رد شبهة: أن يكون رسول الله أجيراً لدى أحد من الناس؟

بقلم: السيد نبيل الحسني
هل يصح أن يعمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً أو مضارباً أو شريكاً لدى أحد من الناس(الروض الأنف للسهيلي: ج1، ص321)؟

ونقول: إنّ الإجابة على هذا السؤال تتكون من نقاط:
1ــ من البديهي أن يحتاج الإنسان إلى العمل لينفق على نفسه فيسد جوعته، ويكسو بدنه، ويصل أهله وأرحامه وغير ذلك.
وحينما لا يجد الإنسان عملاً يوفر له هذه الاحتياجات فإنه سيلتجئ إلى الاتكال على غيره لغرض تأمين احتياجاته، أو أنه يسلك طريقاً سلبياً ومستهجناً في حال فقدان العمل والمعيل، هكذا هي الطبيعة البشرية وما تفرضه ضروريات العيش.

ولكن إذا كان الإنسان قد تهيأ له كل ذلك وهو لديه أفضل الأطعمة وأزكاها، كحال مريم بنت عمران عليها السلام كما صرّح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: >كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ <( سورة آل عمران، الآية: 37).

فهل تحتاج مريم عليها السلام إلى العمل حينئذ؛ أم هل تراها تنتظر المعيل والكفيل وقد تعاهدتها الملائكة باحضار الطعام؟!

من البديهي أنها لا تحتاج إلى الطعام على الرغم من تصريح القرآن بوجود كفيل لها وهو نبي الله زكريا.
ولكن حينما يكون الإنسان في ضيافة الرحمن سبحانه فحينها يستغني عما سواه، وإذا كان هذا حال مريم فكيف حال من هو حبيب الله سبحانه، وكيف سيكون رزقه من ربه؟ ألا يكون الرازق الذي وصف نفسه بالكريم رازقاً حبيبه بما يليق ومقام الحبيب؟!

ولذا:

من حيث المبدأ هو لا يحتاج إلى العمل أو المعيل، لأن العلة منتفية في وجودهما، فرزقه صلى الله عليه وآله وسلم مضمون من ربه، حاضر بين يديه، وإن كان الذين من حوله لا يرون ذلك، فهذا لا يدل على عدم نزول الطعام إليه بل يدل على اختلاف سنخية الرائي وحجب الرؤية عنه.

بمعنى:

لو كان الداخل عليه له من المقام كما لدى زكريا عليه السلام لرأى ما يخطف الأبصار، في حضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
2ــ ولعل بعض المسلمين قد ثبتت لديه حقيقة حاله صلى الله عليه وآله وسلم حينما نهاهم في شهر رمضان عن إتيان أزواجهم كي لا يصيبهم الضعف، فقالوا: إنك تواصل يا رسول الله؟، قال: «إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني» (من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق: ج2، ص172).
كما رواه الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه.
وفي صحيح البخاري عن عائشة بلفظ: «إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين» (صحيح البخاري: ج2، ص243).
فمن كان يطعمه ربه ويسقيه ما حاجته إلى ما في أيدي الناس؟!


3ــ ولعل قائلاً يقول: إنّ هذا حاله بعد أن بعث نبياً، فما المانع أن يعمل قبل أن يبعث نبياً سواء لدى خديجة عليها السلام أو غيرها من أهل مكة أو عند عمه أبي طالب عليه السلام؟
وجواب ذلك من شقين:
أولا: ما زال المدار في الشبهة حول احتياج الإنسان للعمل أو المعيل، أي سد الحوائج الحياتية سواء أكان عمله لدى خديجة أم غيرها، فلما ثبت عدم احتياجه إلى العمل بعد البعثة لغرض استحصال لوازم الحياة فإن الحال نفسه يجري أيضاً قبل البعثة كما دلت عليه النصوص الآتي ذكرها:


ألف: لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة إلى العمل كي يسد احتياجاته الحياتية، فأما طعامه فقد روي أنه كان يكتفي بشرب ماء زمزم ولا يأكل بعدها شيئا وهذا من الآيات والدلائل على نبوته قبل أن يهبط عليه الوحي.
فعن أم أيمن ـ وكانت أمة عند أبي طالب عليه السلام ثم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ أنها قالت: Sما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء، فيقول: «لا أريد، أنا شبعان» (امتاع الأسماع للمقريزي: ج4، ص99).


باء: روى ابن سعد قائلاً: (وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذّيهم، قال: كما أنتم حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب إنك مبارك)( الطبقات لابن سعد: ج1، ص120).
جيم: وكان عيال أبي طالب إذا جاءهم باللبن شرّب أولهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده)( عيون الأثر لابن سيد الناس: ج1، ص61).
وهذه الروايات تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محل نزول الخير وصدوره إلى الناس لا العكس.
ثانيا: إن أصل القضية مبنيٌّ على الفساد في الرأي، فكيف يصح أن يكون سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم أجيرا لدى أحد من الناس وهو محل نزول الخير وصدوره للخلق أجمعين؟! أفعَجَزَ الله سبحانه أن يكفي حبيبه ورسوله وخيرته من خلقه مؤونته أم تراه سبحانه جعل للناس فضلاً على رسله، والعياذ بالله.
ولذلك: فإن رسل الله تعالى وأنبياءه إذا عملوا فهم لا يعملون أجراء لدى أحدٍ من الناس وإنما يعملون ــ إن عملوا ــ بما يحتاج إليهم الناس لا العكس كما في حال نبي الله داود عليه السلام: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (سورة الأنبياء، الآية: 80).
إذن:
 يبقى الأصل في عملهم هو أنهم محل نزول الخير من الله وصدوره إلى الخلق أجمعين وهي حقيقة دلّ عليها القرآن الكريم، قال تعالى لنبيه سليمان بعد أن آتاه الملك: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة ص، الآية: 39).
وعليه:
لا يصح أن يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً لدى أحدٍ من الناس سواء عمه أبو طالب أو خديجة بنت خويلد، وهذا لا يعني امتناعه عن العمل كما كان يعمل داود عليه السلام، وإنما الكلام في كونه يعمل أجيراً وله سيد يحسن إليه أو إذا أساء يعاقبه أو يوبِّخه ــ والعياذ بالله، ونستجير به من غضبه وغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ.

إرسال تعليق