مناقشة روايات اتهام الإمام الحسن عليه السلام بأنه مزواج مطلاق ــ الرواية الرابعة ــ

بقلم: الشيخ وسام برهان البلداوي

قال: أخبرنا علي بن محمد، عن الهذلي، عن ابن سيرين، قال: (كانت هند بنت سهيل بن عمرو عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وكان أبا عذرتها فطلقها، فتزوجها عبد الله بن عامر بن كريز ثم طلقها، فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية، فلقيه الحسن بن علي فقال: أين تريد؟ قال: أخطب هند بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية، قال: اذكرني لها، فأتاها أبو هريرة فأخبرها الخبر، فقالت: خر لي، قال: أختار لك الحسن، فتزوجها، فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن: إن لي عندها وديعة، فدخل إليها والحسن معه وجلست بين [يديه] فرق ابن عامر، فقال الحسن: ألا أنزل لك عنها؟ فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني، فقال: وديعتي، فأخرجت سفطين فيهما جوهر ففتحهما فأخذ من واحد قبضة وترك الباقي، فكانت تقول: سيدهم جميعا الحسن، وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب)[1].

ولا يمكن لنا الإقرار بمضمون هذه الرواية أيضا لوجود عدة إشكالات في إسنادها ومضمونها نذكر فيما يلي جملة منها:

الإشكال الأول: الرواية ضعيفة بالهذلي


هذه الرواية التي يرويها المدائني الهذلي وهو كذاب مطعون في وثاقته. وفيما يلي وصف لحاله على لسان أهل الجرح والتعديل:

1: قال عنه الرازي: (سلمى بن عبد الله بن سلمى أبو بكر الهذلي بصري وهو ابن بنت حميد بن عبد الرحمن الحميري روى عن الحسن ومحمد بن سيرين وعكرمة... حدثنا عبد الرحمن نا أبى عن أبي مسهر نا مزاحم ابن زفر الكوفي قال سألت شعبة عن أبي بكر الهذلي فقال: دعني لا أقئ.

 حدثنا عبد الرحمن نا محمد بن إبراهيم نا عمرو بن علي الصيرفي قال سمعت يحيى ــ يعنى ابن سعيد ــ ذكر أبا بكر الهذلي فلم يرضه ولم اسمعه ولا عبد الرحمن يحدثان عنه بشيء قط.

قال وسمعت يزيد بن زريع يقول: عدلت عن أبي بكر الهذلي عمدا.

حدثنا عبد الرحمن انا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلى نا يحيى بن معين قال كان غندر يقول كان أبو بكر الهذلي إمامنا وكان يكذب.

حدثنا عبد الرحمن انا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال سمعت يحيى بن معين يقول: أبو بكر الهذلي ليس بشيء.

حدثنا عبد الرحمن سمعت أبي يقول: أبو بكر الهذلي ليس بقوى لين الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به.

حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن أبي بكر الهذلي فقال: بصري ضعيف)[2].

2: وقال ابن حبان عنه: (أبو بكر الهذلي اسمه سلمى بن عبد الله بن سلمى من أهل الكوفة، يروى عن الحسن وعكرمة، روى عنه العراقيون، يروى عن الاثبات الأشياء الموضوعات، سكن البصرة... سمعت محمد بن محمود يقول: سمعت الدارمي يقول: قلت ليحيى بن معين: سلمى أبو بكر تعرفه يروى عنه أبو أويس؟ فقال: أبو بكر الهذلي ليس بشيء)[3].

فمع وجود هذا الكذاب الذي كان يضع الأحاديث وينسبها للأثبات والذي قيمه أهل الجرح والتعديل بلا شيء لا يمكن الأخذ بهذه الرواية فتسقط حينئذ عن الاعتبار.

الإشكال الثاني: هل وصف السيد في الرواية يقصد منه المدح أو الذم؟


وكلمة السيد قد جاءت في اللغة بمعنى الزوج[4]ومنه قوله تعالى: ((...وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[5].

وأطلقت كذلك بمعنى الحليم ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قال للحسن بن علي رضي الله عنهما: إن ابني هذا سيد) قيل أراد به الحليم[6].

وأطلق السيد أيضا على الرجل السخي المكثر من إعطاء المال ومنه كما يزعمون حديث ابن عمر (ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسود من معاوية، قيل: ولا عمر! قال: كان عمر خيرا منه، وكان هو أسود من عمر ) قيل أراد أسخى وأعطى للمال[7].

وقال أبو خيرة: سمي سيدا لأنه يسود سواد الناس أي عظمهم[8]، ولكن السيد الحقيقي لا يصح أن يكون بخيلا شحيحا فقد روي عن النبي انه قال للأنصار: (من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس، على أنا نبخله. قال وأي داء أدوى من البخل)[9].

فهند بنت سهيل بن عمرو إن كانت تريد من كلمة السيد الزوج فيصبح معنى كلامها هو: (ان زوجي من بين هؤلاء الثلاثة هو الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ابن عامر اسخى منه، والإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه وان كان زوجي لكن عبد الرحمن بن عتاب أحب إلى قلبي).

وان كانت تريد من السيد معنى الحليم فيصبح معنى كلامها هو:(ان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه احلم الثلاثة ولكن ابن عامر اسخى منه، وعبد الرحمن أحب لقلبي منه صلوات الله وسلامه عليه).

ولا يمكن أن تريد بمعنى السيد هو السخي لأنها نفت عنه السخاء إذ جعلت ابن عامر اسخى منه ومن عبد الرحمن، وحتى لو فرضنا أنها أرادت من كلامها وصف الإمام صلوات الله وسلامه عليه بالسخاء فيكون ابن عامر اسخى منه.

وكذلك لا يمكن أن تريد من السيد عظيم الناس وسيدهم لان من صفات سيد الناس وعظيمهم أن يكون سخيا وهو ما قد نفته.

ومهما أردنا أن نحدد لكلمة السيد من معنى فان ما بعدها، وهو قولها (وأسخاهم ابن عامر،وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب) يسيء إليه ويخرجه عن كونه مدحا،ويكون بالقياس إلى ما بعده مذمة ومنقصة لا يليق بالإمام الحسن عليه السلام.

فكيف يمكن لغيور أن يقبل بتلفظ زوجته أمامه بمثل هذا القول الذي تفضل عليه غيره، وتعدُّه اقل من غيره سخاءً وكرما، بل وتعدّ غيره أحب إليها واقرب إلى نفسها.

 ففي الرواية إساءتان لشخص الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه:

الأولى: هي تفضيل زوجته صلوات الله وسلامه عليه الآخرين عليه وانشغال قلبها بغيره وهي على ذمته.

والثانية: سكوته صلوات الله وسلامه عليه على ما تلفظت به هذه الزوجة.

الإشكال الثالث: شخصيات وأهداف أموية


لا نتردد في الحكم على هذه الرواية بانها من الروايات الأموية المنشأ مثلها مثل كثير من الروايات السابقة واللاحقة التي صنعت في الشام وتحت إشراف أل أبي سفيان وسوقت إلى المسلمين من دنانير بيت مال المسلمين والهدف منها هو التشويه والحط العمدي من منزلة وقدر آل أبي طالب العدو اللدود لآل أبي سفيان بن حرب، وقد وضعت ورتبت بشكل دقيق جدا بحيث يصعب على القارئ العادي الانتباه إلى ما وراء اسطرها من المقاصد والأغراض التي دعت واضع الرواية إلى روايتها،ولو دققنا النظر جيدا في هذه الرواية لوجدنا اسمين قد ورد ذكرهما في هذه الرواية وتم إقحامهما عنوة في ضمنها، وهم كل من عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وعبد الله بن عامر بن كريز،ثم بمناسبة أو غير مناسبة أقحم الراوي محاورة قصيرة ما بين الإمام الحسن عليه السلام وعامر بن كريز سرعان ما وصل من خلالها إلى النتيجة التي صيغت على أساسها كل مفردات هذه الرواية،هذه النتيجة التي جاءت على لسان هند بنت سهيل بن عمرو حين قالت بحسب ما يزعم الراوي: (سيدهم جميعا الحسن، وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب).

لذلك نجد من المهم بمكان أن نتعرف على هاتين الشخصيتين اللتين سعت الرواية جاهدة إلى تفضيلهما على الإمام الحسن عليه السلام وذلك لان بمعرفتهما يتم فهم الرواية على حقيقتها، وفهم الأهداف التي تقف أمام خلق هذه الأكاذيب المسيئة لأهل البيت عليهم السلام والرافعة لشأن أعدائهم الأمويين.

من هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد؟


 هو أموي الأصل والهوى يقول عنه ابن حجر في الإصابة:(عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي)[10].

وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بقي على كفره ولم يسلم إلا في عام الفتح، وعبد الرحمن ابنه ليس بصحابي أي انه ولد بعد استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يدركه ولم يره، قال عنه ابن أبي الحديد: (هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي ولكنه من التابعين وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس من مسلمة الفتح)[11].

وكان من الناكثين الذين اشتركوا في حرب الجمل ضد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه قال ابن سعد: (ومضى طلحة والزبير وعائشة ومعهم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ومروان بن الحكم ومن اتبعهم من قريش وغيرهم إلى البصرة فشهدوا وقعة الجمل...)[12]، وقد أوكلت إليه قيادة ميسرة جيش الناكثين يوم حرب الجمل، قال الطبري: (وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد )[13].

وقال الدينوري: (ووليا قريشا وكنانة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد)[14].

وأوكلت إليه كذلك الصلاة بالجيش إلى أن قتل وهلك قال الطبري: (فخرجت عائشة ومعها طلحة والزبير وأمرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فكان يصلى بهم في الطريق وبالبصرة حتى قتل)[15].

وقد قاتل يوم الجمل في صف الخارجين على امامة أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قتالا شديدا وكان في يده سيفه الذي اسمه ولول فكان يرتجز بأبيات شعر في مدح سيفه ويطلب النزال فنازله مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فقتل مالك عبد الرحمن هذا والحقه بجهنم ناكثا ولولي الله محاربا وعن الحق زائغا،وعن مقتله تحدث ابن أبي الحديد بقوله: (ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو من أشراف قريش ــ وكان اسم سيفه ولول ــ فارتجز. فقال:

أنا ابن عتاب وسيفي ولول  *** والموت دون الجمل المجلل

فحمل عليه الأشتر فقتله)[16].

وبعد أن قتل غير مأسوف عليه أخذ طائر يده بعد أن قطعت في المعركة وحملها من ارض المعركة في البصرة وألقاها في مكة قال البهوتي: (وقال الشافعي: ألقى طائر يدا بمكة من وقعة الجمل عرفت بالخاتم. وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد)[17].

فليس من العجيب بعد كل هذا أن نرى الأمويين يعلون شانه ويرفعون مكانته ويجعلوا منه حبيب قلوب النساء حتى بعد مقتله، و يجعلون في المقابل للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه صورة مغايرة ومعاكسة لصورة ذلك الأموي المحارب لله ولأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كيف لا وهو عليه السلام ابن من قتل آباءهم وأجدادهم في حروب الإسلام وساحات النزال بين الحق والباطل.

من هو عبد الله بن عامر بن كريز


 وحاله ليس بأحسن من صاحبه عبد الرحمن بن عتاب، فهو أموي أيضا وابن خالة عثمان بن عفان قال ابن عبد البر في الاستيعاب:(عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي ابن خال عثمان بن عفان)[18].

وعامر الذي هو والد عبد الله هذا كان مشركا وبقي على شركه إلى عام الفتح فدخل إلى الإسلام عنوة وتحت حد السيف شأنه شأن باقي مشركي مكة قال ابن عبد البر: (عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أمه البيضاء بنت عبد المطلب أسلم يوم الفتح وبقي إلى خلافة عثمان هو والد عبد الله بن عامر ابن كريز)[19].

 وقد أعطاه عثمان ولاية البصرة وفارس كما روى ذلك ابن عبد البر وغيره: (قال صالح بن الوجيه وخليفة بن خياط وفى سنة تسع وعشرين عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كله لعبد الله بن عامر بن كريز)[20].

وكان عبد الله بن عامر بن كريز أيضا من الناقمين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ومن المحرضين على قتاله ونكث بيعته ومن المجهزين لجيش الجمل جيش الغدر والنكث، وهو الذي اقنع عائشة بنت أبي بكر بالخروج إلى البصرة ودعا كل من طلحة والزبير للخروج إلى مكة والالتحاق بجيش عائشة، قال ابن حبان: (وبلغ أهل البصرة قتل عثمان فقام بن عامر فصعد المنبر وخطب وقال إن خليفتكم قتل مظلوما وبيعته في أعناقكم ونصرته ميتا كنصرته حيا وقد بايع الناس عليا ونحن طالبون بدم عثمان فأعدوا للحرب عدتها فقال له حارثة بن قدامة يا بن عامر إنك لم تملكنا عنوة وقد قتل عثمان بحضرة المهاجرين والأنصار وبايع الناس عليا فان أقرك أطعناك وإن عزلك عصيناك فقال بن عامر موعدك الصبح فلما أمسى تهيأ للخروج وهيأ مراكبه وما يحتاج إليه واتخذ الليل جملا يريد المدينة واستخلف عبد الله بن عامر الحضرمي على البصرة فأصبح الناس يتشاورون في بن عامر وأخبروا بخروجه فلما قدم بن عامر المدينة أتى طلحة والزبير فقالا له لا مرحبا بك ولا أهلا تركت العراق والأموال وأتيت المدينة خوفا من علي ووليتها غيرك واتخذت الليل جملا فهلا أقمت حتى يكون لك بالعراق فئة قال بن عامر فأما إذا قلتما هذا فلكما علي مائة ألف سيف وما أردتما من المال...

وكانت عائشة خرجت معتمرة فلما قضت عمرتها نزلت على باب المسجد واجتمع إليها الناس فقالت أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظلما واستحلوا البلد الحرام وسفكوا الدم الحرام فقال عبد الله بن عامر ها أنا ذا أول طالب بدمه فكان أول من انتدب لذلك ولما كثر الاختلاف بالمدينة استأذن طلحة والزبير عليا في العمرة، فقال لهما ما العمرة تريدان وقد قلت لكما قبل بيعتكما لي أيكما شاء بايعته فأبيتما إلا بيعتي وقد أذنت لكما فاذهبا راشدين فخرجا إلى مكة وتبعهما عبد الله بن عامر بن كريز فلما لحقهما قال لهما ارتحلا فقد بلغتما حاجتكما فاجتمعوا مع عائشة بمكة وبها جماعة من بنى أمية ثم جمع معاوية أهل الشام على محاربة على والطلب بالقود من الدم عثمان..)[21].

ثم ان ابن عامر لما نظر في الساعات الأخيرة لحرب الجمل غلبة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وانهزام جيش النكث والغدر فر من البصرة وارتحل إلى الشام لائذا بكهف النفاق وحصن الكفر معاوية بن أبي سفيان بعد أن ترك في ساحة الحرب ابنه مقتولا في ضمن من قتلوا من أنصار عائشة وجملها المشؤوم، قال ابن سعد في طبقاته: (فلحق ابن عامر بالشام حتى نزل دمشق وقد قتل ابنه عبد الرحمن يوم الجمل وبه كان يكنى)[22].

لم نجد له ذكر في حرب صفين، وان كنا لا نستبعد مشاركة هكذا حاقد في كل معركة يكون أمير المؤمنين طرفا فيها، غير انه شارك يقينا في قيادة احد جيوش الشام لحرب الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه قال الدينوري: (ولما بلغ معاوية قتل علي تجهز، وقدم أمامه عبد الله بن عامر بن كريز، فأخذ على عين التمر، ونزل الأنبار يريد المدائن، وبلغ ذلك الحسن بن علي، وهو بالكوفة، فسار نحو المدائن لمحاربة عبد الله بن عامر بن كريز...)[23].

وبعد سيطرة معاوية على البلاد ورقاب العباد طلب عبد الله بن عامر منه أن يوليه البصرة ففعل،قال ابن سعد: (ولم يزل عبد الله بن عامر مع معاوية بالشام ولم يسمع له بذكر في صفين ولكن معاوية لما بايعه الحسن بن علي ولى بسر بن أبي أرطأة البصرة ثم عزله فقال له بن عامر إن لي بها ودائع عند قوم فإن لم تولني البصرة ذهبت فولاه البصرة ثلاث سنين ومات بن عامر قبل معاوية بسنة)[24].

وقال صاحب كتاب الغارات: (فلما بايعه الحسن تفرغ معاوية لاستعمال العمال، فبعث المغيرة ابن شعبة على الكوفة... فقام إليه عبد الله بن عامر وقال: يا أمير المؤمنين إن عثمان هلك وأنا عامل البصرة عزلني علي فجعلت ما لي ودائع عند الناس،فإن أنت لم تولني البصرة ذهب ما لي الذي في أيدي الناس، فولاه عند ذلك البصرة، فخرج إليها، وسرح معاوية [ معه ] بسر بن أبي أرطاة في جيش فأقبل حتى دخل البصرة فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أصلح أمر الأمة وجمع الكلمة وأدرك لنا بثأرنا، وكفانا مؤنة عدونا، ألا إن الناس آمنون، ليس في صدورنا على أحد ضغينة ولا نأخذ أحدا بأخيه...)[25].

ولو تقصينا كل مخازيه ومواقفه المشينة لطال بنا المقام وفيما ذكرناه كفاية لمنصف، وبها وبغيرها تعرف أهداف وضع هذه الرواية وأشباهها، فالحرب ما بين الحق والباطل وما بين الإسلام وأهله والكفر وأتباعه كانت وما تزال موجودة ونارها مستعرة،غاية ما في الأمر ان أسلوب هذه المعركة وطريقة إدارتها يتغير من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى آخر،فحرب الجمل وصفين كان سلاحها السيف وأهدافها إزهاق النفوس الطاهرة لأهل البيت عليهم السلام، ومن ثم تغيرت هذه الحرب لتصبح حرب الرواية والأحاديث المشوهة والمكذوبة وهدفها قتل أهل البيت عليهم السلام معنويا والحط من مراتبهم التي رتبهم الله فيها.

الإشكال الرابع: رواية أخرى بنفس التفاصيل


نفس هذه الرواية التي حيكت ضد الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه نجدها قد رويت وبنفس التفاصيل ولكن كان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه هو محورها فقد اخرج الخوارزمي في مقتل الحسين ما يلي: (أخبرني الإمام الأجل مجد الدين قوام السنة أبو الفتوح محمد ابن أبي جعفر الطائي فيما كتب إلى من همدان،أخبرنا شيخ القضاة أبو علي إسماعيل بن أحمد البيهقي،سنة اثنتين وخمسمائة بباب المدينة بمرو في الجامع،أخبرنا الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني،أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن محمد بهرات،أخبرنا أبو علي أحمد ابن محمد بن علي،حدثنا علي بن خشرم،سمعت يحيى بن عبد الله بن بشير الباهلي،حدثنا ابن المبارك أو غيره ــ شك الباهلي ــ قال:بلغني أن معاوية قال ليزيد:هل بقيت لذة من الدنيا لم تنلها؟قال:نعم،أم أبيها هند بنت سهيل بن عمرو خطبتها،وخطبها عبد الله بن عامر ابن كريز،فتزوجته وتركتني. فأرسل معاوية إلى عبد الله بن عامر،وهو عامله على البصرة،فلما قدم عليه قال:أنزل عن أم أبيها لولي عهد المسلمين يزيد. قال:ما كنت لأفعل. قال:أقطعك البصرة، فإن لم تفعل عزلتك عنها. قال:وإن فلما خرج من عنده قال له مولاه: امرأة بامرأة، أتترك البصرة بطلاق امرأة، فرجع إلى معاوية فقال: هي طلاق، فرده إلى البصرة، فلما دخل تلقته أم أبيها فقال: استتري. فقالت: فعلها اللعين،واستترت. قال: فعد معاوية الأيام حتى إذا انقضت العدة وجه أبا هريرة يخطبها ليزيد، وقال له: أمهرها بألف ألف. فخرج أبو هريرة فقدم المدينة، فمر بالحسين بن علي فقال: ما أقدمك المدينة يا أبا هريرة قال: أريد البصرة أخطب أم أبيها لولي عهد المسلمين يزيد. قال: فترى أن تذكرني لها، قال: إن شئت. قال: قد شئت.

فقدم أبو هريرة البصرة، فقال لها: يا أم أبيها إن أمير المؤمنين يخطبك لولي عهد المسلمين يزيد، وقد بذل لك في الصداق ألف ألف، ومررت بالحسين بن علي فذكرك. قالت: فما ترى يا أبا هريرة قال: ذلك إليك. قالت: فشفة قبلها رسول الله أحب إلي. قال: فتزوجت الحسين بن علي، ورجع أبو هريرة فأخبر معاوية، قال: فقال له: يا حمار ليس لهذا وجهناك.

قال: فلما كان بعد ذلك حج عبد الله بن عامر فمر بالمدينة فلقي الحسين بن علي فقال له: يا ابن رسول الله! تأذن لي في كلام أم أبيها. فقال: إذا شئت.

فدخل معه البيت، واستأذن على أم أبيها فأذنت له، ودخل معه الحسين،فقال لها عبد الله بن عامر: يا أم أبيها! ما فعلت الوديعة التي استودعتك قالت: عندي، يا جارية هاتي سفط كذا،فجاءت به،ففتحته وإذا هو مملوء، لآلئ وجوهر يتلألأ، فبكى ابن عامر. فقال: ما يبكيك فقال: يا ابن رسول الله أتلومني على أن أبكي على مثلها في ورعها، وكمالها، ووفائها. قال: يا ابن عامر نعم المحلل كنت لكما،هي طلاق. فحج فلما رجع تزوج بها)[26].

فكل من هذه الرواية وتلك الرواية التي تقدمت عن المدائني هما روايتان متعارضتان،والروايتان المتعارضتان لهما حلان معروفان عند أهل الحديث والرواية وغيرهم من الأصوليين:

الحل الأول


إما أن يوجد مرجح أو عدة مرجحات خارجية تؤيد صحة ما ورد في واحدة منهما، فتقدم حينئذ هذه الرواية التي لها مرجحات خارجية على التي لا تملك من المرجحات شيئا.

الحل الثاني


إذا بقي التعارض قائما ما بين الروايتين ولم نستطع إيجاد مرجح لإحداهما على الأخرى فان الروايتين تتساقطان ولا يؤخذ بإحداهما ولا تقدم على الأخرى. وقد وجدنا ان الرواية الثانية لها عدة من المرجحات نستطيع من خلالها أن نسقط الرواية الأولى عن الاعتبار ومن هذه المرجحات ما يلي:

المرجح الأول


ان الرواية الثانية تذكر قول معاوية (أقطعك البصرة، فإن لم تفعل عزلتك عنها. قال:وإن فلما خرج من عنده قال له مولاه:امرأة بامرأة،أتترك البصرة بطلاق امرأة!؟ فرجع إلى معاوية فقال:هي طلاق،فرده إلى البصرة) وهذا الأمر موافق لما تقدم ذكره من ان معاوية بن أبي سفيان قد ولى عبد الله بن عامر البصرة ثلاث سنين، فيكون صدق هذه القضية خارجا ومن مصادر أخرى محايدة قرينة خارجية على صدقها.

المرجح الثاني


ان الرواية الثانية تشير إلى ان عبد الله بن عامر كان رجلا لا يعتني كثيرا بالمبادئ وكل ما يهمه هو الفائدة المادية وهذا أيضا موافق لسيرته العملية التي بيناها سابقا فهو قد انقلب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه لأنه عزله عن ولاية البصرة، وقد انقلب من صف عثمان بن عفان الذي ولاه البصرة في حياته إلى صف عائشة بنت أبي بكر وطلحة والزبير اكبر المحرضين على قتل عثمان بسبب ان مصالحهم جميعا قد اجتمعت، ومن ثم انتقل إلى صف معاوية الذي أبطاء عن نصرة عثمان حتى قتل.

 ورواية المدائني تؤيد جشعه وطمعه فالإمام الحسن في تلك الرواية قال له (ألا أنزل لك عنها؟فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني،فقال:وديعتي ) وقوله وديعتي يعني انه لم يكن يفكر في زوجته السابقة ولا في غيرها والمهم بالنسبة إليه هو الحصول على وديعته،فهذا أيضا مما يمكن أن يكون قرينة على صدق الرواية الثانية دون الأولى.

المرجح الثالث


ان الرواية الأولى للمدائني فيها انتقاص للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه وهو مما يبعث في النفس الشك، بعكس الرواية الثانية التي تعكس نبل الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وعظيم بره وإحسانه حتى على أعدائه فهو عليه السلام قد أنقذ هندا زوجة عبد الله بن عامر من أن تكون تحت تصرف رجل مثل يزيد بن معاوية عليه اللعنة،وحفظ له ماله من أن يضيع لان هندا لو كان قدر لها أن تتزوج يزيد بن معاوية وكانت الوديعة معها لما خرج منها شيء ما دام قد دخل في حصن يزيد، لان من يقتل أبناء الأنبياء ويقترف من المعاصي ما كان يقترفه يزيد ليس بمستهجن منه أن يكون خائنا للأمانة،والإمام صلوات الله وسلامه عليه ارجع زوجة إلى زوجها وأعاد اُماً إلى بيتها وأبنائها،فهي منسجمة مع الخط العام للأخلاق والمثل التي كان يسمو بها أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على غيرهم بعكس الرواية الأولى ويمكن أن يكون هذا الانسجام دليلاً آخراً على صدق الرواية الثانية دون الأولى.

أما إذا لم نعتبر هذه الأمور قرينة على صحة الرواية الثانية دون الأولى فان التعارض يبقى فتتساقط كلتا الروايتين ولا يمكن حينئذ الأخذ بواحدة منهما دون الأخرى لأنه ترجيح بدون مرجح.

الإشكال الخامس: ماذا لو سلمنا بهذه الرواية؟


لو غضضنا الطرف عن كل ما تقدم من ملاحظات فان رواية المدائني غاية ما تثبته هو ان للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه زوجة اسمها هند بنت سهيل بن عمرو وان هندا هذه كانت متزوجة من رجلين احدهما عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وكان أبا عذرتها فطلقها،فتزوجها عبد الله بن عامر بن كريز،وليس في هذا كله ما يثبت ان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه كان مزواجا أو مطلاقا مذواقا.

ــــــــــــــــ
[1] ترجمة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه من طبقات ابن سعد ص 70 ــ 71، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي، وراجع شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي ج16 ص13 ترجمة الحسن بن علي وذكر بعض أخباره.
[2] الجرح والتعديل للرازي ج 4 ص 313 ــ 314.
[3] كتاب المجروحين لابن حبان ج 1 ص 35 ــ 360 .
[4] لسان العرب لابن منظور ج 3 ص 229.
[5] سورة يوسف الآية 25.
[6] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج 2 ص 417.
[7] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج 2 ص 418.
[8] لسان العرب لابن منظور ج3 ص229 فصل السين المهملة.
[9] الأدب المفرد للبخاري ص71 البخل.
[10] الإصابة لابن حجر ج 5 ص 35.
[11] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11 ص 123.
[12] الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج 5 ص 35، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 21، ص117.
[13] تاريخ الطبري ج 3 ص 518.
[14] الأخبار الطوال للدينوري ص 146.
[15] تاريخ الطبري ج 3 ص 472 ـــ 473.
[16] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 264 ـــ 265.
[17] كشاف القناع للبهوتي ج 2 ص 146.
[18] الاستيعاب لابن عبد البر ج 3 ص 931.
[19] المصدر السابق ج 2 ص 798.
[20] المصدر السابق ج 3 ص 932
[21] الثقات لابن حبان ج 2 ص 274 ـــ 278.
[22] الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج 5 ص48.
[23] الأخبار الطوال للدينوري ص 216.
[24] الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج 5 ص49.
[25] الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي ج 2 ص 645 ــ 646.
[26] مقتل الحسين للخوارزمي تحقيق الشيخ محمد السماوي ج1 ص 217 ــ 219.

إرسال تعليق