دور المرأة في معركة صفين وقتال علي عليه السلام القاسطين

بقلم: السيد نبيل الحسني

لقد شكل وجود المرأة في معركة صفين تحولاً جديداً في تاريخ الحروب عند العرب خاصة والمسلمين عامة؛ وذلك لما شكله وجود المرأة من تعبئة عسكرية وعقيدة قتالية انعكست على المسلمين بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بعقود على الرغم من تمكن معاوية بن أبي سفيان من الجلوس على الحكم، بل لم يتمكن سلطان معاوية ونشوة العرش من إزالة صور تلك النساء اللاتي وقفن يزرعن في نفوس الرجال الهمم والروح القتالية التي ظلت مرارتها في حلق معاوية وأشياعه إلى يوم هلاكه.

ولعل الاكتفاء ببعض الشواهد من أولئك النسوة يغني اللبيب عن البحث عن دور المرأة في تغير مستوى الحرب بما يشكله وجودها من عقيدة قتالية مرتكزة على ما فطر عليه الإنسان العربي من صون للحرم.

فكيف إذا كانت هذه الحرم تنادي بالتوحيد وتصرخ بالموالاة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

1: سودة بنت عمارة (رحمها الله تعالى)


يمكن الوقوف على أدوار هذه النساء في معركة صفين من خلال دخولهنً على معاوية بعد مضي سنين عديدة من جلوسه على كرسي الحكم في الشام وكشفه لتلك الآثار من خلال حديثه معهنّ.
روى ابن طيفور عن محمد بن عبيد الله قال: (استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها فلما دخلت عليه قال:
هيه يا بنت الأسك ألست القائلة يوم صفين:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة
يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين ورهطه
واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي محمد
علم الهدى ومنارة الإيمان
فقه الحتوف وسر أمام لوائه
قدما بأبيض صارم وسنان


قالت: أي والله ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام وإتباع الحق.

قال: فوالله ما أرى عليك من اثر علي شيئا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نسى، قال: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدق فوك لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان كان والله كقول الخنساء:
إن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار

قال: صدقت لقد كان كذلك، فقالت: مات الرأس وبتر الذنب وبالله اسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، فما حاجتك؟

قالت: انك أصبحت للناس سيداً ولأمرهم متقلدا والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا يزال يقدم علينا من ينوه بعزك ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي واخذ مالي يقول لي فوهي بما استعصم الله منه وألجأ إليه فيه ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته عنا فشكرناك وأما لا فعرفناك.

فقال معاوية: أتهددينني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه فأطرقت تبكي ثم تقول:
صلى الإله على جسم تضمنه
قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا
فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال لها: ومن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا قدم علينا من قبله فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين فاتيت عليا عليه السلام لأشكو إليه ما صنع بنا فوجدته قائما يصلي فلما نظر إليّ انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف: «ألك حاجة؟».

فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: «اللهم انك أنت الشاهد عليّ وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك».

ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيأة طرف الجواب فكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم  قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين. وما أنا عليكم بحفيظ إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام».

فأخذته منه والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام فقراته، فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيأ ما تفطمون، ثم قال: اكتبوا لها برد مالها والعدل عليها، قالت: إليّ خاص أم لقومي عام، قال: ما أنت وقومك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللوم إن لم يكن عدلا شاملا وإلاّ فأنا كسائر قومي، قال: اكتبوا لها ولقومها.

2: الزرقاء بنت عدي رحمها الله تعالى

وقال عيسى بن مهران، حدثني العباس بن بكار، قال: حدثني محمد بن عبيد الله عن الشعبي، قال: وحدثني أبو كر الهذلي عن الزهري، قال: حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية، وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد ربه بن القاسم بن يحيى مقدم، قال: اخبرني محمد بن فضل المكي الضبي، قال: أخبرنا محمد الشافعي صاحب الرأي، عن أبيه محمد بن إبراهيم، عن خالد بن الوليد المخزومي، عن سعد بن حذافة الجمحي قال: سمر معاوية ليلة فذكر الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس امرأة كانت من أهل الكوفة وكانت ممن يعين عليا عليه السلام يوم صفين.

 فقال لأصحابه: أيكم يحفظ كلام الزرقاء؟ فقال: القوم كلنا نحفظه يا أمير المؤمنين.
قال: فما تشيرون عليّ فيها؟
 قالوا: نشير عليك بقتلها، قال: بئس ما أشرتم عليّ به، أيحسن بمثلي أن يتحدث الناس أني قتلت امرأة بعد ما ملكت وصار الأمر لي.

ثم دعا كاتبه في الليل فكتب إلى عامله في الكوفة أن أوفد إليّ الزرقاء ابنة عدي مع ثقة من محرمها وعدة من فرسان قومها ومهدها وطاء لينا واسترها بستر حصيف، فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فاقرأها الكتاب.

 فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة وإن كان أمير المؤمنين جعل المشيئة إليّ لم ارم بلدي هذا وان كان حكم الأمر فالطاعة له أولى بي، فحملها في هودج وجعل غشاءه حبرا مبطنا بعصب اليمن ثم أحسن صحبتها وفي حديث المقدمي فحملها في عمارية جعل غشاءها خزا أدكن مبطنا بقوهى.

فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد كيف حالك يا خالة وكيف رأيت مسيرك؟.

 قالت: خير مسير كأني كنت ربيبة بيت أو طفلا ممهدا، قال: بذلك أمرتهم فهل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: سبحان الله إنى لي بعلم ما لم اعلم، وهل يعلم ما في القلوب إلاّ الله! قال: بعثت إليك أن أسألك ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين توقدين الحرب وتحضين على القتال فما حملك على ذلك؟

قالت: يا أمير المؤمنين إنه قد مات الرأس وبتر الذنب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأم.

قال لها: صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟

قالت: ما أحفظه.

 قال: ولكني والله أحفظه، لله أبوك لقد سمعتك تقولين: (أيها الناس انكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها من فتنة عمياء صماء يسمع لقائلها ولا ينظر لسائقها أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس وان الكوكب لا يقد في القمر وان البغل لا يسبق الفرس وإن الزف لا يوازن الحجر ولا يقطع الحديد إلاّ الحديد ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار فكان قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل وغلب الحق باطله فلا يعجلن أحد فيقول كيف وأنى ليقضي الله أمرا كان مفعولا ألا إن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء والصبر خير في الأمور عواقبا أيها إلى الحرب قدما غير ناكصين فهذا يوم له ما بعده).

ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت عليا عليه السلام في كل دم سفكه.

فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك مثلك من بشر بخير وسر جليسه.

قال لها: وقد سرك ذلك؟.

قالت: نعم، والله لقد سرني قولك فأنى بتصديق الفعل، فقال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أحب من حبكم له في حياته، أذكري حاجتك.

قالت: يا أمير المؤمنين إني قد آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه شيئا أبدا ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد عن غير طلب.

قال: صدقت فاقطعها ضيعة غلتها في أول سنة عشرة آلاف درهم وأحسن صفدها وردها والذين معها مكرمين.

3 ــ بكارة الهلالية

حدثني عبد الله بن عمرو: ... دخلت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان بعد أن كبرت سنها ودق عظمها ومعها خادمان لها وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز فسلمت على معاوية بالخلافة فأحسن عليها الرد وأذن لها في الجلوس وكان عنده مروان بن الحكم وعمرو بن العاص.

فابتدأ مروان فقال: أتعرف هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن هي؟ قال: هي التي كانت تعين علينا يوم صفين وهي القائلة:
يا زيد دونك فاستثر من دارنا
سيفا حساما في التراب دفينا
قد كان مذخورا لكل عظيمة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا

فقال عمرو بن العاص: وهي القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكا
هيهات ذاك وما أراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء ضلالة
أغراك عمرو للشقا وسعيد
فارجع بأنكد طائر بنحوسها
لاقت عليها أسعد وسعود

فقال سعيد: يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
قد كنت آمل أن أموت ولا أرى
فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم لا يزال خطيبهم
وسط الجموع لآل أحمد عائبا

ثم سكت القوم، فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني فقصر محجني وكثر عجبي وعشى بصري، وأنا والله قائلة ما قالوا لا ادفع ذلك بتكذيب فامض لشأنك فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين.

فقال معاوية: انه لا يضعك شيء فاذكري حاجتك تقضَ، فقضى حوائجها وردها إلى بلدها.

وحدثني عيسى بن مروان، قال: ... استأذنت بكارة الهلالية على معاوية فأذن لها فدخلت وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها فهي ترعش بين خادمين لها فسلمت ثم جلست، فقال معاوية: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين.  قال: غيرك الدهر، قالت: كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر.

حدثني عبد الله بن سعد، قال: ... كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية رحلة محمودة الصحبة غير مذمومة العاقبة واعلم أني مجازيك بقولها فيك بالخير خيرا وبالشر شرا فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقرأها إياه.

فقالت أم الخير: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري تجري مجرى النفس يغلي بها غلي المرجل بحب البلسن يوقد بجزل السمر.

فلما حملها وأراد مفارقتها قال: يا أم الخير إن معاوية قد ضمن لي عليه أن يقبل بقولك في بالخير خيرا وبالشر شرا فانظري كيف تكونين.

 قالت: يا هذا لا يطمعك والله برك بي في تزويقي الباطل ولا يؤنسنك معرفتك إياي أن أقول فيك غير الحق، فسارت خير مسير فلما قدمت على معاوية أنزلها مع الحرم ثلاثا ثم أذن لها في اليوم الرابع وجمع لها الناس فدخلت عليه.

 فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك السلام، وبالرغم والله منك دعوتني بهذا الاسم.

فقالت: مه يا هذا فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه.

 قال: صدقت يا خالة وكيف رأيت مسيرك؟

قالت: لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت إلى ملك جزل وعطاء بذل فأنا في عيش أنيق عند ملك رفيق.

فقال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

 قالت: مه يا هذا لك والله من دحض المقال ما تردى عاقبته.

قال: ليس لهذا أردناك.

قالت: إنما أجري في ميدانك إذا أجريت شيئا أجريته فاسأل عما بدا لك.

قال: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر.

 قالت: لم أكن والله رويته قبل ولا زورته بعد وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت.

قال: لا أشاء ذلك، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حفظ كلام أم الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد، قال: هاته.

قال: نعم، كأني بها يا أمير المؤمنين وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك، وقد أحيط حولها حواء، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله، أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق، أما سمعتم الله عزّ وجل يقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) سورة محمد، الآية: 31.

ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشر الرعب، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع إليه الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.


ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون صبرا، معشر الأنصار والمهاجرين قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، وكأني بكم غدا لقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، عما قليل ليصبحن نادمين حتى تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة، إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل النار

أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها، والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش، وطيبه فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وعلم المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل كذلك يؤيده عزّ وجل بمعونته، ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة الدأب، ها هو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا وردة شقاقا، قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته).

فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك.

قالت: والله ما يسوؤني يا ابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه.

قال: هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان.

 قالت: وما عسيت أن أقول فيه استخلفه الناس وهم له كارهون، وقتلوه وهم راضون.

فقال معاوية: إيها يا أم الخير هذا والله أصلك الذي تبنين عليه.

قالت: لكن الله يشهد بما انزل إليك انزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا، ما أردت لعثمان نقصا ولكن كان سباقا إلى الخيرات وانه لرفيع الدرجة.

قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟.

قالت: وما عسى أن أقول في طلحة اغتيل من مأمنه وأوتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة.

قال: فما تقولين في الزبير؟.

قالت: يا هذا لا تدعني كرجيع الصبيغ يعرك في المركن.

قال: حقا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك.

قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحواريه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة، ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام، وأني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشا تحدث انك أحلمها فأنا أسألك بان تسعني بفضل حلمك وأن تعفيني من هذه المسائل وأمض لما شئت من غيرها.

قال: نعم، وكرامة قد أعفيتك وردها مكرمة إلى بلدها)( بلاغات النساء لابن طيفور: ص30 ــ 39).

وعليه: فيمكن إيجاز الملاحظة في وجود النساء في حروب الإمام علي عليه السلام بما يأتي:

1 ــ لم يكن هناك ــ بحسب الرواية التاريخية المتوفرة لدينا ــ وجود للأطفال؛ بمعنى لم يتم إخراج الأطفال إلى دار الحرب لا في حروب الإمام علي عليه السلام ولا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى ما كان من أمر مالك بن عوف في حربه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة حنين.

2 ــ إنّ رتبة القرابة لهؤلاء النسوة مع المقاتلين كانت تنحصر في الأخت والأم، أو من لم يكن لها قرابة مع أحد سوى القرابة الولائية لعلي بن أبي طالب عليه السلام ورابط المودة للعترة المحمّدية صلوات الله عليهم أجمعين.

بمعنى: أن المقاتلين حرصوا على إبعاد حلائلهم وأطفالهم عن دار الحرب ما استطاعوا كي يكونوا في مأمن تام فضلاً عن صون حرمة الزوجة بما تفرضه العلاقة الزوجية على الرجل العربي من خصوصية.

من هنا نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أشار إلى هذا المعنى في حديثه مع عائشة بعد أن انتهت معركة الجمل قائلاً: «يا حميراء! هل رسول الله أمرك بهذا الخروج عليّ؟ ألم يأمرك أن تقري في بيتك؟ والله ما أنصفك الذين أخرجوك عن بيتك، إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك!!»( كتاب الجمل لضامن بن شدقم المدني: ص146).


3 ــ انحصار خروج الزوجة وأولادها إلى دار الحرب في عاشوراء، وهذه خصوصية لم تلحظ في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي أمير المؤمنين عليه السلام، بل لعلها الوحيدة في تاريخ الأمم سواء على المستوى الرسالي المرتبط بالسماء أو المستوى السياسي المرتبط بالملوك والحكام والقادة.

إرسال تعليق