أساليب التصوير الفني في القصيدة الحسينية التصوير الذهني المجرَّد انموذجا

بقلم: د. علي حسين يوسف

وفي هذا الأسلوب، يوظف الشاعر طاقاته الخيالية، وبمساعدة الفنون البيانية – الاستعارة[1] والمجاز[2] والكناية[3] – لخلق عوالم جديدة من الفن والجمال على هيأة صور معبرة " يكون موضوعها الخارجي معدوماً، أو في حكم المعدوم، فالخيال يلغي وجود ما حصله الإدراك، ويعيد خلق صورته الجديدة بديلاً من وجوده المادي.. "[4].

وكانت واقعة الطف، وما حفلت به من معانٍ وقيم سامية مصدراً مهماً للشعراء العراقيين في النصف الأول من القرن العشرين لينهلوا من ذلك المعين الفياض أجمل الصور التي جسدت وقفة الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، يقول عبد الحسين الأزري[5]: (من الكامل)

ما كان للأحرار إلا قدوةً *** بطلٌ توسَّد في الطفوف قتيلا
بعثتهُ أسفارُ الحقائقِِ آيةً *** لا تقبل التفسيرَ والتأويلا
ما زال يقرأُها الزمان معظماًُ *** من شأنها ويعيدها ترتيلا

إنَّ الصور الجزئية (بعثته أسفار الحقائق آية)، و (ما زال يقرؤها الزمان معظماً) كونت صورة ذهنية مكتملة ومجسدة لحقيقة الشخصية الحسينية، فجاءت متوهجة بالجمال ناقلة للحقائق من طبيعتها المألوفة إلى عالم من السمو الروحي، تجلى في ترتيل الزمان معظماً لآية الخلود المحمدي التي تمثلت بالإمام الحسين (عليه السلام). والملاحظ أنَّ الصور الذهنية في مراثي الإمام الحسين (عليه السلام) كثيراً ما وظفت لوصف شخصه الكريم لما حازه من الفضل والسبق ما أعجز الشعراء عن الوقوف على أسرار تلك الشخصية، يقول عبد الحميد السماوي[6]: (من الكامل)

وقفت بموكبك الحياة وسجلت *** لك في جبين الدهر رمزاً خالدا
وتنهدت لك عن غرام صامت *** لما رأتك إلى المنيَّة ناهدا
ضلت مقاييس العقول ولم تزل *** ما بين أمواج الحقيقة صامدا
بَسَمتْ لمطلعها فكنت لها فماً *** وهوت لمصرعها فكنت لها فدا

لقد أجاد الشاعر في رسم صورتين تعاضدتا في الارتقاء لمحاكاة العظمة الحسينية، فالولوج إلى عالم الروح المنحنية إجلالاً لسيد الشهداء وهي تصارع لأجله قطبي الوجود: الحياة والموت لم يتضح إلا بعد أن رسم الشاعر لوحته الثانية حينما وقف بريشته على ضفاف الحقيقة لرسم أمواجها، وهي تلقف العقول التي ضلَّت ببحر الحقيقة الحسينية، فكان أن أبرز الخيال "حقائق الوجود بدرجة من الوضوح والجدَّة والصفاء أكبر مما توجد عليه في الطبيعة، أو أكبر مما يستطيع الناس العاديون أن يروها.."[7].

وغالباً ما حاول الشعراء إكساب صورهم الذهنية معانيَ إسلامية لإضفاء شيء من الجلال والقداسة عليها، من ذلك ما جاء في مرثية السيد رضا الموسوي الهندي[8]: (من الكامل)

صلَّت على جسم الحسين سيوفهم *** فغدا لساجدة الظبى محرابا

في الصورة (صلَّت... سيوفهم) إشارة دقيقة لمعنى يحتمل دلالتين، الأولى: رؤية الشاعر لتلك السيوف وكانَّها تصلي على جسد الإمام لعدم تصديقه بأنها كانت تطعن جسده الشريف، والثانية: تشير إلى قسوة القوم، حينما كانت السيوف قد عرفت منزلة الإمام فيما أنكرتها قلوبهم.

وقد وجد الشعراء في الاستعارة وسيلة لوصف الإمام الحسين بما هو معبر عن عظمته، من ذلك قول السيد مصطفى جمال الدين[9]: (من الكامل)

مولاي إنَّ الناس قد جهلوا *** من قُدْس يومك غيبه الذهبي
وتطلعوا... فرأوك منفرداً *** تدعو... فلم تُسمع ولم تُجَبِ

رسم الشاعر صورة ذهنيَّة من الاستعارة التصريحية (رأوك منفرداً) لتشير إلى سمو الإمام الحسين (عليه السلام)، فهم لم يروه حقيقة لكن مبادئهُ ظلت ماثلة في أذهانهم حتى تصوروا إن الإمام حياً بالمعنى الحرفي وكأنَّه فردٌ بين الوجود يدعو لكنه لم يجب، فضلاً عن الجانب التربوي والأخلاقي المتمثل بضرورة الاقتداء بالإمام الحسين (عليه السلام) ومبادئ ثورته.

ــــــــــــــــ
[1] الاستعارة: تشبيه حذف منه المشبه (تصريحية) أو المشبه به (مكنية) وأداة التشبيه. ينظر: مفتاح العلوم: 369 – 373.
[2] المجاز كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي مع وجود قرينة مانعة، وهو عقلي حينما يسند الفعل أو ما في معناه إلى غير صاحبه، ومرسل حينما تستعمل اللفظة في غير معناها الحقيقي. ينظر: فنون التصوير البياني: 47.
[3] عرفت الكناية بأنها التعريض بالشيء دون التصريح به، ينظر: كتاب الصناعتين: 407.
[4] الصورة في الشعر العربي: 27 – 28.
[5] ديوان الحاج عبد الحسين الأزري: 339.
[6] ديوان السماوي: 368 .
[7] وظيفة الأدب: 63.
[8] ديوان السيد رضا الموسوي الهندي: 42.
[9] الديوان: 2 / 163.

إرسال تعليق