الغيبة الصغرى أسبابها ونتائجها

بقلم الشيخ وسام البلداوي


خلافة الأئمة المعصومين عليهم السلام

كان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الحجة على الخلق الى أن أنقضت أيامه المباركة والتحق بالرفيق الأعلى، وباب الحجة لم يغلق واستمر بوجود الأئمة الخلفاء من بعده الذين نصت أحاديث كثيرة على إمامتهم وهي متواترة عند الفريقين منها:

أولا: عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «اثنا عشر إماما من آل محمد عليهم السلام كلهم محدثون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام منهم» (الخصال للشيخ الصدوق: ص480).

ثانيا: عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم» (الخصال للشيخ الصدوق: ص480).

ثالثا: وعن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمة أبرار. قال: يا محمد فسمهم لي؟ قال: نعم إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى فابنه محمد، فإذا مضى فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فبعده ابنه الحجة بن الحسن بن علي. فهذه اثنا عشر إماما على عدد نقباء بني إسرائيل» (كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 13 ـ 14).

رابعا: وفي مصادر المخالفين، عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: «لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، لا تضرهم عداوة من عاداهم» (فتح الباري لابن حجر: ج 13/ ص 182).

خامسا: وفي مصادر المخالفين ايضا عن جابر بن سمرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يضر هذا الدين من ناوأه حتى يقوم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (المعجم الكبير ـ الطبراني: ج 2 / ص 208).

وظل هؤلاء الحجج يتلو بعضهم بعضاً، ويحذو بعضهم حذو من كان قبله ويحذو كلهم حذو الرسول، لا يموت منهم حجة أو يقتل أو يغيب إلا ونصب من بعده من يخلفه في مقامه وينوبه في منزلته، إلى أن انتهى الأمر وأوكلت هذه المنزلة ـ منزلة الحجة ـ إلى الإمام الثاني عشر سلام الله عليه وعليهم أجمعين، فقام بأعباء الرسالة وثقل المسؤولية على رغم تكالب الظالمين واستماتتهم على إطفاء نور الله سبحانه وتعالى وإسكات صوت السماء المذكر بالله والحافظ لشرائعه وأحكامه.

ويوم بعد يوم صارت المحنة تشتد على حجة الله الثاني عشر أرواحنا له الفداء والخناق عليه يضيق من قبل فراعنة عصره وطواغيت زمانه حتى خيف عليه القتل على أيديهم، وهوا ما سيؤدي إلى فقدان الحجة من على الأرض، والذي سيؤدي بدوره إلى أن تصاب الشريعة الإلهية بخلل يجعلها لا تستكمل أهدافها بالكامل.
بـدء الـغـيـبـة الـصـغـرى وأسـبـابـهـا

فكان وبناءً على هذه الظروف التي عاشها الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي أرواحنا فداه، لابد أن تطرح السماء مخططاً جديداً يحفظ سلامة الحجة المهدي عليه السلام من أي اعتداء محتمل فكان القرار الإلهي الحاسم ببدأ الغيبة والاحتجاب عن الناس.

وفي رسالته سلام الله عليه للشيخ المفيد خير شاهد على أن مخطط الغيبة والاحتجاب إنما وقع نتيجة تهديد دول الظالمين والمارقين لشخص الإمام عليه السلام فقد جاء في بعض فقرات تلك الرسالة ما يلي: «... نحن وإن كنا ناوين ــ ثاوين ــ بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين...» (تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: ج1/ ص38 . الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج2/ ص323).

كما روي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابد للغلام من غيبة فقيل له ولم يا رسول الله قال: يخاف القتل» (علل الشرائع ـ الشيخ الصدوق: ج1/ ص 243).

وعن زرارة قـال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن للقائم غيبة قبل ظهوره، قلـت: ولـم؟ قـال: يخاف وأومأ بيده إلى بطنه، قال زرارة: يعني القتل» (كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص 481).

ولكن الظروف يومئذ كانت تستدعي أن تكون الغيبة جزئية غير تامة لاعتبارين:

الأول: هو تهيئة الذهنية الشيعية لتلك الغيبة التي ستطول وتمتد الى وقت ظهوره، وسبب هذه التهيئة هو أن القاعدة الشيعية يومئذ لم تكن قد اعتادت على فقد المعصوم من بين أظهرهم بشكل تام وكامل فمن أجل ترويضهم على غيبة أطول وأشد كان لابد من الاحتجاب الجزئي مع وضع خطوط ارتباط وقنوات يمكن من خلالها الوصول الى الإمام المعصوم، وحول الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى يقول السيد محمد الصدر: «هو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس. إذ لو بدأ المهدي عليه السلام بالغيبة المطلقة فجأة وبدون إنذار وإرهاص لما أمكن إثبات وجوده في التاريخ، فتنقطع حجة اللّه‏ على عباده» (تاريخ الغيبة الكبرى: ج2، ص32، ط: دار التعارف).

ويلتقي معه السيد محمد باقر الصدر بقوله: «إن القواعد الشعبية للإمامة الشيعية كانت على إتصال بالإمام في كل عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة. فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سببت هذه الغيبة المفاجأة الإحساس بفراغ دفعي هائل، قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله. فكان لا بد من تمهيد لهذه الغيبة، لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها» (بحث حول المهدي للسيد محمد باقر الصدر).

الاعتبار الثاني: علم الله سبحانه وكذلك المعصوم عليهم السلام بأن دولة الظالمين في تلك المرحلة لم تكن لتشكل خطراً عظيما وكبيرا بحيث يستدعي الغيبة التامة والاحتجاب الكامل.

سبب تنصيب السفراء والنواب الأربعة عليهم الرحمة

وكان مقتضى تلك المرحلة يستدعي من الإمام الحجة عليه السلام أن يضع لشيعته وأوليائه خلال فترة غيبته الصغرى حجة ظاهرة للعيان ليستطيعوا من خلالها الارتباط بالإمام المعصوم عليه السلام، وليتسنى من خلال تلك الحجج تبليغ الأوامر العليا للقيادة المعصومة، وتوجيه من يحتاج منهم للتوجيه لما فيه خيره وصلاحه، وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل والمعضلات الاجتماعية والفكرية، وبمعنى أخر ممارسة كل مهام الإمامة أو أغلبها بواسطة السفراء.

فكان السفراء الأربعة في عصر الغيبة الصغرى هم الواسطة والحجة على الناس والامتداد الذي استطاع المعصوم من خلاله ممارسة دوره القيادي والتوجيهي، فكانوا حبل الوصل ما بين الإمام عليه السلام وقاعدته وأتباعه من المؤمنين، والمرآة التي تعكس صورة المعصوم وصوته وتفاعله مع واقع الحياة.

وقد استمرت هذه الفترة المسماة بالغيبة الصغرى مدة سبعون عاما تقريبا تولى فيها أربعة من السفراء هم كل من:

أولا: عثمان بن سعيد العمري الأسدي

كان وكيلا لثلاثة من الأئمة عليهم السلام وهم كل من الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام، والإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، والإمام المهدي أرواحنا فداه، وهو جليل القدر، ثقة له منزلة عظيمة عند الطائفة، وربما لقب بالعسكري لأنه من عسكر سر من رأى (بحار الأنوار: ج51، ص344 )،وربما قيل له السمان لأنه كان يتجر بالسمن تغطية على الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا الأئمة عليهم السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال، أنفذوا إلى أبى عمرو ليجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى إليهم تقية وخوفا (راجع امصدر السابق)، توفى بعد خمس سنوات من استلامه السـفـارة، ودفن في بغداد ومكانه مشهور عند الشيعة.

ثانيا: محمد بن عثمان بن سعيد العمري

وهو ابن السفير الأول، ويكنى أبا جعفر، له منزلة جليلة بعد أبيه عند الإمام صاحب الزمان عليه السلام . حيث استلم الشيخ محمد بن عثمان العمري السفارة بعد وفاة أبيه، وقام مقامه بناء على كتاب التعزية والتولية الصادر عن الإمام المهدي عليه السلام والذي جاء فيه:

«إنا لله وإنا إليه راجعون تسليما لأمره ورضا بقضائه عاش أبوك سعيدا ومات حميدا فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم السلام، فلم يزل مجتهدا في أمرهم ساعيا فيما يقربه إلى الله عز وجل وإليهم، نضر الله وجهه وأقـاله عـثرتـه... أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء رزئت ورزئنا وأوحشك فراقه وأوحشنا فسره الله في منقلبه، وكان من كمال سعادته أن رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه، وأقول الحمد لله فان الأنفس طيبة بمكانك، وما جعله الله عز وجل فيك وعندك، أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك وكان لك وليا وحـافظا وراعـيـا» (كتاب الغيبة للشيخ الطوسي:ص361. الاحتجاج للشيخ الطبرسي:ج2/ص301).

كما خرج من الإمام عليه السلام توقيعا لأحد شيعته وخـواصـه جـاء فـيـه: «والابن وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب رضي الله عنه وأرضاه ونضر وجهه، يجري عندنا مجراه، ويسد مسده وعن أمرنا يأمر الابن، وبه يعمل تولاه الله فانته إلى قوله» (كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: ص 362. بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج51/ ص349).

مات في آخر جمادى الأولى سنة خمس وثلاثمائة، وقيل سنة أربع و ثلاثمائة، وقد تولى السفارة نحوا من خمسين سنة يحمل الناس إليه أموالهم ويخرج إليهم التوقيعات بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن العسكري عليه السلام.

ثالثا: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي

فلما حضرت الوفاة للسفير الثاني رحمه الله جمع وجوه الشيعة في داره وقال لهم: «إن حدث علي حدث الموت، فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي فارجعوا إليه وعولوا في أموركم عليه» (كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: ص371 . بحار الأنوار: ج51/ص355).

توفي الحسين بن روح في شعبان سنة ست وعشرين وثلاثمائة للهجرة،‍ وله قبر يزار في منطقة سوق الشورجة بجانب الرصافة ببغداد.

رابعا: علي بن محمد السمري

المكنى بأبي الحسن، تولى السفارة من حين وفاة أبى القاسم بن روح عام 326 إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام 329 في النصف من شعبان، فتكون مدة سفارته ثلاثة أعوام وعلى يديه خرج التوقيع من الإمام المهدي عليه السلام بوقف السفارة الخاصة وبدء الغيبة الكبرى.



إرسال تعليق