حركة التأريخ وسننه عند رسول الله صلى الله عليه واله

بقلم: السيد نبيل الحسني
يشغل التاريخ حيزاً واسعاً في علوم أهل البيت عليهم السلام، والسبب في ذلك يعود إلى اهتمام القرآن أولاً بعلم التاريخ، وثانياً لكونه مدرسة كبيرة لمن أراد أن ينطلق لبناء الحياة الدنيا وينجو في الآخرة.
فالتاريخ كما يعرضه القرآن والعترة: هو خزين لتجارب الأمم مع الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين بعثوا إلى هذه الأمم، والتاريخ هو ساحة للصراع بين الخير والشر، وهو نماذج عديدة ومتنوعة من العقول البشرية، ورصيد ضخم من الفكر السياسي والقيادي لهذه الأمم، ناهيك عن تجارب في الاقتصاد وفي الاجتماع وعوامل رقيّه وفساده وفي الوعي الثقافي والفكري وفي الجانب السياسي والقيادي للأمة كما في استخلاف هارون عليه السلام.
ناهيك عن الخزين الضخم من التجارب المتنوعة في المجالات المختلفة والمحصورة بأشخاص كمؤمن آل فرعون، ومؤمن آل ياسين، وآسية بنت مزاحم، وأصحاب الكهف، وهابيل وقابيل، ومريم ابنة عمران صلوات الله وسلامه عليها، وغيرها.
كل ذلك وغيره مما لم نستطع الإحاطة به كان مداعاة لأن يشغل التاريخ حيزا واسعا في علوم أهل البيت عليهم السلام لاسيما وان حركة التاريخ وسننه تبدأ عند أهل البيت عليهم السلام من سراجهم المنير وهو رسول الله صلى الله عليه وآله، فكيف كانت حركة التاريخ وسننه عنده؟.

 حركة التاريخ عند رسول الله صلى الله عليه وآله  
من البديهي أن يهتم رسول الله صلى الله عليه وآله بحركة التاريخ وهو يرى الوحي قد نزل على قلبه بهذا الكم الكبير من الآيات التي تخبره عن الحركة التاريخية والسنن التاريخية لمختلف الأمم التي خلقها الله تعالى، إذ لا يخفى أن القرآن يعرض الحركة التاريخية للأمم الأخرى غير الأنس، كالملائكة وسجودها لآدم، والشياطين ودورها في انحراف الأمم. ولذا تبدأ هذه الحركة منذ خلق آدم عليه السلام.

بل القرآن يتحدث عن الحركة التاريخية للعلوم ونشوئها وتطورها، كمراحل خلق السموات والأرض، ومراحل النشأة والتكوين للعناصر الحياتية على الأرض، وتاريخ تكوّن الأعراق البشرية، واختلاف الألوان والألسن، وغيرها مما لا حصر له، فما من علم إلا وله بداية نشأ منها وانطلق من عندها ليكوّن بذلك سجلا تاريخياً يدون فيه سير هذه الحركة التاريخية لهذا الصنف من العلم أو ذاك، ولهذه الأمة أو تلك.

ومن هنا: ظهرت الحركة التاريخية عند رسول الله صلى الله عليه وآله واسعة وعميقة، فقد روى احمد في المسند عن عمران بن حصين: "كان نبي الله صلى الله عليه وآله، يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لعظيم صلاة". (مستدرك الحاكم ــ النيسابوري: ج2، ص379. البداية والنهاية لابن كثير: ج 2، ص 157).
ويبدو أن السبب في تركيز النبي الأكرم صلى الله عليه وآله على بني إسرائيل لعدة أمور، منها:
1 ــ تعاقب عدد من الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم.
2 ــ تنوع الجوانب الحياتية لديهم باختلاف الأزمنة التي بعثت بها أنبياؤهم؛ بمعنى أن كل فترة زمانٍ أو مكانٍ هو عبارة عن سجل تاريخي للحركة البشرية.
3 ــ اختلاط اليهود بالمسلمين وتشكيلهم نسبة جيدة من الجغرافية العربية التي تعددت فيها المعتقدات، فقد ظهرت في الجزيرة والعراق واليمن والشام مجموعة من المعتقدات.
4 ــ قرب زمانهم من زمان بعث النبي صلى الله عليه وآله وهذا يدل على استيعاب المسلمين لأثر السنن التاريخية التي مرت بها مجتمعات بني إسرائيل.
5 ــ نفوذ الثقافة اليهودية والنصرانية في أندية المدينة بشكل خاص.
6 ــ تجدد العوامل الفاعلة في حركة السنن التاريخية في أمة المصطفى صلى الله عليه وآله.
وهو الأمر الذي كان ينبه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يحذر المسلمين منه، بعد أن لاحظ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أن العديد من أسس السنن التاريخية بدأت تتحرك في أمته.

ولذا أراد حفظهم من عدم تحقق هذه السنن التاريخية كي لا تحصد الأمة ما سيترتب على هذه السنن من نتائج.
ومن هنا: نجده صلى الله عليه وآله كان يحدث المسلمين عن تلك السنن التاريخية التي جرت في بني إسرائيل، كي يحذرهم منها ويأمنوا من عدم الوقوع بها. وهو في نفس الوقت أعطى خزيناً تاريخياً وعاملاً نهضوياً في قيام الحركة التاريخية عند المسلمين.

 السنن التاريخية عند رسول الله صلى الله عليه وآله  
لم يغب عن ناظر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله المنهج الذي قدمه القرآن في إصلاح الأمم من خلال وضع العديد من السنن الإلهية في الحياة الإنسانية والتي عرفت فيما بعد وحسب اصطلاح المؤرخة بالسنن التاريخية؛ فهذه السنن لم تكن تغب عن ناظر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله ولذا كان يحدث المسلمين ويبين لهم تلك القوانين الإلهية التي تحكمت في مصير الأمم السالفة ولاسيما بني إسرائيل الأقرب عهدا بأمة الإسلام والأكثر احتكاكا وتعايشا، وربما فهما واستيعابا لتلك النتائج التي تمخضت منها هذه السنن التاريخية.
وحيث إن الطبيعة البشرية هي هي، تتأثر بالمتغيرات الحياتية والفكرية وحيث إن عناصر الشر والخير متأصلة ومتنامية في جميع الأمم كان لزاما على هذه الأمة أن تحيي تلك السنن التاريخية والقوانين الحياتية التي عاشتها الأمم السابقة.

ومن هنا: نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ولاسيما في السنة الأخيرة من حياته الشريفة يحذرهم من أتباع تلك السنن التاريخية؛ بل يظهر الحديث الشريف أنه كان يرى أن هذه الأمة قد سلكت سبيل السنن التاريخية للأمم السابقة لا محالة.
قال صلى الله عليه وآله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتموه»!. قالوا: فاليهود والنصارى يا رسول الله؟. قال: فمن أذن». (الرسائل العشر للطوسي: ص127. وقريب منه في: المصنف لابن أبي شيبة: ج8، ص636).

وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وآله قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه.قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟. قال: فمن». (صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، ج 4، ص 144).
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وآله قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع. فقيل يا رسول الله: كفارس والروم؟. قال: ومن الناس إلا أولئك». (صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ج 8، ص 151).
هذه التحذيرات التي أطلقها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في إتباع هذه الأمة السنن التاريخية للأمم السابقة ولاسيما بني إسرائيل كانت محفزا قويا عند المؤرخين العرب في معرفة تاريخ اليهود والنصارى وما جرى في أحوالهم من هذه السنن الإلهية (التاريخية).

ومما ساعد على نمو هذه الحركة التاريخية والمعرفية هو (ظهور جماعة من أهل الديانة اليهودية والمسيحية تتصدى بعد إسلامها لإذاعة تلك المعارف، ــ وهم الذين ــ يسميهم ابن إسحاق بـ(أهل العلم الأول).
ويذكرون عن وهب بن منبه أنه قرأ من كتب الأنبياء كتبا يختلف عددها في الروايات بين ثلاثين وبضعة وسبعين أو اثنين وتسعين كتابا.
وهذا على الأقل يعني توفر هذه الكتب في المناطق من الجزيرة والشام والعراق، في القرن الأول الهجري ولو أنها كانت في معظمها على ما يظهر بالسريانية والعبرانية؛ وقد دخل الكثير منها في معلومات هذه الكتب على التاريخ العربي حتى لقد عرفت آثارها في التاريخ، وفي علوم الدين باسم خاص هو: الإسرائيليات.
ويبدو مما وجد من أوراق البردي الإسلامي أن ترجمة هذه الأمور والنصوص إلى العربية قد تمت في أوائل القرن الثامن الميلادي أو أواخر القرن الأول الهجري). (التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ص 107).

فهذه الأسباب هي التي كانت وراء دخول المعارف التاريخية التوراتية الإنجيلية إلى الثقافة الإسلامية ولاسيما التاريخ والحديث، وهو الأمر الذي يفند المزاعم التي أطلقها المستشرق روزنتال في بحث كتبه عن (أثر التقاليد التوراتية الإنجيلية في التاريخ لدى المسلمين).
والذي يدعي فيه: (أن فكرة التاريخ في الكتاب المقدس قد أثرت في النبي، وأن العلماء المسلمين قد استخدموا هذه النظرة التاريخية العالمية في إنتاج مؤلفات تاريخية شاملة، وأنهم أغنوا تلك المؤلفات بمواد تاريخية مأخوذة عن الكتاب المقدس والآثار التوراتية ـ الإنجيلية، وأن ثمة أخيرا توازيا وتشابها في (شكل) تقديم تلك المواد بين النصوص التاريخية التوراتية والإسلامية). (التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ص 107 و 108).

في حين أن الدافع الذي دفع المسلمين إلى قراءة التاريخ والآثار اليهودية الإنجيلية هو ليس ما تحتويه هذه الكتب من مادة تاريخية، وإنما الأحاديث النبوية التي أطلقها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في إتباع أمته سنن الأمم السالفة ولاسيما بني إسرائيل؛ فكان الخوف من الوقوع في هذه السنن ومحاولة تجنبها والنجاة منها هو المحفز الأول في قراءة هذه الآثار التوراتية الإنجيلية، وإلا هذه الآثار كانت موجودة قبل الإسلام لكنها لم تأخذ من الوعي التاريخي عند العرب أي اهتمام يذكر كما يدعي روزنتال.

(ويثير روزنتال بعض التساؤلات حول أي نوع من النصوص ــ التوراتية الإنجيلية ــ نقل إلى العربية هل هو بعض الفرق المسيحية أو اليهودية المعنية أم هو أشكال محورة عن النصوص الأهلية لذلك القصص القديم، ويضيف أنه من المقبول عامة لدى الباحثين المحدثين أن معظم المواد التاريخية التي أخذها المؤرخون (منذ أواخر القرن الثالث فما بعد) كما اتضح لدى الطبري وحمزة الاصفهاني والبيروني واليعقوبي، إنما ترجع إلى كتاب «المدارش والهاغاداه» لدى اليهود والنصارى، ولكنها خضعت للكثير من التعديل؛ ومثل ذلك قصص الأنبياء). (انظر التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ص 108، وجاء فيه (المدارش) هي: التفاسير الأولى للتلمود وهي أساس المثنا الذي نسقه الحاخامون بعد القرن الثاني الميلادي وأما (الهاغاداه) فكتب التهجد والوعظ).

وما أراد روزنتال أن يعدّه تأثيرا ونقلا إنما يرجع في الواقع إلى حقيقة مسبقة وهي أن القرآن جاء {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} وأن الإسلام لم ينكر وجود العقائد الدينية السابقة ولكنه رفض استمرار الإيمان بها بعد ظهوره، ووحدة الرسالة منذ إبراهيم أبي الأنبياء، وعبر الأنبياء المتعددين حتى محمد صلى الله عليه وآله آخر النبيين، إنما كانت تقتضي هذا النوع من التطابق مع الفكر التاريخي للتوراة والإنجيل، وهذا النوع من المقبول للمادة التاريخية الناجمة عنها).
بل إن السبب في التشابه بين المادة التاريخية اليهودية ــ الإنجيلية ــ وبين المادة التاريخية الإسلامية هو ليس هذا النقل الذي تم من خلال ترجمة كتابي «المدارش والهاغاداه» ودخول هذه الثقافة إلى الفكر الإسلامي، إنما هو تحقق قول رسول الله صلى الله عليه وآله في اتباع هذه الأمة سنن بني إسرائيل لدرجة الشبر بالشبر والذراع بالذراع؛ بل لو دخل أحدهم في حجر ضب لدخله المسلمون!.

هذا الانطباق الواقعي للسنن التاريخية بين بني إسرائيل والمسلمين لاسيما ابتداء تحقق ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وانقسامهم على ثلاث وسبعين فرقة في هذا الزمن وانتشار الفكر التكفيري فيما بينهم هو الذي خلق هذا التصور الذي ذهب إليه روزنتال وغيره من المستشرقين والباحثين في نشأة التاريخ العربي والإسلامي وحركته وتطوره.
إذن: مثلما ركز القرآن الكريم على نفوذ السنن التاريخية في الأمم السابقة كذلك كان حالها عند رسول الله صلى الله عليه وآله.

إرسال تعليق