ إليه ابن آثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها، فمات بحمص([8]).

ويحكي لنا التاريخ صورة أخرى من مشاورات معاوية في خلافة يزيد، ومن بينها كلمات ذلك الأحمق الذي قام فقال: هذا أمير المؤمنين - وأشار إلى معاوية - فإن هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - ومن أبى فهذا - وأشار إلى سيفه -. قال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء([9]).
لم يكن عبد الرحمن بن خالد وحده هو الذي طمع في الخلافة بعد معاوية، فهناك سعيد بن عثمان بن عفّان الذي وجد له أنصاراً من أهل المدينة يقولون: والله لا ينالها يزيد حتَّى يعض هامه الحديد، إن الأمير بعده سعيد، ولكن كان أمره هيّناً، حيث خرج من حلبة المنافسة راضياً بولاية خراسان([10]).

من الواضح أنَّ الصراع السياسي كان دائراً على أشدّه حول قضيّة خلافة معاوية، وقد هدَّدت هذه القضيّة الصفّ الأموي بالتفكّك والانهيار، وأنَّ الخلافة اليزيدية لم تكن أمراً مستقرّاً حتَّى في داخل البيت الأموي نفسه، حتَّى أنَّ معاوية اضطرَّ لتأجيل إعلان هذا الأمر إلى ما بعد هلاك زياد، وأنَّ مروان بن الحكم، والي معاوية على المدينة، عارض هذا الأمر بشدّة ما اضطرَّ معاوية إلى اعفائه من منصبه، ويمكننا أن نُرجع هذه المعارضة الداخلية لعدَّة أسباب منها:


أ - إنَّ انتقال السلطة إلى يزيد، من طريق ولاية العهد، كان اقتباساً من النظام السياسي البيزنطي الذي لم يعرفه العرب في سابق تاريخهم، ولعلَّ قرب موقع معاوية من دولة الروم كان مصدر معرفته بهذا النظام الملكي الامبراطوري الذي صار هو النظام السياسي في الأمّة الإسلاميّة في ما بعد.


ب - إنَّ هذا الأسلوب كان إهداراً لنظام الشورى الذي توهَّم المسلمون أنَّه القانون الأساسي للمسلمين. والواقع أنَّ الشورى لم تكن قد مورست بصورة جيّدة في الحِقَب السابقة ممَّا يسمح باستقرار معالمها وأساليب ممارستها. فأن يأتي معاوية لينقل المداراة إلى ديكتاتورية صريحة كان هذا أمراً ثقيلاً على كثيرين، وخاصّة على أولئك الذين توهَّموا أنَّهم أهل الحلّ والعقد، ولم يكن معاوية ليبقي على نفوذهم ولا على وجودهم نفسه، إذا تعارض ذلك مع رغباته السلطوية الجامحة.


ج - صفات يزيد الشخصية وافتقاده الحدّ الأدنى من المقوّمات جعلت زياداً، وهو من هو في بغيه وعدوانه ونسبه، كارهاً لبيعته وإمارته قائلاً: (ويزيد صاحب رَسْلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد)([11]) وكتب إلى معاوية يأمره بالتؤدة وألاَّ يعجل.


لم تستعص الأغلبية على معاوية ولا على أساليبه، فهناك المتطوّعون السابقون إلى مرضاة الطواغيت، مثل الضحّاك بن قيس والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب، ولا بأس هنا بأن نورد بعضاً من منجزات سمرة، هذا (الصحابي) الذي استخلفه زياد على الكوفة ثمّ عاد إليه فوجده قد قتل ثمانية آلاف من الناس فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت - أو كما قال -، وعن أبي سوار العدوي قال: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً كلّهم قد جمع القرآن([12]). ثمّ عزله - معاوية - فقال سمرة: لعن الله معاوية، والله لو أطعتُ الله كما أطعتُ معاوية ما عذَّبني أبداً([13]).

لقد أجاد معاوية سياسة (فرَّق تسد)، فلمَّا أحسَّ أنَّ رجالات المدينة يمتنعون من بيعة يزيد، راسلهم أوّلاً ثمّ ذهب إليهم نفسه، في عام خمسين للهجرة، مستعملاً سياسة المخادعة عازفاً على أوتار النفوس ومكامن الأهواء، عالماً أنَّ الأمّة التي أسلمت علياً والحسن لن تجتمع كلمتها خلف الحسين عليه السلام، ومن ثَمَّ فإنَّ المطلوب هو كسب الوقت وتفتيت المعارضة وضرب الناس بعضهم ببعض حتَّى يصل الملك إلى يزيد غنيمة باردة.


نهج الثورة الحسينية

ما أحوج الأمّة، وسط هذا الظلام الأموي وهذه الفتنة العمياء إلى موقف حسيني يبدّد الظلمات، موقف حسيني لا يتحدَّث عن الحقّ وإنَّما يفعله، ولا يفعله فعلاً يراه بعض الناس ويغفل عنه بعضهم الآخر، وإنَّما يفعله فعلاً يبقى مسطوراً ومحفوراً في عمق الأرض وفي عمق الوجدان البشري. ما أحوج الأمّة الإسلاميّة والبشرية كلّها إلى هذا النور المتوهّج لتبقى شمس الحسين تهدي الحائرين وتدلّ السائلين على الحدود الفاصلة بين الحقّ والباطل، بين مرضاة الله وسخطه.

هكذا كانت ثورة الحسين. لم تكن حالة انفعالية نشأت عن حالة الحصار التي تعرَّض لها أبو عبد الله الحسين ولا كانت حركة إلى المجهول أملتها أجواء رسائل البيعة المشكوك في صدقها، منذ البدء كانت فعلاً مدروساً وخططاً منذ لحظة ولادته وبدأت خطوات تنفيذها في اللحظة التي تخيَّل فيها ابن آكلة الأكباد أنَّه لا إسلام حقيقياً بعد اليوم، وليبقَ الدين لعقٌ على ألسنة بعض القادة يصعدون به على أعناق الناس يطلبون الدنيا بادّعاء النسك والزهادة على أن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما تبقّى إن تبقّى شيء فهو لله.


اكتمال عناصر التحرّك

كتب أهل الكوفة إلى الحسين عليه السلام يقولون: ليس علينا إمام، فأقبل لعلَّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ([14]). وتوالت الكتب تحمل التوقيعات تدعوه إلى المجيء لاستلام البيعة وقيادة الأمّة في حركتها في مواجهة طواغيت بني أميّة، وهكذا اكتملت العناصر الأساسية للحركة الحسينية، وهي:


أ - وجود قيادة شرعية تمثّل التصوّر الحقيقي للإسلام، وهي قيادة أبي عبد الله الحسين.

ب - وجود الظروف الداعية إلى حمل لواء التغيير، وتتمثَّل في تمادي الفساد الأموي ورغبته في مصادرة إرادة الأمّة مرَّة واحدة وإلى الأبد في شكل مبايعة يزيد (القرود).

ج - وجود إرادة جماهيرية تطلب التغيير وتستحثّ الإمام الحسين للمبادرة إلى قيادة الحركة وكان موقع هذه الإرادة في الكوفة، تمثَّلت في رسائل البيعة القادمة من أهلها.

وهكذا لم يكن بوسع أبي عبد الله الحسين أن يقف من هذه الأمور كلّها موقف المتفرّج الهارب بنفسه من ساحة الوغى أو (الفار بدينه) إلى ساحات الاعتزال والانعزال، وهي جميعها أشكال مختلفة من الهروب والتهرّب من تحمّل المسؤولية، وهو مسلكٌ فضلاً عن ضرره البليغ على الواقع الراهن في تلك اللحظة يعطي المسوّغ لكلّ من تعرَّض لهذه الظروف أو ما شابهها أن يهرب بنفسه وينجو بشحمه ولحمه حتَّى يستوفي الأجل المحتوم، ويبقى في وجدان الأمّة رمزاً من رموز الكهنوت الهارب من مواجهة الشيطان في أرض الواقع واللائذ بالنصوص والمسوّغات.

كان بوسع الحسين عليه السلام أن يفعل مثلما فعل ابن عمر فيبايع بيعة المضطر ليزيد، ونضيف إلى لائحة الروايات التسويغة التي رواها الرجل على لسانه أو على لسان النبيّ الأكرم عدَّة نصوص أخرى ربَّما كانت تحتلّ مكاناً أبرز من نصوص ابن عمرو كان البخاري ومسلم سيحتفلان بها، فها هو ابن الرسول وعلي وفاطمة يوجب السمع والطاعة ليزيد القرود ويدعو إلى توحيد الجماعة صفّاً واحداً خلف حفيد آكلة الأكباد وحفيد أبي سفيان عدوّ الله ورسوله حتَّى آخر نفس.

ولو كان فعل هذا - وحاشاه - لاستشهد به الأفاكون والمنافقون والمخادعون في كلّ موقف يرون فيه ضرورة إسناد حزب الشيطان ومنعه من الانهيار، ولما قال أحد: ثار الحسين رافضاً الظلم واستشهد في سبيل الله، ولماتت هذه الأمّة إلى نهاية الدهر.


إقامة الحجّة وبيان الحقيقة

ثمّ جاء صباح عاشوراء، ووقف الحسين عليه السلام يدعو ربّه:
«اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدَّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدَّة، كم من همًّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً منّي إليك عمَّن سواك ففرَّجته وكشفته فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة ومنتهى كلّ رغبة»([15]).


ثمّ إنَّ الحسين أضرم ناراً وراء البيوت لئلاَّ يأتيه أعداء الله من الخلف، فجاءه شمر بن ذي الجوشن وقال: يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين: «من هذا؟ كأنَّه شمر بن ذي الجوشن»، فقالوا: نعم أصلحك الله، هو هو. فقال: «يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صلياً». فقال مسلم بن عَوْسَجَة: يا ابن رسول الله جُعلتُ فداك ألا أرميه بسهم. فإنَّه قد أمكنني وليس يسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبّارين. فقال له الحسين: «لا ترمِه فإنّي أكره أن أبدأهم»([16]).

سلام الله عليك يا أبا عبد الله، ها أنت، وأنت في قمَّة المواجهة مع أعداء الله من بني أميّة محافظاً على موقف فقهي، وأخلاقي، وعقائدي راسخ.

سلام الله عليك يا من أنت من نور أبيك وأُمّك، ومن نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالإمام علي عليه السلام لم يبدأ أعداءه، أعداء الله يوماً بقتال لا أصحاب الجمل، ولا الخوارج، ولا بني أميّة يوم صفّين، فالقوم أدعياء إسلام دخلوا هذا الدين من بوّابة النبوّة، ولسنا بصدد تكفيرهم ولا استباحة دمائهم.

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193).

هذا هو المبدأ الراسخ في العلاقة بين أبناء الأمّة المنتمين إليها حتَّى ولو كان ذلك بمجرَّد الاسم والادّعاء. وإن فتح باب التكفير وقتل المسلمين، حتَّى الأدعياء منهم، فإنَّ ذلك يعني فتح باب فتنة لا يُغلَق.




([1]) مسند أحمد 5: 347.
([2]) الموطأ 2: 634/ ح 33؛ سنن البيهقي 5: 280؛ الاستذكار لابن عبد البرّ 6: 347/ ح 1280؛ سنن النسائي 4: 30/ ح 6164، وقد حذف المقطع الأخير منه.
([3]) أنظر: الكافي 5: 492/ باب الرجل يكون له جارية.../ ح 3؛ من لا يحضره الفقيه 4: 380/ ح 5812؛ الاستبصار 3: 368/ ح (1316/2)؛ تهذيب الأحكام 8 : 169/ ح (588/12)؛ مسند أحمد 1: 59؛ صحيح البخاري 3: 5؛ صحيح مسلم 4: 171؛ سنن ابن ماجة 1: 647/ ح 2006؛ سنن أبي داود 1: 507/ ح 2273؛ سنن الترمذي 2: 313/ ح 1167؛ وغيرها من المصادر.
([4]) صحيح البخاري 8 : 12؛ صحيح مسلم 1: 57؛ سنن أبي داود 2: 501/ ح 5113.
([5]) أنظر: تاريخ الطبري 4: 188 - 190.
([6]) أنظر: الكامل في التاريخ 3: 504.
([7]) أنظر: الإمامة والسياسة 1: 143 - 147.
([8]) تاريخ الطبري 4: 171.
([9]) الكامل في التاريخ 3: 508.
([10]) أنظر: تاريخ مدينة دمشق 21: 224.
([11]) تاريخ الطبري 4: 224 و225.
([12]) تاريخ الطبري 4: 176.
([13]) تاريخ الطبري 4: 217.
([14]) مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف: 16؛ تاريخ الطبري 4: 262.
([15]) تاريخ الطبري 4: 321.
([16]) تاريخ الطبري 4: 322.

إرسال تعليق