مميزات الصورة الحسية في الشعر الحسيني

بقلم: الأستاذ الدكتور صباح عباس عنوز

لدى تتبعي بناء القصيدة الحسينية وتأملي في شكلها ومضمونها، ومعيانة الصورة البيانية فيها، وجدت - كما قلت سابقا - هيمنة الصورة الحسية في الشعر الحسيني، وعند استقرائي لها تكوينا ونوعا ألفتها متميزة بما يأتي:

أولا: الانتقال الصوري


غلب على القصيدة الحسينية تنوع الانتقال الصوري، مسايرة لانفعالات الشاعر وهو يتجه صوب تجسيد الحدث الحسيني تجسيدا حسيا، مراعيا في ذلك حال المخاطب، وخصوصية المشهد الحسيني الذي قرر الشاعر رسمه شعريا، فضلا عن الهدف الاساس من انبثاق نصه الشعري، أي الباعث ا لكامن وراء قوله، بمعنى ان خصائص شكل الصورة الحسية المتكونة تنهض مرسومةً بسبب باعث وجداني هيأ لانبثاقها من جهة، ومن جهة اخرى وجهها وعي الشاعر مراعيا التأثير في المتلقي، لان هدف الصورة الحسية الحسينية اكتشاف وحضور واقناع وتأثير، فضلا عن كونها معادلاموضوعيا بالنسبة للشاعر، ومن اجل الوصول الى سبب حسيتها في الشعر الحسيني، فلابد من ايضاح لمميزات تحولاتها في هذا الشعر:

أ. كثرة الانتقال من المحسوس إلى المحسوس حين يكون انفعال الشاعر عاليا


لا يسمح له بركوب الاستعارات والمجازات والكنايات الا ما ندر، اذ يحضر التشخيص والتجسيم متناغما مع هذا الانتقال، ويكثر هنا التشبيه لانه منتج بارع للصورة الحسية، وبوصفه اداء محتويا للعملية الابداعية الشعرية، فانه اطار حسي تنضوي فيه تفاصيل تلك الصورة، وهذا الامر جعل الشعراء يهرعون اليه حين يحتدم انفعالهم، ويرومون ايصال قصديتهم الشعرية سريعا. يقول الشاعرعبد المنعم الفرطوسي[1].

ضمدت في قلب المقدس قلبه *** فهو الجريح وفيض نحرك بلسم
بطل العقيدة والجهاد تحية  *** لك من دماك وهي نار تضرم

رسم الشاعر بصورة حسية لوحة معبرة حين جعل قلب الحسين (عليه السلام) يضمد قلب الاسلام، لا ان الاخير اضحى جريحا لهول مامر بالحسين واله (عليه السلام) في كربلاء، بينما كان قلب الحسين (عليه السلام) بلسما داوى جرح قلب الاسلام بعدما جرحه من خرج عليه، ثم اصبحت تلك الدماء نارا شب أوارها فاحرقت الظالمين.

فأدى التشبيه قدرة هائلة في رسم الصور الحسيةالتي أدت دلالاتها بشكل جيد، قال الشاعر[2]:

تراقصت صافنات الشهب من طرب *** لموكب بأباة الضيم مزدحم
ورفرت عذبات الحق خافقة   *** على جبين بنور الحق متسم
أهوى ابن حيدر فالابصار شاخصة  *** ترنو الى علم ملقى الى علم

فلقد عول الشاعر كثيرا في انتقالاته الصورية من المحسوس الى المحسوس غاية منه في ايصال مشهد صوري مرئي جمع بين اضواء الشهب التي ابتهجت بموكب اباة الضيم والموكب نفسه، فالصورتان حسيتان، ثم رفرفت رايات الحق على جبين النور، وبعد ذلك جاءت الصورة الحركية المتكونة من هبوط العباس (عليه السلام) الى الارض من صهوة جواده فرافقه علمه، فهو الاخر هوى معه، فكانت الصورة الحسية قد تم الانتقال فيها من محسوس الى محسوس عبر صور جزئية تركبت منها الصورة الحسية الكلية.

ب . الانتقال من المجرد إلى المحسوس


إذ يتم تطويع المجرد إلى المحسوس وتختلف الانتقالات بحسب انتقال الشاعر، فتارة يكون الانتقال حسياً حين ينفعل الشاعر ويعمل على ليّ رقبة النص والإتيان به نحو المحسوس، وهذا الامر على العكس من الصورة الذهنية التي يتم الانتقال فيها من المحسوس إلى المجرد؛ او من المجرد الى المجرد لأن الشاعر في وقت الرخاء يعول على الصورة الذهنية بسبب هدوء العقل وزيادة التأمل.

فضلاً عن ذلك فأن هذا الانتقال من المجرد الى المحسوس المقصود كان ذا هدف واضح، هو الارتقاء بالصورة الحسية إلى مستوى الاقناع بالنسبة للمتلقي.اذ يكون لاختيار الكلمة على وفق الرؤية اعلاه قوة صورية, لان الكلمة لها فعل مؤسس في بناء الصورة، فهي تسهم في محاكاة المشهد المرئي بدور مهم[3]. يقول الشاعر[4]:

مولاي يومك لايزال كما    *** خلدت في اثوابه القشب
يفتر ميمسه اذا اشتبكت   *** هذي البنود بافقه الرحب
اعلام مملكة سعيت لها   *** بالمجد.. بالاتعاب بالنصب
حتى اذا اسست دولتها   *** وزهت بتاج مليكها العربي
وفدت اليك جنودها زمرا    *** بيض الوجوه تلوح كالشهب

استطاع الشاعر ان يوظف بذكاءٍ المعقولَ الى المحسوس، فمنح الصورة رؤية ادراكية وبصرية وحركية في ان واحد، فالشاعر يؤكد بقاء يوم الحسين (عليه السلام) بأثوابه النقية، ويؤكد بقاء دولة الحسين الروحية في كل قلب مؤمن نقي السريرة لا تدنسه ملذات الحياة، وبذلك صنعت صوره الحسية بيتا جميلا للفكرة؛ لان "حاجة النص الى سياق تظهرها خصوصية الشاعر حين تظهر اول بؤرة بيانية يرتضيها صورة تعادل لديه صورة الواقع[5]"، وبذلك حقق الشاعر معادلا موضوعيا لفكرة انبثقت في مخيلته، فأسس علاقة بين تلك الفكرة والسياق الناهض باخراجهامن جانب، والصورة الحسية التي كانت قالبا لحمل هذه الفكرة والمعتمدة على حسية الاشياء من جانب اخر، فكان الخطاب الشعري قد اعتورته عمليتا المعنى والتأويل، اذ اعتمد التأويل على الصورة البيانية وكانت حسية، فيما كانت اللغة بسياقاتها هي مادة المعنى، وهكذا حققت الصورة الحسية غايتها عبر انتقالاتها من المجرد الى المحسوس فوظفت الاشياء المجردة في بناء صور حسية استطاعت ان تؤدي وظيفة فكرية باحساس وجداني.

ثانيا: حرص الشاعر الحسيني على صنع علاقات التفاعل بين النفس والوجود والقضية



فأعطى التشخيص والتجسيم دوراً فاعلاً في انتاج الصورة الحسية، أخْذاً بالمتلقي إلى مستوى المشاهدة المرئية أو الصورة المرسومة بالحواس، حتى يحصل التفاعل بين المنشئ ومتلقيه.

فكان التركيز على إظهار وظيفة النص الاجتماعية والوقوف على مفهومي الخير والشر، ومن ثم الانتصار لمفهوم الخير، فضلا عن ذلك فان هاجس الخوف او نقد الواقع او عدم الرضا الناتج من وحدة الصراع ــ حيث يعيش الشاعر ــ يحتم عليه سحب الواقع الى قصيدته، لتكون مرأة عاكسة لمزايا ذلك المجتمع ولاسيما السلبية منها؛ لان الشاعر" لايكاد يطيق اهون التعب، بل يضجر من أقل مس اصابته به ظروف الطقس او ظروف المكان[6]", وبذلك كانت القصيدة الحسية الحسينية انعكاسا موضحا للواقع المعيش، هذا الامر حقق تلاحما بين ذات الشاعر والنص من جهة والمقارنة بين واقعه والقيم الحسينية النبيلة التي ثار من اجلها الحسين (عليه السلام) من جهة اخرى، فرصدت القصائد الواقع معرية اياه بسبب الظلم والباطل والشر بانواعه واتجاهاته في كل زمان ومكان, فأضحت الصورة على اشكال تحمل سمات معينة، وتؤدى بطرق متمايزة الاثر بحسب رغبة القائل، فينهض بوساتطها الخطاب في تعبيره، وهو يؤدي رسم الافكار والمشاعر بالمعاني التي جعلتها الصورة ضمن اطارها، اذ تتجلى حقيقة الصورة من خلال طرفيها الاطار والمادة[7].

فتصبح الصورة الحسية حينئذ صوتا ومرأة للمسكوت عنه في ذلك الواقع، وقد وجدنا شعرا حسينيا كثيرا عج بهذه الرؤيا: قال الشاعر[8]:

آه يازينب: الحوادث بعدي  *** همك الهم والتوجس أخفى
حسبنا الله: اننا نتساوى   *** في هواه الحتمي، قتلا...وعسفا
في غد تشهدين رأسي في الرمح *** يباريك في الضعائن.. عطفا
قد تمادت امارة الزيف في الناس *** وهيهات ان نهادن زيفا
واستدار الظلام والنحر يعدو *** في ذراه ويمتطي البرق سيفا

نجد الشاعر رسم بالصورة الحسية البصرية واقعا مزريا لا امان فيه، يحيطه الظلام، اذ ان للبصر استئثاراً اكثر من الحواس الاخرى بالصورة الفنية[9].

وهكذا ينفذ الشعراء الى واقعهم متخذين من قضية الحسين (عليه السلام) متكأ يعينهم على توجيه النقد لذلك الواقع، ويبث فيهم روح الشجاعة ليتخطوا أسوار خوفهم، ولأن قضية الحسين (عليه السلام) تأخذ مدى روحيا عند الشاعر، فانها تزيد من همة النشاط الوجداني لديه، وتسحب الفكرة الى الرفض ان كان الواقع مزريا. وتعد وحدة الصراع من الوحدات المهمة التي يعول عليها المنشىء البشري بصحبة الوحدة الحيوية أي (الشعورية) ووحدة التداعي او ما يسمى (بالتلوين الشعوري)؛ لان لهذه الوحدات دورا فاعلا في اظهار العملية الابداعية البشرية، ورسم ملامح الرفض او الاستجابة لمعطيات العصر, ولذلك تبوأت الصور الحسية أعلاه مكانا عاليا في الانفعال، إذ إن الشعر الوجداني يقوى ويتجدد ويدهش بالصورة البيانية، وللاخيرة مكانة خاصة يلونها الخيال بانفعال الشاعر الصادق، فتكون الكلمات والعبارات مضيئة[10], وينعكس ذلك على الصور البيانية، فتصبح هذه الصور دلالة مقنعة ومؤيدة ومعضدة لرؤى الشاعر.

ثالثا: هناك علاقة بين الصورة الحسية في الشعر الحسيني والصوت


 لقد ركزالشعراء الحسينيون على الجانب الصوتي ـ فكثرت البحور التي تساعد على مد الصوت أو الحداء، فتقدم الرمل ليناسب حركة الجسم، ثم بحر الكامل ثم البحر الطويل فالبسيط فالوافر فالسريع، لتسهم هذه البحور في اعطاء النغم الحزين وهكذاتاتي البحور الاخرى لتقدم الصورة الحسية والصوت المؤثر معا، لاسيما البحرالمنتهي بروي يسبقه لين كما في قول الشاعر من الكامل[11]:

صمتاً ندبتك والشعور رسولُ *** هذي المواجع ألسِنٌ ونصولُ
عباسها نهر العطاشى جاريا *** قيمَ المواقفِ ما تجددّ جيلُ
ذرني يخضبني هواك تعفّفاً    *** ذَرْني أبيح مواجعي وأقولُ

بدأت الصورة الحسية مركزة على الصمت ولكنه أي صمت؟ انه الصمت الناطق الذي يجري مجرى الصخب في كيان الشاعر، فثمة علاقة بين صمته الذي بدأ به نصه والقول الذي ختم به نصه، لقد تغلغل الايقاع مع الصورة وأصبح الصدى نغمة ذات تأثير في المتلقي، وكانت صورتها الحسية كامنة فيها؛ لان "الكلمة تحاكي في ايقاعها معناها كما يحاكي الهديل صوت الحمامة والخرير صوت الماء[12]" ليساعد ذلك على إضفاء وقع موسيقي خاص للنص، ومن ثم جذب انتباه المتلقي, فحصلت مواءمة بين البحر الذي ركبه الشاعر والمضمون، فنتج عن ذلك وقع موسيقي حملته الصورة الحسية السمعية؛ لان الصورة السمعية تعتمد على ادراك الاصوات وتصورها وما تفعله في النفس فضلا عن الايقاع[13]، وقد ادى المنبر الحسيني دورا مهمافي ذلك من خلال الاستهلال عند تقديم المراثي الحسينية، فأصبح الشاعر يعول كثيرا على البحور التي تمنح النفس إطالةً في مد الصوت مع استيعاب ظاهرة الشجن، فهناك علاقة خفية بين الصوت والمعنى[14]؛ لان الصوت صدى للمعنى[15].

وفي السلم الابداعي للقصيدة الحسينية اصبح التناسب بين الايقاع والمعنى معيارا للحكم على رقي تجربة الشاعر، فكلما وازن الشاعر بين الايقاع والمعنى فذلك الامر دليل الموهبة في هذا الفن لأن للايقاع المنبثق من الروح سطوة الثاثير في المتلقي، مثلما للمعنى الجميل تلك القوة التاثيرية، فهناك تناسب بين مواقع المعاني في النفوس والابانة عن انماط الاوزان والاشارة الى كيفيات مباني الكلام وما يليق بكل وزن من الاعتراض وكيفية بناء الكلام على القوافي[16]، فثمة علاقة وطيدة بين اختيار الشكل والمضمون الذي يرتضيه الشاعر طريقا موصلا لدلالته، وما الشكل الا الصورة؛ لان "الكلام الفني ولاسيما الشعري كلام مصوغ على اساس صوتي، ولايكتسب تأثيره الا بتنوع صور الاداء، ومن هذه الصور الاستعمال الامثل للايقاع، ذلك يعني استغلال قيم الالفاظ الصوتية مضافا اليها حسن التصرف في بناء الجمل فضلا عن بنائها العروضي[17]، "فعملية اختيار الاداء البياني الذي هو المهاد الذي تتأسس عليه الصورة والتنسيق بأختيار البحر يسهمان في تكوين دفقة شعورية تلجىء الشاعر الى التحكم في التنغيم[18]".

وعلى وفق ذلك تكون العلاقة وطيدة بين الايقاع المنتخب والصورة الحسية الحاملة له، لان كليهما ينبعان من الوجدان اليقيني ويؤسسان لوحدة متكاملة بين اختيار الايقاع واختيار الصورة الحسية وصولا الى منح قصدية النص الشعري هويته، وقد كان للمنبر الحسيني دوره الفاعل في مد جسور العلاقة بين الصورة الحسية والصوت، فالخطيب من جهة يعول على انتقاء الصور الحسية التي تتناغم مع عواطف السامع لايصالها اليه والتفاعل معها، ومن جهة اخرى فانه يختار بحرا شعريا قادرا على ايصال لواعجه هو الاخر الى المتلقي، كي يؤثر فيه فيكون الاختيار مقصودا,لذلك تظهر العلاقة وطيدة بين الصورة المنتقاة والصوت الذي يمده الخطيب سيما اذا كان الامر يتعلق بالاوزان التي تختار لاستيعاب الحزن؛ لان " من اتبع اعاريض كلام الشعراء في جميع الاعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف انماطه بحسب اختلاف مجاريها من الاوزان[19] "، فهناك علاقة وطيدة بين الباعث الصوتي والصورة الحسية الحسينية؛ فاذا كانت هناك " مطابقة خفية بين الصوت والمعنى[20] "، فان القصيدة الحسينية مثلما تؤثر في اثارة حواس السامع بالصورة الحسية، فانها تشده اليها على وفق اختيار شاعرها للتنغيم لحزين الذي يفرض هيمنة الصوت الممتلئ بظاهرة الشجن في هذا النوع من الشعر، فتتقوى بذلك دلالة الكلام تأملْ قول الشاعر[21]:

مهج بنيران الفراق تذوب    *** فيجود فيها للجفون سحاب
أي والصبابة انها هي مهجة  *** ذابت عشية ودع الاحباب
ووقفت في الاطلال وقفة ناشد *** ذاب الجماد لها وشاب غراب
دِمَنٌ كستها الذاريات ملابسا *** ولهنَّ من حلل البلا جلباب
قد اخرستها النائبات فما لها *** الا بألسنةِ الرماح خطاب

اعتمد الشاعر على الكامل المقطوع فهيأ له ذلك مد الصوت؛ لان للقافية دورا مهما في ايصال الاثر الايقاعي الى السامع، فضلا عن ان علاقتها تكون متوافقة بين حال المنشئ النفسية والموضوع، واصبحت مقياسا للاهتمام بالشعر، اذ تسهم في اظهار الدفقة الشعورية وهي تتكئ على الصورة الحاملة لمعناها، وبذلك تصبح العلاقة وطيدة بين القافية والصورة لأن القافية تظهر بموسيقاها التعبيرية اثار الانفعال لدى السامع، فتتعاون الصورة الحسية مع ايقاع البيت كاملا ومنه وقع القافية في نفس السامع على ايصال فحوى النص الشعري، وفي الابيات التي سبقت استعمل الشاعر البحر الكامل المقطوع المنتهي بـ(متفاعلْ)، وقد توطن تفعيلاته زحاف الاضمار (متْفاعلن)، فضلا عن علة القطع سابقا ولهذه الامور العروضية علاقة بانفعال النفس الذي ينعكس على المضمون والشكل معا، فكانت الصور الحسية باصطحاب هذا الايقاع الذي خلفه الروي بقافية المتدارك (بوo/0)مدعاة الى جذب المتلقي وغزو شعوره من جانبين:

الاول: الصور الحسية التي عكست حزن الشاعر حيث كانت دموعه مُنهَمَر السحاب الوجداني، وذوبان المهجة بسبب وقفته على اطلال ال البيت (عليهم السلام)، التي ذهب الشاعر اليها عبر زمنه النفسي وهو يغوص في التاريخ متذكرا ال البيت عليهم السلام في تلك الواقعة، فجاءت الصور الحسية (ذاب الجماد لها وشاب غراب) وهي لونية معبرة عن عمق حزن الشاعر، ثم أردفها بصورة حسية اخرى بصرية (كستها الذاريات ملابسا) و(لهن من حلل البلى جلباب)، ومن ثم كانت الصورة الحسية السمعية (بالسنة الرماح خطاب) حاملةً للدلالة الايحائية التي رامها الشاعر.

اما الثاني: فكان الصوت هو مستودع الحزن والاسى، اذ ساعدت العلل والزحافات التي اعترته على منحه وحدة ايقاع صوتية، فهناك ارتباط وثيق بين الصورة الحسية بوصفهاالة المعنى وبين المعنى والصوت من جهة اخرى، وما الاخير الا نتاج المعنى؛لان المعنى هو الذي يرسل نغمة الصوت الى المتلقي، وهو مضمون الصورة في ان واحد.

رابعاً: حسيتها تقود إلى التأويل عن طريق التداعي والتذكر وربط الاسباب بالمسببات


وبسبب نمو الوجدان اليقيني في اثناء كتابة النص وحضور الوعي بقوة، فأن الوظيفة الشعرية تصل إلى أعلى طاقتها في الصورة الحسية الحسينية، ومن جانب آخر تشعر باختفاء الشعراء وراء نصوصهم خوفاً من السلطات المتعاقبة التي منعت ذكر الحسين (عليه السلام). فأصبح الرمز والتأويل طريقين موصلين إلى قصدية الشاعر اذ يقول[22]:

جئت والليل مطبق، تحمل الصحو  *** وفي كل خطوة قنديل
تلتقي بالحسين في اول الشوط   *** وتمضي ومن هداه الدليل
وبما يستفيض تشحذ فكرا      *** ينجلي الشك حوله ويزول
ان شر الخطوب ان يُفقَدُ الداعي   *** ومِلءُ البلاد شعب جهول

كانت الصورة الحسية آخذة بأنفعال الشاعر المستتر خلف الكلمات، لكن الصورة الحسية اللونية اخذت بالذهن الى مسارب التأويل لتسهم في ايضاح واقع الشاعر ورفض الاخير له من خلال التأويل الذي يستشفه المتأمل؛ لان "الصورة شكل الاحساس لدى المبدع وهي مشبعة بوجدانه وانفعاله، وفي الوقت نفسه هي اشارة واضحة في العمل الابداعي لا يمكن للنقد تجاوزها[23]" فحقق التشبيه الضمني ــ وهو ما يستشفه المتلقي بكد الذهن هنا ــ غرض الشاعر، لان التشبيه يجمع إلى (جنب البيان المبالغة والايجاز)[24].

فالشاعر تذكر واقعة الطف وقارن ذلك التخاذل الذي اودى بحياة الحسين واله (عليهم السلام)، غير انه عمل مقارنة بين واقع مظلم أراده الجهلة الطغاة وبين واقع نقي منيرٍ اراده الحسين (عليه السلام) فكان مضاء في كل خطوة بقنديل، وظلت الصورة الحسية ترسم ذلك التأويل والتداعي لدى الشاعر الذي ظهر بنتيجة مفادها ان شر الخطوب فقدان الامة للداعي المصلح، وفوق ذلك يعيش شعبا جهول لا يعبأ لحاضره، وهي مقارنة جميلة هيأتها الصورة الحسية نفذ الشاعر من خلالها الى نقد واقعه بمرارة، فالصورة الحسية رسمتها الكناية بوصفها اداء بيانيا؛لان الاخير " هو مُسْتَوْعَبُ المعنى المرسل الى المتلقي ولكن هذا المُسْتَوْعَب تختلف سماته وقوة تأثيره في السامع بأختلاف ثقافة المنشئ وقوة ابداعه ودربة فكره ومران ممارسته[25]"، ولهذا فان الشاعر الذي يمتاز بهذه الخصيصة هو الذي امتلك ثقافة وقدرة على ربط دلالات القول ولا سيما دلالتي التضمن والالتزام، ليومىء ويعرض ويلوح عن غاية في ازاء قضية ما، لا يريد التصريح عنها، وهذا ما وجدناه في القصائد الحسينية التي قيلت في عصر الطواغيت.

خامسا: كثرة الانزياح السياقي وتخلف الانزياح السكوني


وهذه الأمور قادتهم إلى الابداع؛ لأن الانزياح السياقي رهن بقدرة الابداع الخاص بالاعتماد على الاساليب البيانية والبلاغية، لذا كثر التحول والانتقال الدلالي داخل الصورة المركزية وهو مصطلح نعني به: " المقاطع المستقلة الدالة على وحدة معنوية بغض النظر عن عدد الصور البلاغية والرمزية الموجودة فيها[26].

وهنا تأتي الصورة الحسية مبينةً على وفق أداء خاص بالشاعر، تُسهم ثقافته وموهبته معاً في انتاجها.

بينما تخلّف الانزياح السكوني الذي يوحي إلى اعتماد الشاعر على صور تعارف عليها الوعي الجمعي، فالصورة الحسية في الشعر الحسيني اعطت الشعراء مناخا كافيا للابداع تباروا في فضاءاته ووسموا تجاربهم الشعريه بقدراتهم اللغوية والفنية اذ انفردوا بصياغات اسلوبية ادت في نهاية الامر الى ولادة صور حسية خاصة بهم، لان حاجة النص الى السياق تظهرها خصوصية الشاعر, حين تقدح اول بؤرة بيانية يرتضيها صورة حاملة لافكاره، ومنطوية في سياق تركيبي ذي كلمات استوعبت احاسيسه فنجد مثلا قول الشاعر وهو يعتمد الصورة الحسية على وفق الانزياح السكوني في قوله[27]:

حنانيك سيدتي زينب   *** حنانيك فالجرح مستعذب

حنانيك ان الطريق طويل    *** اليك ومسلكه أصعب

قطعنا الظلام فما اشرقت   *** بافاقنا نجمة، كوكب



فالشاعر اعتمد صورا حسية كان العدول فيها مألوفا، فاستعذاب الجرح وطول الطريق والمسلك الصعب لكنّه قطع الظلام، وصرّح بعدم اشراقة النجمة او الكوكب، كل هذه الصور الحسية مألوفة وكان الانزياح فيها سياقيا، نهل الشاعر من نهر الوعي الجمعي، فضمن نصه تلك الصور التي تحدثت بأسلوب الكناية عبر التعريض عن حال الشاعر، وهو يرجو حنان سيدتنا زينب (عليها السلام)، لتكون شفيعة له عند الله سبحانه كي يتخلص من ذلك التعب وتلك الهموم التي صرح بها في نهاية الامر، ومنها صعوبة المسلك للوصول اليها لانه يقول:

حنانيك ان الطريق طويل    *** إليك ومسلكه أصعب

ولكنه يعول على زيارته اليها قائلا:

ولكن رأيت الرحيل كريما    *** إليك وذلك ما ارغب

وواضحا هنا ان انفعال الشاعر قد ارتفع الى اعلى طاقاته فبدأ يميل الى المباشرة بعد الحسية التي رسمت صوره، وهذا هو ديدن الانزياح السكوني عند الشعراء، فهو نتاج الانفعال ومن ثم التعويل على صور الموروث الجمعي التي توافقت عليها الناس في توضيح احوال الكلام، فالشعراء يتجهون الى العدول المتعارف عليه عند الناس متى اشتد الانفعال، وكانوا ميالين الى ايصال أغرضهم مباشرة.

لكننا نجد الشاعر نفسه في كثير من الاحيان يعتمد الانزياح السياقي هذا الانزياح الذي يعتمد على اداء ابداعي ورؤية مبتكرة وصور حسية تكون خاصة بالشاعر كما في قوله[28]:

أفض في يدي من كل قافيةٍ بحرا   *** لعل بحور الشعر تلهمني شعرا
ورد الى عيني رؤاها فأنها     *** بحبك لازالت مغيبة سكرا
وفك يدي من اسرها فيك ساعة   *** فما رغبت الا على يدك الاسرى
ولم تر انذا منك للحب منبتا   *** ولم تلق وجدا من ضرامه أضرى
لانك ملء الروح تهتز كالرؤى   *** اذا جنحت يوما تعود بها دهرا
(امير بيوت الوحي) لست مغاليا   *** ولاناطقا صحوا ولا قائلا هجرا
حملت بكف (ذو الفقار) مجليا   *** بها كربا محمومة الملتقى نكرا
وفي يديك الاخرى بلاغا ومصحفا  *** به شارحا من كل ذي عنت صدرا

لقد كان الابداع الخاص واضحا اظهرته الصور الحسية التي ارتقت الى مستوى المشاهدة تارة والحركة تارة اخرى، فظهرت العلاقة بين اختيار الصورة الحسية وفكرة الشاعر من جانب، وبين نسق الصورة ورغبة الشاعر في تقديم الاشياء محسوسة شعرا من جانب آخر، لتوفير وظيفة اقناعية للمتلقي، فكان ترابط النص وحفاظ الشاعر على وحدة الشعور اللوني قد أفضييا الى عمل جمالي محسوس أوضح انتماء الشاعر الى قضية الامام (عليه السلام)، متخذا من صوره الحسية حجة وايضاحا لما يعتمل في أطوائه؛ لان الصورة " اعادة انتاج عقلية لذكرى تجربة عاطفية او ادراكية[29]".

وهكذا حقق الشاعر انزياحا سياقيا مقصودا ينسب اليه في صوره الحسية المقصودة مثل (افض في يدي من كل قافية بحرا) و(لانك ملء الروح تهتز كالرؤى) و(لم تر اندى منك للحب منبتا)، فضلا عن الصور الحسية الاخرى التي انبثت في قصيدته، اذ كان العدول المبتكر او الانزياح السياقي هو الذي رسم الصور الحسية، وهذه خصيصة نجدها في الشعر الحسيني، فقد تجتمع الحسية الى جانب العمل الابداعي او الانزياح السياقي، فتأتي الصور الحسية مبتكرة على الرغم من كونها وليدة انفعال وجداني كان المفروض ان يميل الشاعر بموجبه الى الحسية المباشرة، لكننا نجد المفارقة هنا، فثمة انفعال وجداني عال وصور حسية متناسلة داخل المدى البياني وانزياح سياقي او عدول مبتكر.
تأمل اقوال الشعراء[30]:

ناجيت ذكراك حتى عطرت كلمي    *** كأن ذكراك قرآن جرى بفمي
وهزني لك من ارض الحمى وتر   *** جس العواطف في ضرب من النغم
قد ارقص القلب حتى خلته حببا   *** على كؤوس الولا يطفو من الضرم
فرحت ألثم مثوى فيه قد عكفت   *** روح البطولة والاقدام والشمم
قبلته بفمي حتى اسلت به      *** قلبي فضر جته من ادمعي ودمى

فنشاهد الابتكارات للصورة الحسية التي تدل على ابداع الشاعر وانتاجه عدولا خاصا به لم نالفه عند غيره من الشعراء، والامرنفسه نجده في قول الشاعر[31]:

صلت على جسم الحسين سيوفهم  *** فغدا لساجدة الظبا محرابا
ظمأن ذاب فؤادة من غلة   *** لو مست الصخر الاصم لذابا

فهنا عدول خاص بالشاعر اسس لصورتين حسيتين متحركة وبصرية بينت قساوة الاعداء وهمجيتهم بما تعرض له الامام الحسين (عليه السلام)، وتتكرر الرؤية نفسها في قول الشاعر[32]:

فيا ايها الوِتْر في الخالدين   *** فذّا الى الان لم يُشفع
ويا عظةَ الطامحين العظام   *** للاّهين من غدهم قُنّع
تعاليْتَ من مُفْزِعٍ للحتوف  *** فبورك قبرك من مفزع
تلوذ الدهور فمن سُجّدٍ   *** على جانبيه ومِنْ رُكّعِ

فقد اعتمد الشاعر اللغة والمفارقة، فالحسين (عليه السلام) وتر لم يشفع وهو عظة العظام الباحثين عن القناعة والمجد، فكان مرقده (عليه السلام) مفزعا، وبصورة حسية حركية إبداعية إختزل الشاعر معنى الخلود الابدي في بيته:

تلوذ الدهور فمن سُجّدٍ *** على جانبيه ومنُ ركَّعِ

وهكذا يعمد الشعراء الى صنع صور حسية خاصة بهم، غير معتمدين على دلالات الانزياح السكوني الذي تعارف عليه الوعي الجمعي، ومن هنا تتيبن قدرة الشاعر الابداعية وهو يؤسس لصور شعرية جديدة كما في قول الشاعر التي مطلعها[33]:

قف في ربى الطف وانشد رسم من با نوا *** فأنها في جبين الدهر عنوان

فقد جاء بصور حسية ابداعية تبين مكانة اهل البيت عليهم السلام فهم الوية واعلام في النهار، واحبار ورهبان في الليل وذلك دليل على عبادتهم وتقواهم، او هم الاوتاد المقدسة في الارض وهم نجوم السماء وعنوان الخلود، كما في هذين البيتين:

ان لاح صبح.. فأبرار وألوية *** او جن ليل..فأحبار ورهبان
كانوا على الارض اوتادا مقدسة *** فهل سألت سماء الخلد ما كانوا

ويتالق السيد حيدر الحلي حين يكتب عن الحسين عليه السلام، اذ امتازت صوره الحسية بعدول خاص به لم يسبقه اليه شاعر، فهو يصور المشهد الحسيني بانزياحات دلالية تحرص على اعطاء الصورة والصوت مكانة مصحوبة بالشجن فضلاعن التاثير في المتلقي. كما في قوله[34]:

كم لكم من صبية ما أبدلت  *** ثم َمن حاضنةٍ الا رمالا
سل بحجر الحرب ماذا وضعت *** فثديّ الحرب قد كُن نصالا
رضعت من دمها الموت فيا  *** لرضاع عاد بالرغم فصالا

فالصور الحسية هنا اصبحت لسان الغرض الشعري، فاومأت ودلت على هول تلك الحرب ومصائبها، فانتقل الشاعر الى التشخيص كي يتعرف السامع من الحرب نفسها كم كانت عنيفة، فجواب ذلك ان ثدي ّ الحرب قد كن النّصال، اما الراضع فكانت حصته من الدم الموت، ثم ان هذه الرضاعة اصبحت فصالا بالقوة، وهنا المفارقة، ففي وجود الرضاع يتحقق الموت، فابدع الشاعر في ذلك.

سادسا: قدرة الشاعر الحسيني على  إيقاف التلوين الشعوري


أي التداعي، والاكتفاء من الصور الحسية بما يسهم في تعزيز المعنى ولا يدع الحبل على غاربه للمدى البياني الذي هو "عمق البيان واتساعه في بنية النص بما يحمله من دلالات متحققة عبر اساليب البيان المختلفة وايحاء الصورة[35]"، ولا يسمح له ان يستمر بانتاج الصور الحسية داخل نسيج النص.وبذلك قد أسهمت الصورة الحسية إلى حد ما في لمّ الوحدة الموضوعية للنص الحسيني، فكانت ظاهرة تناسل الصورالحسية متحققةً بسبب انفعال الشاعر الوجداني، وتدفق الوجدان اليقيني حين يمرّ الشاعر على مشاهد واقعة الطف فكريا، ويطوف خياله في أروقتها وجدانيا. تأمل قول الشاعر[36]:

كيف العزاء وجثمان الحسين على الـ *** ـرمضاء عارٍ جريح بالثرى تربُ

فقد ركز الشاعر على جسد الحسين الشريف وهو ملقى على الرمضاء، فكانت هذه الصورة الحسية الأولى، ثم ذهب به التداعي أو ما يسمى بالتلوين الشعوري إلى الرأس وهو معلق بيد ميالٍ يطوف به فيقول:

والرأس في رأس ميالٍ يطاف به *** ويقرع السن شامت طربُ

فانتقلت الصورة الثالثة الى ذهن الشاعر مبينة الشامت الطرب وهو ينكث ثنايا الحسين (عليه السلام) بالمسطرة، واستمر التداعي بحسب استذكار الشاعر للمواقف:

فـليت عـين رسـول الله نـاظرة   *** ماذا جرى بعده في معشر نكبوا
كم بعده من خطوب بعدها خطب  *** لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

وعند التامل في التداعي الذي يحصل عند الشعراء حول قضية الحسين (عليه السلام), نجد الشاعر الحسيني مثلما يلم بشتات الماضي, فانه قادر على جمع تلك الصور الحسية في وحدة موضوع تمتاز بالاستهلال الذي يحرص عليه الشاعر الحسيني في ان يجذب انتباه السامع، وهذه خصيصة افاد منها خطباء المنبر الحسيني كما اشرنا اليها في هذا البحث سابقا, والخصيصة الاخرى هي علاقة الاستهلال بنهاية النص، فقلل ذلك من شدة التلوين الشعوري الذي يصاحب الشعراء الحسينيين بسبب شدة الانفعال وطواف خيالاتهم على مشاهد واقعة كربلاء، فأصبحت وحدة الموضوع من المسائل التي يحرص عليها الشاعر الحسيني، فتتناسل لديه التداعيات في نصه لكنه يجعل المفتتح ذا علاقة بخاتمة البيت، كما يقول الشاعر[37]:

كيف السلُوُّ ونار القلب تلتهبُ *** والعينُ خلف قذاها دمعها سربُ

وقال في ختام النص:

فـليت عـين رسـول الله نـاظرة   *** ماذا جرى بعده في معشر نكبوا
كم بعده من خطوب بعدها خطب  *** لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

ولذلك نجد من مميزات النص الحسيني أنّ التداعي في صوره يأتي خادماً وحدة النص, وموضحاً مضمونه بصور حسية يغلب على ترتيبها التتالي المنطقي, أي التسلسلي لأحداث مشاهد واقعة الطف، وهذه تسجل نقطة ابداعٍ للشعراء الحسينيين المبدعين. فهم يتميزون بكبح جماح التداعي وليّ عنقهِ، وايقاف تسلسل الصور الحسية، فضلاً عن قدرتهم في شدّ ولمِّ الوحدة الموضوعية للقصيدة. ولنرصد الجدول التوضيحي للصور الحسية وتلونها الشعوري في النص اعلاه:


موقع البيت
الصورة الحسية الاولى
التلوين الشعوري (التداعي)
نوع الصورة
الاستهلال

كيف السلُوُّ ونار القلب تلتهبُ
التركيز على ما يعتملُ في وجدان الشاعر من حرقةٍ بسبب ما مرَّ بالحسين (عليه السلام)
حسية وجدانية
الاستهلال

والعينُ خلف قذاها دمعها سربُ
التركيز على كثرة الدمع النازل
حسية حركية
الغرض
وجثمان الحسين على الرمضاء عارٍ
التركيز والتذكر للجسد الشريف بهذه الهيأة
حسية بصرية
الغرض
جسد الحسين جريحٌ بالثرى تربُ
التركيز والتذكر للجسد الشريف بهذه الهيأة
حسية بصرية
الغرض
راس الحسين يطاف به
انتقل التداعي الى راس الحسين بهذه الصورة
حسية بصرية حركية
الغرض
ويقرع السن شامت طربُ
انتقل التداعي الى مجلس يزيد ونكثه ثنايا الحسين
حسية بصرية حركية
الغرض
فـليت عـين رسـول الله نـاظرة
انتقل التداعي بالتمني الى نظرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لسبايا اهل بيته
حسية بصرية
الخاتمة

كم بعده من خطوب بعدها خطب، لو كان شاهدها لم تكثر الخطب
انتقل التداعي الى ما المَّ بالامة من المصائب ولو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً لم يحصل ذلك.
حسية وجدانية


سابعا: للصورة الحسية الحسينية وظائف فنية وإبلاغية


فهي تحقق تواصلاً عبر خصيصتي التوقع والاحتمال، إذ إن القصيدة التي ينشدها الشاعر على المنبر الحسيني رفعت من هاتين الخصيصتين، لانشداد المتلقي ذهنياً ووجدانياً ومتابعة دلالة الكلمات، فأنك تستطيع أن تتوقع وتحتمل اللفظ والدلالة معاً، فيحقق الشاعر لك ذلك بما يصنع معك تواصلاً لاسيما عبر جلوس القافية في محلها الدلالي. تأمل قول الشاعر[38]:

وقف الخلود بباب مجدك طالبا *** فوهبته نحراً، تفرّد واهبا
وتزاحمت قيم الفداء سواغبا *** من كف غيثك يحتسين مشاربا
وسعى اليك الخلد نورا راجلا *** يرجو الشروق، وظل غيرك غائبا

ان العلاقة وطيدة بين صور الايقاع المختلفة والصورة الحسية والقافية فتناغم المستوى الصوتي مع الفكرة امر مهم بالنسبة للشاعر، وتأتي القافية لبنةً مهمةً في بناء الايقاع الخارجي، لان القافية لها دور مهم في اقامة الوزن واختيار المعنى المقصود؛ إذْ إن من " المعاني ما تتمكن في نظمه في قافية ولا تتمكن منه في اخرى[39]", ومن هنا فأن اختيار القافية في كلمة (طالبا) ودلالة كلمة(وهبته) التي هي اس في المضمون الشعري لهذا القول قد توافقا، والأمر نفسه بين (سواغبا ومشاربا) وبين (الشروق) و(غائبا) كل ذلك اسهم في عملية التوقع والاحتمال لدى المتلقى.


المفردة
التوقع والاحتمال
الدلالة
وقف
في الباب
الطلب
طالبا
الرد واهبا
الكرم والعطاء
سواغبا
مشاربا
الارواء وازالة العطش
سعى الخلد
راجلا
الاحترام والتوقير لذكر الحسين (عليه السلام)
يرجو الشروق
ظل غيرك غائباً
بقاء ذكرك لانه الحق


وبذلك تأتي الوظيفة الابلاغية معنوية تومىء وتدلي على معان سامية خلفتها معركة الطف، وربما كانت الوظيفة للصورة الحسية تنحى منحى اخر غير الوظيفة الدلالية، مثل الوظيفة السيميائية المصحوبة بالحوار، والتي تأخذ بالمتلقي الى مصاف التصور والعيش في اطار القضية الحسينية فكرا واحساسا وتصورا كما هي الحال في نص الشاعر[40]:

فظل وحيدا واحد العصر في الوغى  *** نصيراه فيها سمهريٌّ ومِنْصَلُ 
وشد على قلب الكتيبة مهره   *** فراحت ثُباً مثل المها تتجفل
تحييّ القنا رَحْباً وقد ضاقتْ الفضا    *** وتُوسِعُها ريّاً وقلبُكَ مَشْعَلُ
وما زال يفري النحر والثغر سيفه    *** فيعقل ضرغاما واخر يُرسِلُ
الى ان اتاه في الحشى سهمُ مارقٍ   *** فخرَّ فَقَلَّ في يَذْبُلٍ قَلَّ يذبل
وادبر ينحو المحصنات حصانة   *** يحن ومن عظم البلية يعْوِلُ
فاقبَلْنَ رباتُ الحجالِ وللاسى   *** تفاصيل لايحصى لهن مُفَصِلّ
فواحدة تحنو عليه تضمّه     *** واخرى تُفدّيِه وأخْرى تُقبّلُ
واخرى دهاها فادح الخطب بغتةً   *** فأذهلها والخَطْبُ يُدْهي ويُذهِلُ

فكانت هذه الصور الحسية المرسومة بوجدان عاطفي صادق اليقين قد اسست لحوار تالٍ، فالصور الحسية كانت صوراً جزئية التحمت كلها في صورة كلية مركبة كما يأتي:


الصورة الاولى
الصورة الثانية
الصورة الثالثة
الوظيفة
مشهد وقوف الحسين (عليه السلام) وحيدا واحد العصر
حَمْلَتُه على قلب الكتيبة بمهر مثل المها تتجفل
صورة الحسين وهو يحيّي القنا اذ ضاقت الفضا وقلب الحسين مشعل غير انه روى الارض وهذه تورية صنعت بالمفارقة بين الرواء والعطش
فنية ابلاغية تخبر عن حال الحسين بمشهد صوري حسي حركي

وهذه الصورة الجزئية الحسية الاولى ادت الى صورة حسية جزئية ثانية بينت حال الحسين (عليه السلام) وهو يعقل فارسا ويرسل اخر، حتى انبأت الصورة الحسية الحركية البصرية عن مجىء سهم مارق فكأنه جبل يذبل خر على الارض، وهذه الصورة الحسية الجزئية ايضا هيأت لصورة جزئية ثالثة تبين رجوع المهر نحو المخيم وهو يحن، فكانت هذه الصورة الحسية السمعية معوضا عن حال الاخبار بقضية الحسين وموقفه في المعركة، ثم بدأت صورة حسية أسست لمشهد صوري حركي يبين اقبال بنات رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) الى مصرع الامام الحسين (عليه السلام) وقد اعطى الشاعر الصفة الحركية لكل واحدة منهن في الآتي:

فواحدة تحنو عليه تضّمه     *** وأخرى عليه بالرداء تظلّلُ
واخرى بفيض النحر تصبغ وجهها  *** واخرى لما قد نالها ليس تَعْقِلُ
واخرى على خوف تلوذ بجنبه   *** واخرى تفديه واخرى تقبّلُ
واخرى دهاها فادح الخطب بغتة   *** فأذهلها والخطب يدهي ويذهلُ
تَكِفّ الدِما عَنْهُ وتُهْمِلُ مثلَهُ   *** دموعاً فما زالت تكِفُّ وتُهْمِلُ

هذه الصور الحسية الحركية بعد ان قامت بوظيفة فنية وسيمائية اعتمدت على البصر والحركة واللون في انتاج قوامها، هيأت الى ظهور الوظيفة الحوارية للصورة الحسية، اذ تنقلت المشاهد بين الصور الحسية المتدرجة من البصر الى الحركة ثم الى اللون، وانتهت الى وظيفة الصور الحسية الحوارية، اذ اصبحت للنص وحدة موضوعية أسهمت في شد الصور الحسية ترابطا ودلالة، وقوّت اواصرها فانتهت الى الحوار الآتي:

وجاءت لشمرٍ زينبُ ابنةُ فاطمٍ   *** تُؤنِّبُهُ عن أمره وتُعَذِّلُ
تدافِعُهُ بالكفّ طوْرا وتارةً      *** اليه بطه جدِّها تَتَوسّلُ
تقول له ياشمرُ هذا ابن أحمَد   *** وشبلُ عليِّ المرتضى المُتَفَضِّلُ
ايا شمر مهما كُنْتَ في الناس جاهلا  *** فَمِثْلَ حسين لَسْتَ يا شمرُ تجهلُ

وبعد ان انتهى الحوار وكان عقيما مع ذلك المتعنت الفض الجاهل الكافر، اذ غابت عنه الانسانية, انتقلت الصور الحسية لتؤدي وظيفة دلالية بينت شيئين هما قساوة ذلك المتجبر الطاغية من جهة، وحركة السماء والارض وما عم في الكون بعد مقتل الحسين عليه السلام من جهة اخرى، اذ مطرت السماء دما كما تذكر الروايات في كل انحاء العالم، فقد ذكرت بعض المصادر ان السماء مطرت دما في يوم مقتل الحسين عليه السلام، اذ ذُكِرَ ذلك في كتاب (الأنكلوساكسون كرونكل) The Anglo Saxon Chronicle والذي كتبه في سنة 1954، وهو يحتوي على الاحداث التاريخية التي مرت بها بريطانيا منذ عهد المسيح عليه السلام وفيه يذكر المؤلف احداث كل سنة، وقد ذكر احداث سنة 685 ميلادية التي تقابل سنة 61 هجرية وهي سنة شهادة الامام الحسين (عليه السلام)، فيذكر المؤلف ان في هذه السنة مطرت السماء دما...واصبح الناس في بريطانيا فوجدوا الحليب والزبد تحولا الى دم([41])، وعودا للقصيدة فقد كان المشهد الاخير للصور الحسية قد جمع بين ذبح الحسين وزلزلة الارض وارتجاف السماء، كما في قول الشاعر:-

فَمَرَّ يحزُّ النحرَ غيرَ مراقبٍ    *** من الله لايخشى ولا يتوجَّلُ
فَزُلْزِلتِ الارضون وارتجت السما  *** وكادت له افلاكُها تَتَعَطَّلُ

وهذا ما الفناه في القصيدة الحسينية لاسيما الحسية منها بأنها تتميز بوظائف ابلاغية قائمة على الفنية والقدرة الاقناعية للمتلقي، اذ يعتمد الاخير على الحس والادراك والتأويل في ربط الصورة الحسية بغاياتها.

ثامنا: ظاهرة الشجن وإنسانية النص الحسيني


إن سمة النواح سمة جليلة في النفس الإنسانية، وهي معبر قوي عن ارتباط الإنسان بقضيته عن طريق صدق اليقين الذي يمنح الشاعر والمتلقي معاً لذة الوجع الشفيف المؤدي إلى ثورة الاحاسيس، ومنذ مقتل الحسين (عليه السلام) (60هـ) توجع الضمير الإنساني، وانساب الشجن في عروق الزمن وظل مهيمنا على الوعي الجمعي حتى يومنا هذا.

ولمّا كان الإنسان هو الإنسان في كل مكان بوصفه مستقر الاحاسيس والعواطف، وهو ذو موقف من كل ما يخدش أو يُعَكُّر صفو الإنسانية، فأن قضية الحسين (عليه السلام) تناغمت مع الوعي الجمعي الإنساني، وأصبح النص الحسيني محافظاً على الوحدة الحيوية أو(وحدة الشعور) حتى وان تُرجِمَ نص لشاعر أجنبي كتب عن قضية الحسين (عليه السلام)، فالعجيب أن تأثير النص وجدانياً في المتلقي لا يفقد قدرته أو رونق احساسه حتى بالترجمة، وهذا دليل على إنسانية النص الحسيني وعالميته في آن واحد. وهذا ما أكده الشعراء المسيح.

فلنتأمل ظاهرة الشجن التي ظلت عابرة الازمنة الى قصائد الشعراء في كل مكان وزمان، فمثلا يقول الشاعر[42]:

أنعاه للغارة الشعواء قد فجعت *** بمن يعزُّ على الغارات منعاهُ
ابكيه للّيلةِ الضلماء يَقْطَعُها  *** تَهَجُّدا وهو باكٍ في مُصَلاّهُ

فالشاعر اتكأ على الف الاطلاق والهاء لتكون منفذا ومتنفسا لآهاته وهو يتذكر مصاب الامام (عليه السلام)، فكان الشجن يفوح من فم الابيات وكانت الصور الحسية اللونية والسمعية عبر مفردتي (الظلماء) و(باك) ترسم لنا حالة الامام (عليه السلام)، وتومىء الى الزهد والتقاة وانقطاعه لله سبحانه وتعالى، فكيف يقتل؟ هذا ما تساءله الشاعر، ونجد ظاهرة الشجن عند آخر فهو يقول[43]:

ياغريب الديار قلبي على الغربة *** جاث جنب الضريح مقيم
كلما طاف موكب انا ياجد  *** مع الحشد نادب مكلوم
فوق وجهي وقائع الطف تبدو *** واضحات، وفي عيوني تغيم

فالصورة الحسية اسهمت في اظهار ظاهرة الشجن وهي تبين بحركيتها جثي ذلك الرجل الذي اعترته الغربة جنب القبر الشريف، ثم بحركة حسية حركية اخرى تبين طواف ذلك الغريب المجروح روحيا مع الموكب في حشد وهو يتذكر واقعة الطف وما يبثه من آهات، وما تمطره عيونه من غيوم الحزن التي ظللته، كل تلك الصور الحسية اسهمت في انسياب ظاهرة الشجن عند الشاعر، واظهار لواعجه الانسانية وهي غير محدودة في شخص من دون اخر، لان العواطف الانسانية هي هي لكل انسان وفي كل زمان؛ ولان " الاستجابة الوجدانية لدى الفنان مرهونة بما يتأثر به في محيطه، فيكون حصيلة ذلك ما يتم من توافق بين العناصر الذاتية الداخلية التي يشعر بها مع ما اكتسبه من عوامل اخرى خارجية موصوفة، يدخل عليها كثيرا من السمات والخصائص الفنية[44]".

وبذلك تكون الصورة الحسية انعكاسا لاشتباك الداخل مع الخارج تحت اطار وحدة الصراع أي الموقف من الوجود، وعلى وفق ذلك فان ظاهرة الشجن هي امتداد نقي لمشاعر صادقة يمارس الشاعر من خلالها تطهير نفسه، لان التطهير يكون بسبب «إثارة الرحمة والخوف» والانسان في حاجة الى معاناة المشاعر القوية الناتجة من الخوف والرحمة والحماسة التي تثير المأساة عند الانسان فَتعدّل الانفعالات من دون ان تُمحى، وبها يكسب المرء دِرْبةً وصلابةً واعتدالاً ويتزود بها للحياة الواقعية ويقوم عواطفه وينزع منها ما هو ضار[45].

وبذلك يحقق الشاعر الحسيني تفاعلا مع النص من خلال استنفارقواه العاطفية بسبب وحدة الصرا ع أي الموقف من الوجود.


ـــــــــــــــــــ
[1] من لايحضره الخطيب: 259.
[2] ديوان الفرطوسي 1: 72.
[3] فن الشعر، هوراس، ترجمة د- لويس عوض 24
[4] الديوان مصطفى جمال الدين 2/164
[5] اثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية د. صباح عباس عنوز/128
[6] ثقافة الناقد الادبي، د.محمد النويهي/ 74
[7] الصورة الفنية في المثل القراني د. محمد حسين علي الصغير: /37.
[8] ديوان جميل حيدر، المكتبة الادبية المختصة: 254
[9] الصورة الشعرية س د ي لويس، ترجمة احمد نصيف الجنابي: 44.
[10] ايماءة الهمس دراسات نقدية تطبيقة، د. صباح عباس عنوز: 93
[11] ديوان عندما تتمتم عيون المغفرة: 4 4.
[12] فن الشعر، هوراس: 24
[13] ظ: مبادىء النقد الادبي، ريتشاردز: 17.
[14] ظ:دور الكلمة في اللغة:81.
[15] ظ:نظرية البنائية:393.
[16] ظ: منهاج البلغاء وسراج الادباء 263
[17] اثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية، د- صباح عباس عنوز: 220.
[18] المصدر نفسه: 225
[19] منهاج البلغاء، 268.
[20] دور الكلمة في اللغة، 81.
[21] ديوان السيد موسى الطالقاني، 48.
[22] ديواني، صالح الظالمي: 199- 200.
[23] الصورة الفنية بين حسيتها وايقاع المعنى /15.
[24] اصول البيان العربي / 79.
[25] الاداء البياني بين التأويل وتفسير النص القرآني: 90.
[26] البنيات الدالة في شعر امل دنقل /360.
[27] ديوان جابر الجابري: 28.
[28] ديوان جابر الجابري: 247ـ249.
[29] نظرية الادب، أوستن وارين، رينيه ويلك: 240.
[30] ديوان الفرطوسي: 1 / 70.
[31] ديوان السيد رضا الهندي:43.
[32] ديوان الجواهري: 3/231.
[33] ديوان اهل البيت، د.محمد حسين علي الصغير / 182.
[34] ديوان سيد حيدر الحلي:1/103.
[35] أثر البواعث في تكوين الدلالة، د.صباح عنوز/34.
[36] ديوان السيد محمد مهدي بحر العلوم: 52
[37] المصدر نفسه: 51
[38] عندما تتمتم عيون المغفرة، د. صباح عباس عنوز: 25.
[39] طبقات فحولة الشعراء، ابن سلام الجمحي: 1/104.
[40] ديوان الكعبي: 104.
[41]. the anglo saxon chronice p 28.
[42] ديوان الفرطوسي: 68.
[43] تراتيل في احباب الله: عبد الهادي الحكيم:2/ 227
[44] الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي: 124
[45] ظ: النقد الادبي الحديث 82-83.

إرسال تعليق