النهضة الحسينية المباركة فوق الشبهات

بقلم: الشيخ محمد البغدادي

يثير البعض ــ سواءٌ أكانوا مخلصين متعلمين أم مرجفين ــ مجموعة من التساؤلات تتعلق بالثورة الحسينية الرائدة لمقارعة الظلم ومكافحته، المحفزة لمناوأته، والمشعل الوضاء في درب الفداء.

التساؤل الأول


منها: علة قيام سيد الشهداء بثورته بذلك العدد القليل والإمكانيات المتواضعة أمام إمكانيات دولة جبارة تحتل مساحة واسعة من الأرض يومذاك قد تقدر اليوم بما يعادل الثلاثين دولة ــ على اختلاف رقع الدول مساحة من كبر وصغر وعلى اختلافها في الإمكانيات المالية والسكانية والعسكرية ــ كما أن المتصدين لأمور تلك الدولة عرفوا بتمام البطش وعدم التورع عن عمل أي شيءٍ، من سفك دم بطرقه الكثيرة، ومن إيداع في السجن ــ وحدث عن سجونهم وفجائعها ولا حرج ــ ومن تشريد، وهدم للمنازل، واستيلاء على الأموال، إلى غير ذلك من طرق الانتقام، بكل من تحدثه نفسه لمعارضتهم فضلاً عن العمل المسلح لإسقاطهم وإنهاء دولتهم.

فهذا القيام من الإمام الحسين عليه السلام لا يعدو كونه إلقاءً لنفسه المقدسة في التهلكة بدون فائدةٍ تجنى بل سيؤدي إلى استحكام قبضة الطغاة على الأمة.

التساؤل الثاني


وتساؤل آخر: عن السر في أن الإمام عليه السلام كان يأمر بعض من يلتقيه بالالتحاق بثورته والفوز بنصرته، ويدعو بعضاً آخر إلى الرجوع وإنجاء نفسه من نتائج هذه المعركة مع أن بين هذين المسلكين مضادة واضحة، وغرابة تستدعي كشف الوجه فيه ومعرفة إن كان السبب شخصياً، أو فقهياً، أو غيبياً.

أما عن الوجه في قيام الإمام عليه السلام بثورته بذلك العدد القليل وتلك الإمكانيات الضئيلة أمام إمكانيات هائلة مع أن ثورة كهذه فشلها واضح جداً لدى كل أحد فضلاً عن الإمام المعصوم المسدد.

إن الإمام الحسين عليه السلام:

1 ــ إمام معصوم مسدد من الله سبحانه، وذلك لدلالة آية التطهير وحديث الثقلين وغيرهما من النصوص الكثيرة المروية في كتب عامّة فرق المسلمين.

ولما كان الإمام معصوماً أصبح السؤال بلم وكيف، عمّا صدر منه نافلةً من القول وبلا موجب وخطأ في السلوك قد يكشف عن ركاكة إيمان المرء وحيرته في دينه.

نعم، قد يكون الوجه في التساؤل، هو معرفة التكليف الإلهي في مثل هذه الوقائع والاسترشاد بطريقة الإمام في إدارة الأحداث وهذا يكشف عن جانب إيمانيّ في المتسائل.
2 ــ إنه ذو خبرة واسعة في الحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع كما أنه ذو خبرة ممتازة في الشؤون العسكرية فهو يقدّر الوضع العام بكل جوانبه بدقة ويقدّر إمكانيات الطرفين مع ملاحظة الحكم الشرعي المناسب مع هذا الظرف.

3 ــ إنه قد تهيأت له الإمكانيات الجيدة للنصر وتحقيق الهدف، بحكم المتاح من أسباب النصر، فهو قد بدأ معركته بما تقتضيه ساحة الصراع إلاّ أن تطورات الأحداث أدّت إلى انعكاس نتائج المعركة لما قامت به السلطة من بطش وتنكيل، ولتكن معركتا أحد وحنين نصب أعيننا عند دراسة الحركة الحسينية.

إن الإمام سلام الله عليه لم يخرج من مكة إلى الكوفة إلاّ بعد تهيؤ عوامل عدّة:

1) وجود تذمر عام من الحكم الأموي، ويتمركز هذا التذمر على نحو الخصوص في مجموعة من المواطن على رأسها الكوفة لما لاقته من بني أميّة وولاتهم من أقسى أنواع الجور والتنكيل والفجائع عبر سنين طويلة.

2) استنصار الناس بالحسين عليه السلام لنجدتهم وللعمل على تغيير الأوضاع ووضع حدّ لاستهتار البيت الأموي وعبثهم بالبلاد والعباد والأموال والدين.

3) معاهدة الآلاف من أهل الكوفة وغيرها للإمام عليه السلام على نصرته ومؤازرته في نهضته حتى تحقيق الهدف منها، وإنهم يفدونه بالأنفس والأموال والأهل وكل نفيس دون نفسه المقدّسة.
4) إن الإمام عليه السلام الأوفر سهماً في تولي زمام أمر الأمة الإسلامية بعد هلاك معاوية؛ إذ إن الاتفاق قد جرى في عقد الصلح على أن يترك الخيار للأمة في تحديد الخليفة بعد موت معاوية ــ أو تعود الخلافة إلى الحسن أو الحسين عليهما السلام على رواية[1] ــ وطبيعي أن الأمة ستختار الإمام الحسين عليه السلام وذلك أن وقائع الأحداث أثبتت أن الأمة تتوجه إلى أهل البيت النبوي عليهم السلام حالما تترك وشأنها، وقد حصل هذا لأمير المؤمنين علي عليه السلام من بعد عثمان وللإمام الحسن عليه السلام بعد استشهاد الإمام الوصي عليه السلام وللإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام ــ مع وجود معاوية في السلطة بتفرعنه وتجبّره ودمويته ــ.

ومعنى ما تقدم: أن الصلح ــ بصيغته المتقدّم ذكرها ــ يوفّر أرضية مهمة لتوجّه الأمة للإمام عليه السلام كما يوفّر الأرضية لنجاح حركته ونهضته.

والذي يسهّل للإمام نجاحه ــ أيضاً ــ مؤهلاته العظيمة التي لا يضاهيه فيها أحد من الأمة كائناً من كان وما ثبت بالنص القطعي الدال على إمامته وزعامته وخلافته وقيامه مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والنصوص هذه مروية في كتب شتى فرق المسلمين إلاّ أن البعض لا يلتزم بلوازم هذه النصوص خوفاً من أمور منها:

ألف: أنها تهدم أركاناً عدة قامت عليها هذه الفرق وبانهيارها تنهار تلك المذاهب؛ إذ تفقد مسوّغ وجودها كمذهب متميز له حدوده بين فرق المسلمين.

باء: إن بعض الفرق لا تؤمن إلاّ بمبدأ الأمر الواقع ولا تخضع إلاّ له ولمّا لم يتمكّنْ الإمام السبط الشهيد من منصب الخلافة ولم يتسلّمه فهي لا تلتزم بإمامته بينما تلتزم بإمامة وخلافة كل متغلّب على الأمة بالقهر والسيف.

5) يذكر البعض أن سيد الشهداء سلام الله عليه خرج من مكة وكان عدد من معه يقارب خمسة الآلاف، كما أن من المعلوم أنّ أهل الكوفة قد عاهدوه على نصرته وفداء أنفسهم في سبيله وسبيل قضيته إضافة إلى أنه عليه السلام بعث إلى البصرة بكتاب طالباً النصرة فجاءه جيش من تلك الجهة لنصرته.

إلاّ أن هذا الجيش ــ وهو في طريقه للالتحاق بالإمام ــ بلغه استشهاد الإمام عليه السلام فرجع أدراجه.

إضافة إلى أن هناك توتراً هائلاً في المدينتين ــ مكة والمدينة ــ ضد الحكم القائم وعلى وشك الثوران، إذ في مكة عبد الله بن الزبير ــ وهو متهيئ لإعلان الثورة ــ وهذا مما يعضد عملية هدم كيان الدولة الجائرة ويدفع بسيد الشهداء سلام الله عليه في مسيرته نحو هدفه، كما أن أهل المدينة أعلنوا ثورتهم عقب استشهاد الإمام عليه السلام ــ ومعنى هذا توفّر الإمكانيات المادية والمعنوية لديهم لمعاضدة ثورة الإمام عليه السلام ــ.

فالقصد أن سيد الشهداء عليه السلام لم يبدأ حركته بسبعين رجلاً كي يثار سؤال عن الجدوى من حركته وكونها إلقاءً للنفس في التهلكة أم لا.

فإنه يجاب بأن بدء الحركة كان بهذه الجموع الغفيرة الوفيرة ولم تبدأ بسبعين.

نعم لمّا بلغ الإمام عليه السلام خذلان أهل الكوفة وتقاعسهم عما عاهدوه عليه واستحكام قبضة السلطة في الكوفة مما أدى إلى انهيار معنويات الناس واستسلامهم لبطش الدولة اتضح أنه لا جدوى من الحركة إن كان الهدف منها ــ فقط ــ إسقاط الدولة الجائرة، إذن فليس من البعيد أن الهدف قد تغيّر كما أنّ الخطّة أخذت منحى آخر، ولذلك أعلن على الملأ الذين معه استشهاد مسلم رضوان الله تعالى عليه وخذلان أهل الكوفة له وسمح للناس بالانصراف عنه لكنه عليه السلام استمر في نهضته: «بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام»[2].

6) إن مسألة إلقاء النفس في التهلكة والحكم المتعلق بها مشوّشة في أذهان أبناء الأمة، فإن أصل نزول الآية المباركة: ((وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))[3].

على ما ذكرته الكتب المعنية بهذا الشأن هو أن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرجوا إلى الجهاد فنزلت الآية المباركة محذرة لهم ومهددة ومبيّنة بأن ترك الجهاد إلقاء للنفس في التهلكة وهي النار التي هي مآل العصاة والمجرمين هذا أولاً، ومع التسليم ــ كما هو الصحيح ــ بشمول الآية لأمثال المورد الذي نحن بصدده فإن حركة سيد الشهداء عليه السلام خارجة تخصيصاً، إن لم نلتزم بخروجها تخصصاً عن الحكم المطلق في الآية المباركة حتى مع غضّ النظر عن مسألة عصمته وتسديده وتبصّره التام في أموره موضوعاً وحكماً وعاقبة.

وذلك: لأنّه عليه السلام أعدّ لنهضته مستلزماتها وخرج إلاّ أن الحركة السريعة للدولة للسيطرة على الوضع والأسلوب الإرهابي الذي اتبعته ومنها إعدامها لزعيم المعارضة في الكوفة مولانا مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه ومن أسنده كهاني وعبد الله بن يقطر وغيرهم، أدى بالحركة إلى عدم تحقيقها لأهدافها فوراً، وإن حققت أهدافاً عظيمة بالتدريج بل لعل ما تحقق بالتدريج لم يكن ليتحقق فيما لو استلم الإمام الحسين عليه السلام الحكم، ومصداق هذا ما حصل في دولة الوصيّ وفي أيام حكم المجتبى من فتن واضطرابات بسبب المنافقين وطابور معاوية في الكوفة أو لعوامل أخرى، غير أنّ نتيجة الحال في الكوفة إثر استشهاد الإمام الحسين عليه السلام هو نموّ نبتة التشيّع فيها شيئاً فشيئاً إلى أن استولت عليها.

وهناك أسباب كثيرة أخرى ذكرناها في موارد عدة في عدة من كتبنا ومقالاتنا وكلّها تصبّ في منحى أن حركة الإمام عليه السلام ناجحة مائة في المائة بحسب ظرف قيامها، نعم بدأت الأمور تتراجع من بعد ترك أهل الكوفة لمسلم إذ هدّدهم ابن زياد بجيش الشام ــ ولم يكن في البين جيش من الشام أو غيرها كما لم يحضر جيش كهذا أبداً، نعم تجمّعت فلول المنافقين والخوارج والأمويين من أهل الكوفة ونظّمت جيشاً كهذا وقتلت الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسرت نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصبيته كما قتلت خيرة عُبّاد الأمة وأبدالها ــ.

إن عدّ قضية الحسين عليه السلام قضية في واقعة: إمّا لأنّها غير مطابقة للقواعد الفقهية أو للمسلمات المعروفة عن أهل البيت عليهم السلام في ظرف كهذا أو لعدم اتضاح ظروف الواقعة بما يمنع انسجامها مع القواعد والمسلمات فلابدّ من افتراض ظرف غير معلوم وغير واضح لنا أدى إلى اتخاذ الإمام عليه السلام لموقفه هذا.

ويتضح من خلال بياننا لأسباب الثورة أن الدوافع واضحة وظرفها يقتضي ما فعله الإمام عليه السلام فتخرج عن كونها ــ قضيّة في واقعة ــ نعم هناك أمور غير مفهومة للوهلة الأولى، مثل الإصرار على عدم البيعة ونتيجة هذا إصرار يزيد على قتله عليه السلام، ثم منها إصراره على الاستجابة لكتب أهل الكوفة مع كونهم أهل غدر ونكث وقد اشتهر هذا عنهم ولهم سوابق مع الإمامين عليهما السلام قبله عليه السلام، وإصراره عليه السلام على الذهاب إلى الكوفة، واختياره خصوص كربلاء للاستشهاد، وامتناعه عن مقاتلتهم ابتداءً إلى غير هذه لكن لو تبينت لنا وجوه صحيحة لهذه الأمور والأمور الأخرى التي تستدعي الاستغراب والتساؤل فإن هذا سيرفع عنها، وبلا ريب، الحكم بأنها قضية في واقعة، وهو الذي نحاول الإسهام في تبيينه ــ مع بقية المهتمين بهذا الميدان ــ وذلك من خلال كتبنا ومقالاتنا.

ـــــــــــــــ
[1] صرّح ابن الزبير في خطبة له بمكة أنه كان للإمام الحسين عليه السلام بيعة في عنق معاوية وقد نقضها الأخير ببيعته ليزيد، قال: ثمّ إنه أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته، ونقض ما كان في عنقه من بيعة الحسين بن علي عليهما السلام. راجع: مقتل الحسين عليه السلام لابن أعثم: ص180.
وهذا يقوّي ما نقل من أن عقد الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية قد تضمّن إرجاع الخلافة إلى الإمام الحسن عليه السلام بعد معاوية ومع وفاة الإمام الحسن عليه السلام ترجع إلى الإمام الحسين عليه السلام، ومما يقوّيه أيضاً اغتيال معاوية للإمام الحسن عليه السلام مع أنه ترك له الحكم وهناك شواهد أخرى.
[2] الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص75.
[3] سورة البقرة، الآية: 195.

إرسال تعليق