بقلم: الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري
حين خرج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة لم يكن في تفكيره الإقامة في هذه المدينة وإنما كان يريد أن يتخذها محطة مرور يتوقف فيها ويزور بيت الله الحرام وهو في طريقه إلى العراق، لأن أهل الكوفة أرسلوا إليه رسلهم وكتبهم يدعونه إلى القدوم إليهم وهم شيعة أبيه وأنصاره وفيهم من شهد معه معاركه مع أعدائه.
وحين عزم الإمام على مغادرة المدينة ودع قبر جده ومن لم يخرج معه من بني هاشم وخرج وسط معارضة شديدة من بني هاشم والصحابة في مدينة الرسول، وفي ضوء عزمه على المسير إلى العراق كان يرى تأمين جانب أهل البصرة وضمهم إلى نصرته.
ومن أجل ذلك بادر بإرسال خطاب إليهم مع مولى له يقال له سليمان، وقد وجه خطابه إلى رؤساء الأخماس وهم كل من (مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والجارود بن المنذر، ويزيد بن مسعود، وقيل مسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر). (ينظر تاريخ الطبري 3 / 280، ومثير الاحزان / 13).
وفيما يأتي نص الخطاب.
«أما بعد فإن الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا بذلك وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحروا الحق فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فإن السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت، إنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». (تاريخ الطبري 3 / 280).
إن الناظر في بناء هذا الخطاب يجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) حدد فيه جانبين:
الجانب الأول: التذكير بأنهم أهل بيت النبوة، وهم وارثو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحق الناس بالقيام مقامه في ولاية أمور المسلمين، ومن هنا فهم أولى بالإتباع من غيرهم وفي الخطاب إشارة إلى حق مغتصب ويقصد به الإمام بيعة الغدير التي عقد فيها الرسول الولاية بعده إلى الإمام علي بن أبي طالب، وأشار إلى أنهم حين قبلوا ولاية غيرهم فمن أجل حقن دماء المسلمين وحفظ وحدتهم، ولم ينس سيد الشهداء أن يترحم ويستغفر لمن تولى أمر المسلمين آنذاك بالرغم من كل ما حدث، ويمثل هذا درساً في سمو الإمام الحسين وعظمته، وقد ذكر الإمام الحسين أنهم الآن أصحاب الحق في استرداد ما سلب منهم وتولي قيادة الأمة الإسلامية.
الجانب الثاني: هو دعوة هؤلاء الرجال ومن يتبعهم إلى نصرة الدين والوقوف مع الإمام وهو يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه من أجل إحياء العمل بهما، والعمل بمبادئ الدين الإسلامي ومفاهيمه، وقد نبه الإمام إلى الخطر المحدق بالدين من خلال إماتة السنة وإحياء البدعة، ثم يبين لهم أن سبيل الهدى والرشاد معهم أهل البيت، فمن تبعهم اهتدى إلى طريق الحق لأنهم وارثو ثقل النبوة وهم أهل بيت النبي، وقد أوصى بالتمسك بهم وهم أصحاب الحق في هذا الأمر.
وحين ننظر إلى البنية اللغوية لهذا الخطاب نجد أنها بدأت بالتوكيد من خلال استعمال «إنّ» المشددة التي فيها معنى التوكيد، ثم بنى تراكيب الخطاب على البنية الفعلية التي فيها معنى التجدد والحدوث، واستعمل الإمام صيغة الماضي «اصطفى، اختار، أكرم، قبض، نصح، بلغ»، لأنه يريد التذكير بأمر سابق الحدوث ومعروف عند جميع المسلمين، وهو الدعوة المحمدية التي استطاعت أن تغيّر وجه الدنيا، وتقود أمة الإسلام إلى طرق الهدى، فقد اختار الله محمداً ليكون رسولاً للإنسانية، وقد استطاع إتمام رسالته في بناء دولة الإسلام بالرغم من كل المصاعب التي واجهته في بداية الدعوة.
ولأن غرض الإمام التذكير تطلب سياق الكلام اعتماد البنية الفعلية، لأنها هي الأقدر على التعبير في مثل هذه المواقف. وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أهل بيته أولى الناس بالقيام مقامه، وهم الأصلحون لتولي أمور المسلمين، وهذا ما قرره لهم الرسول نفسه في حجة الوداع لكن غيرهم استأثروا بهذا الحق فسكتوا حفاظاً على وحدة المسلمين ودمائهم.
وحين أراد الإمام بيان هذا الأمر عدل عن التراكيب الفعلية التي بدأ بها خطابه إلى التراكيب الاسمية، فبنى القسم الثاني من خطابه على التراكيب الاسمية (كنا أهله، ونحن أولياؤه ونحن أوصياؤه، ونحن ورثته، ونحن أحق الناس بمقامه)، وهذا العدول له غرض دلالي هو ثبات ما ذكره الإمام فيهم دون غيرهم، لأن الجمل الاسمية فيها دلالة على الثبات والدوام بخلاف الجمل الفعلية، فأنت حين تقول: «محمد يكتب» له دلالة تختلف عن قولك: «محمد كاتب» وما أراد الإمام بيانه لهؤلاء القوم هو ثبات الولاية في أهل البيت، وقد وظف الإمام إحدى الظواهر اللغوية في سياق خطابه بقصد الإيجاز هي ظاهرة الحذف، فقد حذف المسند إليه «المبتدأ» في عدد من التراكيب الاسمية بعد قوله: «وكنا أهله»، وقد سوغ الحذف في هذا السياق تقدم ما يدل على المحذوف.
وحين ننظر إلى المقطع الأخير من خطاب الإمام نجد فيه تركيزاً على الدعوة إلى إحياء مبادئ الدين، والرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه ومحاربة البدع التي شاعت وإحياء السنة التي أُميتت، وقد عدل الإمام من صيغة البناء للمعلوم في بداية خطابه إلى صيغة البناء للمجهول يقول: «فإن السنة قد أُميتت وإنّ البدعة قد أُحييت» ولم يصرح الإمام بمن أمات السنة وأحيا البدعة، وسبب هذا العدول واضح هو أن الإمام يخاطب قوماً لم يكن واثقاًَ من استجابتهم لدعوته وليس من المناسب في هذا المقام ذكر الأسماء، وقد أثبتت الوقائع دقة نظر الإمام فلم يستجب لدعوة الإمام من هؤلاء سوى يزيد بن مسعود زعيم قبيلة تميم، اما الآخرون فلم يستجيبوا لهذه الدعوة، بل إنّ أحدهم وهو الجارود بن المنذر سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد ليضرب عنقه. (تأملات في زيارة وارث / 153).
ويبدو مما تقدم أن خطاب الإمام الحسين مع رؤساء الأخماس في البصرة لم يؤت ثماره، وحتى من استجاب منهم وهو زعيم تميم كانت استجابته متأخرة، لأنه حين أراد المسير إلى كربلاء علم باستشهاد الإمام وأصحابه.
حين خرج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة لم يكن في تفكيره الإقامة في هذه المدينة وإنما كان يريد أن يتخذها محطة مرور يتوقف فيها ويزور بيت الله الحرام وهو في طريقه إلى العراق، لأن أهل الكوفة أرسلوا إليه رسلهم وكتبهم يدعونه إلى القدوم إليهم وهم شيعة أبيه وأنصاره وفيهم من شهد معه معاركه مع أعدائه.
وحين عزم الإمام على مغادرة المدينة ودع قبر جده ومن لم يخرج معه من بني هاشم وخرج وسط معارضة شديدة من بني هاشم والصحابة في مدينة الرسول، وفي ضوء عزمه على المسير إلى العراق كان يرى تأمين جانب أهل البصرة وضمهم إلى نصرته.
ومن أجل ذلك بادر بإرسال خطاب إليهم مع مولى له يقال له سليمان، وقد وجه خطابه إلى رؤساء الأخماس وهم كل من (مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والجارود بن المنذر، ويزيد بن مسعود، وقيل مسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر). (ينظر تاريخ الطبري 3 / 280، ومثير الاحزان / 13).
وفيما يأتي نص الخطاب.
«أما بعد فإن الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا بذلك وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحروا الحق فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فإن السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت، إنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». (تاريخ الطبري 3 / 280).
إن الناظر في بناء هذا الخطاب يجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) حدد فيه جانبين:
الجانب الأول: التذكير بأنهم أهل بيت النبوة، وهم وارثو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحق الناس بالقيام مقامه في ولاية أمور المسلمين، ومن هنا فهم أولى بالإتباع من غيرهم وفي الخطاب إشارة إلى حق مغتصب ويقصد به الإمام بيعة الغدير التي عقد فيها الرسول الولاية بعده إلى الإمام علي بن أبي طالب، وأشار إلى أنهم حين قبلوا ولاية غيرهم فمن أجل حقن دماء المسلمين وحفظ وحدتهم، ولم ينس سيد الشهداء أن يترحم ويستغفر لمن تولى أمر المسلمين آنذاك بالرغم من كل ما حدث، ويمثل هذا درساً في سمو الإمام الحسين وعظمته، وقد ذكر الإمام الحسين أنهم الآن أصحاب الحق في استرداد ما سلب منهم وتولي قيادة الأمة الإسلامية.
الجانب الثاني: هو دعوة هؤلاء الرجال ومن يتبعهم إلى نصرة الدين والوقوف مع الإمام وهو يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه من أجل إحياء العمل بهما، والعمل بمبادئ الدين الإسلامي ومفاهيمه، وقد نبه الإمام إلى الخطر المحدق بالدين من خلال إماتة السنة وإحياء البدعة، ثم يبين لهم أن سبيل الهدى والرشاد معهم أهل البيت، فمن تبعهم اهتدى إلى طريق الحق لأنهم وارثو ثقل النبوة وهم أهل بيت النبي، وقد أوصى بالتمسك بهم وهم أصحاب الحق في هذا الأمر.
وحين ننظر إلى البنية اللغوية لهذا الخطاب نجد أنها بدأت بالتوكيد من خلال استعمال «إنّ» المشددة التي فيها معنى التوكيد، ثم بنى تراكيب الخطاب على البنية الفعلية التي فيها معنى التجدد والحدوث، واستعمل الإمام صيغة الماضي «اصطفى، اختار، أكرم، قبض، نصح، بلغ»، لأنه يريد التذكير بأمر سابق الحدوث ومعروف عند جميع المسلمين، وهو الدعوة المحمدية التي استطاعت أن تغيّر وجه الدنيا، وتقود أمة الإسلام إلى طرق الهدى، فقد اختار الله محمداً ليكون رسولاً للإنسانية، وقد استطاع إتمام رسالته في بناء دولة الإسلام بالرغم من كل المصاعب التي واجهته في بداية الدعوة.
ولأن غرض الإمام التذكير تطلب سياق الكلام اعتماد البنية الفعلية، لأنها هي الأقدر على التعبير في مثل هذه المواقف. وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أهل بيته أولى الناس بالقيام مقامه، وهم الأصلحون لتولي أمور المسلمين، وهذا ما قرره لهم الرسول نفسه في حجة الوداع لكن غيرهم استأثروا بهذا الحق فسكتوا حفاظاً على وحدة المسلمين ودمائهم.
وحين أراد الإمام بيان هذا الأمر عدل عن التراكيب الفعلية التي بدأ بها خطابه إلى التراكيب الاسمية، فبنى القسم الثاني من خطابه على التراكيب الاسمية (كنا أهله، ونحن أولياؤه ونحن أوصياؤه، ونحن ورثته، ونحن أحق الناس بمقامه)، وهذا العدول له غرض دلالي هو ثبات ما ذكره الإمام فيهم دون غيرهم، لأن الجمل الاسمية فيها دلالة على الثبات والدوام بخلاف الجمل الفعلية، فأنت حين تقول: «محمد يكتب» له دلالة تختلف عن قولك: «محمد كاتب» وما أراد الإمام بيانه لهؤلاء القوم هو ثبات الولاية في أهل البيت، وقد وظف الإمام إحدى الظواهر اللغوية في سياق خطابه بقصد الإيجاز هي ظاهرة الحذف، فقد حذف المسند إليه «المبتدأ» في عدد من التراكيب الاسمية بعد قوله: «وكنا أهله»، وقد سوغ الحذف في هذا السياق تقدم ما يدل على المحذوف.
وحين ننظر إلى المقطع الأخير من خطاب الإمام نجد فيه تركيزاً على الدعوة إلى إحياء مبادئ الدين، والرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه ومحاربة البدع التي شاعت وإحياء السنة التي أُميتت، وقد عدل الإمام من صيغة البناء للمعلوم في بداية خطابه إلى صيغة البناء للمجهول يقول: «فإن السنة قد أُميتت وإنّ البدعة قد أُحييت» ولم يصرح الإمام بمن أمات السنة وأحيا البدعة، وسبب هذا العدول واضح هو أن الإمام يخاطب قوماً لم يكن واثقاًَ من استجابتهم لدعوته وليس من المناسب في هذا المقام ذكر الأسماء، وقد أثبتت الوقائع دقة نظر الإمام فلم يستجب لدعوة الإمام من هؤلاء سوى يزيد بن مسعود زعيم قبيلة تميم، اما الآخرون فلم يستجيبوا لهذه الدعوة، بل إنّ أحدهم وهو الجارود بن المنذر سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد ليضرب عنقه. (تأملات في زيارة وارث / 153).
ويبدو مما تقدم أن خطاب الإمام الحسين مع رؤساء الأخماس في البصرة لم يؤت ثماره، وحتى من استجاب منهم وهو زعيم تميم كانت استجابته متأخرة، لأنه حين أراد المسير إلى كربلاء علم باستشهاد الإمام وأصحابه.
إرسال تعليق