صور حوارية ومواعظ من حياة وأقوال المعصومين عليهم السلام

بقلم: الشيخ علي الفتلاوي
خلق الله تعالى الخلق وهو غني عن طاعتهم ومنيع عن ضرر معصيتهم لما يتصف به من صفات الألوهية إلا أنه سبحانه لم يدع خلقه هملا دون إرشاد وشريعة ومنهاج بل سن لهم السنن ونهج لهم المناهج ليصلوا إلى كمالهم، ومما أرشد إليه مدبر الأمور وخالق الخلق سبحانه أن نزهد في هذه الدنيا الدنية ونرفض زخرفها ونبتعد عن زبرجها وهذا ما التزم به سادة الخلق وقادة العباد محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم وسلم تسليما كثيرا .

  الصورة الأولى: النبي الأعظم صلى الله عليه وأله  
فعندما نتأمل هذه الصورة الرائعة التي نقلها عمر بن الخطاب بقوله:
(استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم، وإنه لمضطجع على خصْفة وإن بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا رسول الله، أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا»)( مجمع البيان: ج9، ص133. ميزان الحكمة: ج3، ص1228، ح5990).
نجد عبرا ومواعظ تسر القلوب وتقر بها الأعين وهي كالآتي:

  أولا:   إن اضطجاع النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم (على خصفة) أي فراش من سعف النخيل دون أن يكون عليها شيء يحمي جسده الشريف من غلظتها دليل على تجسد التواضع في هذا الوجود المقدس، وبرهان على افتخار الزهد إذ صار لباسا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

  ثانيا:   وقول عمر (وإن بعضه على التراب...) يشير إلى علاقة المقدسين بأصلهم إذ يرون أن أجسادهم من التراب وعلى التراب وإلى التراب رغم أن أرواحهم في عليين، فلا يرون ترفعا عن التراب ولا يشعرون بالتقذر منه كما يفعل المتكبرون الجهلة ذلك.

  ثالثا:   وقوله (وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا) ألا يدل ذلك على عدم استخدام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لولايته التكوينية في مثل هذه الأمور التافهة؟ وإلا لو شاء لتصرف بهذه الوسادة وجعلها من حرير وديباج دون تعب أو نصب إلا أنه آثر أن يعيش وفق الأسباب والمسببات، ولعله أراد أن يعطي رسالة لعمر أو لغيره بأن الدنيا لا تستحق أن تكون هما نعيشه كل يوم، ولا تستحق أن يعصى الله تعالى لأجلها.

  رابعا:   ورد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على عمر بقوله (أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا) فيه الكثير من الحكم والمواعظ:
منها: أن من أخذ نصيبه في الدنيا ليس له نصيب في الآخرة.
منها: أن العباد الصالحين لا يتأملوا من الدنيا راحة وسعادة لخلانهم معها ولأنهم لم يتخذوها أما لهم كما أنها لم تعتبرهم أولادا لها.
منها: أن الدنيا بما فيها من اللذائذ والحلاوة لابد أن تنتهي في يوم ما فيلاقي أولادها ما ينغصهم ويذيقهم المرارة بدل الحلاوة التي يتلذذون بها.
منها: أن الطيبات الفانية ليست لذيذة وإنما اللذة في الطيبات الباقية.

  الصورة الثانية: فاطمة الزهراء عليها السلام  
وما أدراك ما فاطمة هي بضعة النبي المصطفى وروحه التي بين جنبيه وهي لحمه ودمه وجزء لا يتجزأ منه فلذا نجدها لا تختلف عن أبيها بصفة من صفاته، فلقد جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها الصلاة والسلام وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت:«يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه». فأنزل الله: {ولسوْف يعْطيك ربك فترْضى})( نور الثقلين: ج5، ص594، ح10، أنظر أيضا: ص595، ح11. ميزان الحكمة: ج3، ص1228، ح5991).
أرجو إعادة القراءة لهذه الرواية وأرجو أن تتصورها في خيالك لتدمع عيناك كما دمعت عين الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وبعد تأمل هذه الصورة تخرج بالمواعظ التالية:
منها: فاطمة سيدة نساء العالمين تلبس كساء من أحلة الإبل لتعطي رسالة لكل النساء الواعيات أن لا يلهثن وراء الأزياء والموديلات، وأن لا يكلفن أزواجهن فوق طاقتهم لكي يلبسن ما غلا ثمنه، فالبساطة في العيش لا تعد نقصا كما لا يحق لأحد أن يسخر من صاحبه لاسيما في مجتمع النساء.
منها: أن هذه السيدة الكبرى والصديقة الطاهرة هي بنت سيد الكائنات وزوجة سيد الأوصياء وأم سيدي شباب أهل الجنة ومع ذلك تطحن بيديها لأسرتها وتعين بعلها على شظف العيش، وتقول لنا لابد من التكافل بين الرجل والمرأة لتسير الحياة الزوجية بهدوء وطمأنينة وسعادة، وتقول للنساء لا تبحثن عن الشأنية مع أزواجكن طالما رضيتن بهم أزواجا، فأنا بنت سيد الكائنات وخاتم الأنبياء والرسل ولا أستنكف من العمل في بيتي وخدمة أسرتي.
منها: عند رضاعتها ولدها ترشدنا إلى ضرورة رضاعة الأم لولدها لما في ذلك من فائدة صحية لهذا الوليد إذ إن حليب الأم يغذي الولد ماديا ومعنويا، وتبين بأن هذه الرضاعة لهذا الطفل الصغير عمل صالح تنال الأم به ثواب الله عز وجل.
منها: قول رسول الله لابنته (يابنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة) لا يختلف عما بينه في الصورة الأولى من أن الدنيا فانية ومرارتها منتهية والآخرة باقية وحلاوتها ولذتها دائمة.
منها: وقولها عليها السلام (يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه....) دليل على الرضا التام بعطاء الله تعالى، وتصريح بأن هذه البساطة من العيش هي نعمة إلهية تحتاج إلى شكر المنعم عليها، كما أنها أكدت على عدم جواز التبرم من هذه الحياة البسيطة.

  الصورة الثالثة: لماذا سميت الدنيا دنيا؟  
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (عندما سأله يزيد بن سلام: لما سميت الدنيا دنيا؟ قال:«لأن الدنيا دنية خلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة».
قال: فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لأنها متأخرة تجيء من بعد الدنيا، لا توصف سنينها، ولا تحصى أيامها، ولا يموت سكانها»)( بحار الأنوار: ج57، ص356، ح2. ميزان الحكمة: ج3، ص1192، ح5740).
هذه الصورة تبين مرتبة الدنيا وكونها فانية بحلوها أو بمرها فإذا كانت حلوة بحسب الظاهر فلا تبطر فيها فتكون سببا لدخولك النار، وإن كانت مرة فاغتنم مرارتها لتكون سببا في دخولك الجنة.

  الصورة الرابعة: الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (عندما رأى جابر بن عبد الله، وقد تنفس الصعداء فقال:«يا جابر، علام تنفسك؟ أعلى الدنيا؟!».
فقال جابر: نعم، فقال له الإمام عليه السلام:«يا جابر، ملاذ الدنيا سبعة: المأكول، والمشروب، والملبوس، والمنكوح والمركوب، والمشموم، والمسموع. فألذ المأكولات العسل وهو بصق من ذبابة، وأحْلى المشروبات الماء وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة، وأعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال ومثال لمثال، وإنما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل، وأجل المشمومات المسْك وهو دم من سرة دابة، وأجل المسموعات الغناء والترنم وهو إثم، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل».
قال جابر بن عبد الله: فو الله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي)( بحار الأنوار: ج78، ص11، ح69. ميزان الحكمة: ج3، ص1209، ح5863).
أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يوصل لنا رسالة واضحة عن أصل لذائذ هذه الدنيا التي يتنافس بل يتقاتل عليها أهلها، فأكد أن هذه اللذائذ التي ترونها جميلة فهي كخضراء الدمن في منبت السوء فلا يغتر أحد بها ولا يتهافت عاقل على نيلها.

  الصورة الخامسة: الإمام أمير المؤمنين وزهده في المنصب  
عن سويد بن غفلة قال: (دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بعدما بويع بالخلافة وهو جالس على حصير صغير وليس في البيت غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئا مما يحتاج إليه البيت؟! فقال عليه السلام: «يا بن غفلة، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة، ولنا دار أمْن قد نقلْنا إليها خير متاعنا، وإنا عن قليل إليها صائرون»)( بحار الأنوار: ج70، ص321، ح38. ميزان الحكمة: ج3، ص1219، ح5924).
يا لها من صورة مليئة بالعبر والمواعظ، فإذا تأملها العاقل لابد أن يرى ما يلي:
  أولا:   إن المنصب هو خدمة للناس وليس وسيلة للثراء والرفاه والاستحواذ.
  ثانيا:   الإمام عليه السلام لم يضع في البيت ما هو ضروري فضلا عن الكماليات.
  ثالثا:   يتعامل الإمام عليه السلام مع الدنيا تحت عنوان (نجا المخفون) فلم يثقل نفسه بحطام الدنيا ولم يملأ بيته من زبرجدها.
  رابعا:   يشير بقوله (وإنا عن قليل إليها صائرون) إلى فناء الدنيا وقلة مدتها.
والحمد لله والصلاة والسلام علة محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين.

إرسال تعليق