البواعث النفسية لتخلي أهل الكوفة عن أهل البيت عليهم السلام

بقلم السيد نبيل الحسني
لقد دلت مجموعة من البواعث النفسية إلى ظهور بعض الأنماط السلوكية لمجتمع الكوفة دفعتهم للتخلي عن أهل البيت عليهم السلام، وهذه الدوافع والبواعث النفسية قد أوضحها الإمام الحسين عليه السلام في دعائه المعروف يوم عاشوراء حيث قال:

«تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا لكم! حين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفا كان في أيدينا، وحمشتم علينا نارا أضرمناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلبا على أوليائكم، ويدا على أعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا إليكم، فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفها وضلة، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة! وبقية الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومطفئي السنن، ومؤاخي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وعصاة الإمام، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.

أفهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون!! أجل والله، خذل فيكم معروف، نبتت عليه أصولكم، واتزرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلة للغاصب» (الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 24).

وقد أظهر الدعاء مجموعة البواعث والمكونات التي شكلت ثقافة مجتمع الكوفة والتي أدت به إلى التصدع والانهيار ، وهي كالآتي:


الباعث النفسي الأول: الإسراع إلى الدنيا

حينما يستعرض الإمام الحسين عليه السلام العوامل التي أدت بهؤلاء إلى ترك أهل البيت عليهم السلام؛ فإنه يبدأ أولا برفع الأعذار قبل أن يعتذر معتذر في سلوكه هذا السلوك فيقول عليه السلام: «تركتمونا والسيف مشيم».

أي لم يكن السبب في ترككم لنا هو السيف والقتل، «والجأش طامن»، أي: القلب أو الفؤاد آمن، بمعنى لم تتعرضوا لموارد الخوف التي أجبرتكم على تركنا؛ «والرأي لما يستحصف»، أي: لم تتبدل عقولكم.

«ولكن» يستدرك عليه السلام هذه العوامل فيتبعها ببيان للعوامل الحقيقية التي كانت وراء تركهم لأهل البيت عليهم السلام فيقول: «ولكن، أسرعتم إليها كطيرة الدبا».

وهنا بيان غاية في الجمال والروعة، فقد وصف عليه السلام الحالة السلوكية للمجتمع في التوجه إلى السلطة فشبهها بالجراد وهو (الدبا) (والدبا: الجَرَاد قبل أن يطير، وقيل: هو نوع يشبه الجراد. لسان العرب لابن منظور: ج14، ص 248).

فقرن بين سلوك هؤلاء وبين سلوك الجراد في الوصول إلى المقصود ببيان وصفي جميل يظهر صفاتٍ مشتركة بين القاصدين مع وحدة الهدف لكل منهما.

فهؤلاء يسرعون مشيا لغرض قضم ما يمكن قضمه من حواشي السلطة، والجراد يسرع في مشيه لقضم ما يراه من فتات العفن أو الورق.

والجامع المشترك في هذا المشي هو النفاق والاختلاس؛ بمعنى لو أسرعوا وتطايروا لانتبه الناس إليهم ولشخصوا هدفهم ولربما مع افتضاحهم وجدوا منافسا لهم فيجري إلى مقصدهم ومبتغاهم آخرون، فينحصر ما يريدون ويقل ما يطلبون.

وهو من جانب آخر يكشف عن احتفاظهم بمقدار من التحسب والحذر من الوقوع من أعين الناس بمعنى توفر مقدار من الحصانة السلوكية في الإجهار بالآثام، أي ما زال في النفوس مقدار ولو ضئيل من الحياء، وهو المانع من التجاهر بالآثام.

أما في الحالة الثانية، أي العامل الثاني فيدل الوصف البياني لسيد الشهداء عليه السلام انعدام الحياء من هذه النفوس فأدى إلى المغايرة في السلوك.

فقال عليه السلام: «وتداعيتم عليها كتهافت الفراش».


الباعث النفسي الثاني: التهافت على السلطة

في بيانه عليه السلام للعامل الثاني في ترك هؤلاء لأهل البيت عليهم السلام يشير إلى مستوى متطور في الحالة النفسية والسلوكية لهؤلاء؛ إلا أنه عليه السلام لم يخرج من الأسلوب الوصفي في التماثل فيما بين الحشرات وهؤلاء، فحينما يفقد الإنسان الإحساس بإنسانيته، ويخضع لشهواته وغرائزه الحيوانية، يتحول في السلوكيات إلى تلك الأنواع المختلفة من الدواب، فهو بين تماثل في الثدييات أو التسافل إلى الحشرات فيصل إلى أخسها طبعا وأرذلها مزاجا.

وهنا: يماثل عليه السلام في أسلوبه الوصفي للدوافع السلوكية بين الفراش؛ وهو كناية عن الحشرات الطائرة ولاسيما الجراد في تهافتها بأعداد كبيرة على الزرع؛ وبين أولئك الذين أصبحوا حالة سلوكية واحدة، أي تحول المجتمع في المرحلة الثانية في التدني إلى مستوى ثقافي واحد.

ولذا قال عليه السلام: «فتداعيتم» أي أصبحوا من حيث البنيوية العقلية والأسس الأنثروبولوجية على ثقافة واحدة وهي أن يدعو بعضهم بعضا بالطبائع لا بالقول أو الإشارة؛ أي: أصبحوا على طبيعة واحدة كطبيعة الفراش حينما يتهافت على شجرة مخضرة، فكل هذه المجاميع من الفراش لم تنادِ أحداها الأخرى وإنما طبيعتها الواحدة هي الكفيلة في هذا التهافت؛ وكذلك أصبح هؤلاء.

ولذلك: هم في هذه المرحلة النفسية والسلوكية لم يراعوا الانتباه لهم كما في الحالة الأولى؛ لأنهم فقدوا الإحساس بالحياة فتحولوا إلى دواب؛ بل تجروا على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأفعالهم وسلوكياتهم.


الباعث النفسي الثالث: نقض ما حملوا

هذه الكلمة استوقفتني كثيرا وكررت السؤال على نفسي قائلا: ما الأمر الذي نقضوه، أهي الدنيا أم السلطة أم البيعة؟.

إذا كانت الدنيا فهذه غايتهم، وإذا كانت السلطة فهذه وسيلتهم وكلتاهما تحولان دون تحقق النقض، وإذا كانت البيعة لأهل البيت عليهم السلام فإن السياق البلاغي والمعنى الدلالي لا يتسق مع حركة الدبا وتطاير الفراش.

على الرغم من وجود لفظ آخر للخطبة جاء فيها: «ولكن أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا» (الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 24).

ثم وجدت من خلال الوصف التماثلي بين سلوكيات هذه المجاميع البشرية وبين الحشرات الذي ورد في خطبته عليه السلام: أن الوصف الأول والثاني دار مدار الحشرة بين كونها جرادة في الحالة الأولى، وبين كونها فراشة في الحالة الثانية أي: أن هذه الحشرات مما جبلت عليه طبائعها هو أن تنقض ما جاءت من أجله، بمعنى أنها تسبب تلف الورقة النباتية فتأكل بعضاً منها وتنتقل إلى ورقة أخرى فتعيث في الأرض الفساد وتنشر الدمار.

بمعنى أدق: أصبحوا في المرحلة الثالثة من سلوكياتهم ومكونهم الثقافي مفسدين في الأرض، قد نقضوا ما سعوا من أجله وهو الدنيا التي لا تعمر إلا بالإصلاح.

فإصلاح الأرض يكون بالزرع وفساد الزرع يكون بالجراد، ولو يدرك الجراد فساد فعله لما قدم على إتلاف الزرع لكن الطباع قد جبلت على الفساد.

وكذلك هؤلاء فقد تحولوا بفعل تركهم لأهل البيت عليهم السلام ونقضهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيعته التي أخذها منهم لعلي بن أبي طالب في غدير خم، قد تحولوا من الطبيعة الإنسانية التي مبتغاها وطبعها الإصلاح إلى الطبيعة الحيوانية الرذيلة التي مبتغاها الفساد والدمار.

ولذلك: نقضوا هذه الطباع الإنسانية التي تبتغي الإصلاح وتحولوا إلى أولئك الطواغيت ليعيثوا في الأرض الفساد، لأن المكون الطبائعي لكليهما أصبح واحدا.


المكونات النشوئية لثقافة محاربة أهل البيت عليهم السلام وقتالهم

بعد بيانه عليه السلام للبواعث النفسية والأنماط السلوكية التي أدت إلى ترك مقاتلة الكوفة لأهل البيت عليهم السلام والتوجه إلى الحكام الظلمة والطواغيت المتجبرة، ينعطف الإمام الحسين عليه السلام في بيانه للأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية لمجتمع الكوفة إلى بيان المكونات النشوئية لثقافة محاربة أهل البيت عليهم السلام وقتالهم، وانتشارها في مجتمع الكوفة.

فيقول عليه السلام في هذه المكونات النشوئية التي أدت إلى قتال أهل البيت عليهم السلام:

«فسحقا لكم، يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الأثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. أفهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون!! أجل والله، خذل فيكم معروف، نبتت عليه أصولكم، واتذرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلة للغاصب» (مقتل الإمام الحسين عليه السلام للمقرم: ص 243، 244).

يشتمل هذا المقطع على بيان للمكونات النشوئية لثقافة هؤلاء الذين تجمعوا على مقصد واحد وهو قتله مع أسرته عليهم السلام.

فيرجعها عليه السلام إلى فترات زمنية متعاقبة، بمعنى: أن هذه المكونات النشوئية تكونت في فترات زمنية متعاقبة حتى وصلت إلى هذا المنحى الذي يظهره النص التاريخي.

1 التعليقات:

منذر من مدينة القاسم (ع)المقدسة الكاتب

لكن ليس أهل الكوفة وحدهم من تخلى عن اهل البيت (ع) فأهل االشام والمدينة ومكة وباقي الامصار اسوء حالا ، وفي خذلان اوائل المسلمين للرسول الاعظم (ص) في معارك احد وحنين وغيرها الدليل القاطع .
وليس معنى كلامي ان نبرر لخاذلي آل محمد (ص) فعملهم ذاك ذنب عظيم لكنه الواقع واكثرهم للحق كارهون

تعليق

إرسال تعليق