مناقشة روايات اتهام الإمام الحسن عليه السلام بأنه مزواج مطلاق ــ الرواية الحادية عشر ــ

بقلم: الشيخ وسام برهان البلداوي

عن ابن شهر آشوب في مناقبه قال: (أبو طالب المكي في قوت القلوب انه صلوات الله وسلامه عليه تزوج مائتين وخمسين امرأة، وقيل ثلاثمائة، وكان علي يضجر من ذلك فكان يقول في خطبته: ان الحسن مطلاق فلا تنكحوه. أبو عبد الله المحدث في رامش اقزاي: ان هذه النساء كلهن خرجن خلف جنازته حافيات)[1].

وهذه الرواية كسابقاتها لا يمكن لنا قبولها ولعدة أسباب منها:

أولا: أبو طالب المكي ليس بثقة لا في كلامه ولا في نقله


الرواية كما ترى ليس لها سند يذكر مما اضطر ابن شهر آشوب أن يرمي بعهدتها على أبي طالب المكي من حيث انه أخرجها في كتابه قوت القلوب، وعدم وجود سند معلوم لهذه الرواية هو أول طعن يمكن أن يسقط الرواية عن الحجية، ولكننا سنذهب ابعد من هذا لنبين للقارئ الكريم طبيعة الكتب التي نقلت أمثال هذه الروايات وكذلك طبيعة الأشخاص الذين كانوا يروجون هذه الأكاذيب على الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه، ومنهم صاحب كتاب قوت القلوب.

والاسم الكامل للكتاب الذي نقل هذه الكذبة هو: (قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد)[2] ومؤلفه هو (محمد بن علي بن عطية، أبو طالب المكي، الزاهد الواعظ)[3].

قال عنه ابن حجر في ميزان الاعتدال: (محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي الزاهد الواعظ صاحب قوت القلوب... قال الخطيب ذكر في القوت أشياء منكرة في الصفات وكان من أهل الجبل ونشأ بمكة قال لي أبو طاهر العلاف ان أبا طالب وعظ ببغداد وخلط في كلامه وحفظ عنه انه قال ليس على المخلوقين أضر من الخالق فبدعوه وهجروه فبطل الوعظ...)[4].

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: (أبو طالب المكي أبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي الواعظ المكي صاحب كتاب قوت القلوب كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة ويتكلم في الجامع وله مصنفات في التوحيد ولم يكن من أهل مكة وإنما كان من أهل الجبل وسكن مكة فنسب إليها وكان يستعمل الرياضة كثيرا حتى قيل إنه هجر الطعام زمانا واقتصر على أكل الحشائش المباحة فاخضر جلده من كثرة تناولها ولقي جماعة من المشايخ في الحديث وعلم الطريقة واخذ عنهم ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن ابن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فوعظ الناس فخلط في كلامه فتركوه وهجروه وقال محمد بن طاهر المقدسي في كتاب الأنساب إن أبا طالب المكي المذكور لما دخل بغداد واجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ خلط في كلامه وحفظ عنه أنه قال ليس على المخلوقين أضر من الخالق فبدعه الناس وهجروه وامتنع من الكلام بعد ذلك وله كتب في التوحيد وتوفي لست خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثمانين وثلاثمائة ببغداد ودفن بمقبرة المالكية)[5].

وقال ابن الأثير بعد ان ذكر خلطه وهجران الناس له: (وصنف كتابا سماه قوت القلوب، وذكر فيه أحاديث لا أصل لها... وقد كان أبو طالب هذا يبيح السماع[6]، فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه فعاتبه على ذلك فأنشد أبو طالب:

فيا ليل كم فيك من متغب  *** ويا صبح ليتك لم تقرب

فخرج عبد الصمد مغضبا)[7].

فكتاب قوت القلوب ووفق شهادات من تقدم فيه أحاديث لا أصل لها، وأشياء منكرة في الصفات، أما كاتبه فهو رجل يخلط في كلامه، وهو صاحب بدعة، وان إحدى أشهر البدع قوله والعياذ بالله (ليس على المخلوقين أضر من الخالق) وهو الكفر الصريح، والذي على أساسه هجره الناس، وهو بالإضافة لذلك يبيح سماع الغناء،فشخص هذا شانه لا يقبل منه ولا من كتابه ما فيه إساءة إلى منزلة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه، وما اتهامه للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه إلا من قبيل اتهامه لذات الله سبحانه بالضرر على المخلوقين، لان الذي يسيء إلى ربه لا يستبعد منه الإساءة إلى بقية خلقه من الأولياء والأئمة.

ثانيا: نطالب أبا طالب بأسماء هذه الزوجات


لنا الحق في أن نسال أبا طالب المكي كما سألنا المدائني من قبل عن أسماء وألقاب وانساب هذه النسوة اللاتي قال بأنهن زوجات الحسن صلوات الله وسلامه عليه واللاتي ضرب الرقم القياسي في عددهن فأوصله إلى الثلاثمائة زوجة، فهل له أن يخبرنا بأسماء مئة منهن لا بل ليخبرنا عن أسماء ثلاثين زوجة منهن والى أي بيت ينتسبن، وما هي أسباب زواج الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه منهن، وما سهي أسباب طلاقهن، ولماذا لم يكن للحسن صلوات الله وسلامه عليه سوى ستة عشر ولدا على أعلى التقادير من مجموع ثلاثمائة زوجه، فليس ذكر ثلاثين امرأة من مجموع ثلاثمائة بعسير لو كان لهن وجود أصلا.

وبما ان القوم لم يأتوا ولن يأتوا بأسماء ثلاثين زوجة فأكثر للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه فهو يعني ان هذا العدد مفترى، وذلك لان الأصل هو عدم وجودهن، فإذا شككنا في وجودهن ولم يكن هنالك دليل على تحققهن في الخارج تعين علينا استصحاب ذلك العدم.

ثالثا: لماذا خرجن هذه النسوة في تشييع الحسن صلوات الله وسلامه عليه؟ ولماذا حافيات؟


ذكرت هذه الرواية على أن النسوة الثلاثمائة كلهن قد خرجن خلف جنازة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه حافيات، والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا خرجن هذه النسوة إلى تشييع جنازته صلوات الله وسلامه عليه؟ وما الذي دعاهنَّ إلى مثل هذا الفعل؟ ولماذا خرجن حافيات غير منتعلات؟.

فهل السبب في خروجهن انهن كن في يوم من الأيام زوجات له صلوات الله وسلامه عليه فطلقهن؟ ولكن المعروف عند كل نساء قديما وحديثا بان المرأة حينما تطلق من قبل زوجها لا تنظر بعد طلاقها إلى زوجها السابق بنظرة شفقة أو رحمة بل العكس هو الصحيح. وفي كثير من الأحيان تجلس المطلقة لتتربص به ريب المنون حتى إذا ما أصابه مكروه فرحت به واستبشرت وأحست بالشماتة تجاهه وتجاه ما يصيبه، فلماذا يا ترى تغيرت طباع هذه النساء الثلاثمائة؟!.

ثم هل من المعقول أن تحضر المطلقات الثلاثمائة كلهن من دون أن تتغيب واحدة عن تشييعه صلوات الله وسلامه عليه ألم تكن ولو عشرة منهن يشعرن بالمرض أو كن على سفر أو تعرضن للموت والرحيل عن هذا العالم قبل موت ورحيل الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه وهو احتمال وارد ومنطقي.

ثم ألم يكن قسم كبير من هذه النسوة متزوجات بعد طلاقهن، فكيف يعقل أن يتركهن أزواجهن ويسمحوا لهن بالخروج لتشييع جنازة رجل كان في يوم من الأيام حليل زوجته، أفلا يدعو هذا الشيء إلى بث الغيرة في نفوس بعض أولئك الرجال؟ فيمنعوا على أساسه زوجاتهم من الخروج لتشييع الرجل الذي كان منافسا لهم في يوم من الأيام.

ثم ألم يتسأل أزواج هذه المطلقات الثلاثمائة الذين خرجت زوجاتهم للتو إلى تشييع رجل طلقهن وأنهى علاقته بهن عن مدى إخلاص زوجاتهم تجاههم؟ لان فعل تلك النسوة يدلل على أنهن غير مخلصات لهم في المحبة والود، وان قلوبهن ما زالت حتى بعد الزواج منهم متعلقة بالإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه.

والاهم من ذلك كله هو مدى صحة ما قاله الراوي من ان كل هذه النسوة الثلاثمائة قد خرجن حافيات فما هذا التواطؤ من قبلهن على هذه الظاهرة فهل كن على علم مسبق بموته صلوات الله وسلامه عليه فاتفقن على هذا الأمر بحيث لم تخالف ولا واحدة من هذه الثلاثمائة طليقة هذه الظاهرة وذاك الاتفاق؟!

ثم كيف لم ينقل لنا التاريخ هذه الحادثة التي كان الداعي إلى نقلها متوفرا لغرابتها وندرتها، مع ان التاريخ قد نقل لنا بدقة وتحدث بتفصيل عن الأحداث ابتداءً من سقيه السم ومرورا بمرضه ووصيته وموته صلوات الله وسلامه عليه وانتهاء بتشييع جنازته صلوات الله وسلامه عليه والصلاة عليه ودفنه، فذكروا مثلا معارضة بني أمية ومنعهم وعائشة بنت أبي بكر لدفنه عند قبر جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وذكروا رمي جنازته بالسهام[8]، وذكروا وبالتفصيل ماذا قال بنو أمية لبني هاشم، وبماذا أجاب بنو هاشم، وذكروا غير هذه الأشياء الكثير مما يكون من حيث الأهمية اقل بكثير من خروج ثلاثمائة زوجة ومطلقة للحسن صلوات الله وسلامه عليه حافية ومشيعة، فلو كان لهذه الحادثة أصل معتبر وحقيقة ثابتة لنقلت لنا ومن أكثر من مصدر وراوي،وبما انها لم تنقل لنا ولا حتى في مصدر واحد معتبر، فلا نجد حرجا في رميها بالوضع والاختلاق وانها ليست إلا من اختلاق القصاصين والمبتدعين.

وأما موضوع ضجر علي صلوات الله وسلامه عليه وخطبته وقوله: (ان الحسن مطلاق فلا تنكحوه) فسنؤجل الكلام حوله لأننا سنفرد له موضوعا مستقلا، في الفصل الثالث من هذا الكتاب.

ـــــــــــــــ
[1] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج 3 ص 192 ــ 193.
[2] معجم المطبوعات العربية لاليان سركيس ج 1 ص 321.
[3] ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 655.
[4] لسان الميزان لابن حجر ج 5 ص 300، ومثله في ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 655.
[5] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج 4 ص 303 ــ 304.
[6] أي يبيح سماع الغناء.
[7] البداية والنهاية لابن كثير ج 11 ص 366.
[8] فلو كان لهذه النسوة الثلاثمائة وجود أثناء تشييع الإمام الحسن لصدر منهن أو من بعضهن على اقل التقادير رد فعل حول ضرب جنازة  الحسن الذي ما خرجن  إلا حبا به،ولصدر أيضا منهن أو من بعضهن رد فعل على منع دفن الإمام الحسن عليه السلام قرب جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان قد صدر لنقل. 

إرسال تعليق