بقلم: السيد نبيل الحسني
التعريف اللغوي لمفردة الثقة
تعرّف الثقة عند أهل اللغة بأنها مأخوذة من (الوثق) وهو مصدر قولك وثق به يثق، بالكسر فيهما.
وثاقة وثقة: ائتمنه، وأنا واثق به وهو موثوق به.
والوثاقة، مصدر الشيء الوثيق المحكم، والوثاق: اسم الإيثاق.
والحبل أو الشيء الذي يوثق به وثاق. (راجع لسان العرب لابن منظور، مادة (وثق): ج10، ص371).
ويقال: استوثقت من فلان وتوثقت من الأمر إذا أخذت فيه الوثاقة؛ وأخذ الأمر بالأوثق، أي: الأشد الأحكم. (المصدر السابق).
ومن هنا: نجد أن الإمام الحسين عليه السلام بدأ في أول خطوة في يوم الطف هو الأخذ بالأمر الأوثق والأشد والأحكم وهو الله جل جلاله.
الثقة حالة وسطية بين الغرور وبين الخوف والجبن
والثقة تدور مدار الإفراط والتفريط في النفس فتندفع للوقوع في تلك الانفعالات والاضطرابات السلوكية، فالإفراط بها يؤدي إلى الغرور والاستدراج، كمن يثق بالدنيا، أو بالقوة البدنية، أو المال، وكلها قابلة للتغير؛ والتفريط بها يؤدي إلى التراجع والتعثر، وضياع الهدف، وقتل الطموح، وفي جميع ذلك تتوقف النتائج على الأمر الذي نثق به.
من أين تبدأ الثقة؟ وبمن نثق؟
والسؤال المطروح هو: من أين تبدأ الثقة؟ وبمن نثق؟ وهل الثقة بالنفس كافية للخروج من المآزق أو نيل المقصود؟.
بالطبع لا يمكن أن يتخذ الإنسان من النفس مصدرا للتحرك، فكم من امرئٍ وقع في شباك الثقة بنفسه فأدى به الحال إلى الغرور، والتهور، والتعجرف، والاستهزاء بالآخر، وعدم التثبت من المعطيات، لتكون النتائج في كل ذلك وبالاً على صاحبها.
وكم من واثق بماله فيدفعه هذا الشعور إلى التعالي، والظلم، والخسران، بل وكم من واثقٍ بسلطانه فينتهي به الحال إلى الزنزانة أو القتل، وغيرها من مجالات الحياة التي تختلف فيها موارد التثبت والوثاقة.
إذن: ما هو المقياس في حالة الثقة؟
المقياس والضابطة: هو التفريق بين الأشياء الثابتة والمتغيرة، فالمال متغير، والسلطان متغير والصحة والعافية متغيرة، والصداقة متغيرة، والعلاقة الاجتماعية متغيرة، سواء أكانت فردية أم أسرية، لأن الثابت فيها هو ما بني على الإيمان بالله عز وجل.
ولو كانت هذه الأمور قابلة للثبات لما وضع الله تعالى أحكاماً وتشريعات ابتداءً من العلاقة الزوجية ثم الوالدية، ثم القرابية، ثم العشائرية، ثم العلاقة داخل المجتمع كالجوار، والصداقة، وجلسات التحاور، والتذاكر، وعقود المعاملات القائمة بين الناس، كلها وضع الله لها تشريعاتها لأنها من المتغيرات.
ولكونها كذلك صار الحكم الشرعي هو الثابت والضابط والمقياس الذي يعود إليه الناس لتعديل مسارهم الحياتي، وأسلوبهم المعاملاتي سواء الفردي أو الجماعي.
ومن هنا: فقد خلصت الدراسات العلمية الحديثة في مجال الصحة النفسية إلى أن الثقة تبدأ مع الإنسان منذ الرضاعة وإن الله تعالى قد جعل لها هارموناً في عقل الأم ينزل إلى الرضيع من خلال الرضاعة.
بل قالوا: (إن الرضاعة في حد ذاتها قائمة على الثقة بين الأم ووليدها، وإن الرضيع عندما يبدأ في الرضاعة تنطلق سلسلة متصلة من العمليات في دماغ الأم تؤدي إلى نشوء هرمون الثقة.
وقال فريق العمل في جامعة وورديك الذي أنجز البحث إنّ الهرمون المسمّى (أولسيتوسن) كان معروفا أنّه عند إطلاقه في الدم يسبب في انسكاب الحليب. لكن ما لم يكن معروفا أنّه عند إطلاق الهرمون (أوكسيتوسين) في الدماغ فإنه يساعد على تعزيز الرابطة بين الأم والرضيع من خلال الثقة التي تنشأ بين الطرفين.
وينشأ الهرمون في جزء الدماغ المسؤول عن التحكم في حرارة الجسم والعطش والجوع والغضب والتعب.
وخلص فريق البحث إلى أن الهرمون المذكور يفرز مشاعر ثقة الرضيع في أمه واتكاله عليها، فضلاً عن تقليص خوفه من العالم الجديد الذي وفد إليه). (صفحة علوم وتكنولوجيا bbcarabic.com).
ولذلك؛ أصبح العالم اليوم يعيش أزمة ثقة بسبب استغناء الأمهات عن الرضاعة الطبيعية فينشأ الإنسان وهو محروم من عامل نفسي مهم وهو الثقة ولا يعرف كيف ينميه في نفسه، بل حتى لا يعرف مفهوم الثقة، وكيف له أن يثق بنفسه أو بغيره من الأشياء التي يتعامل معها.
ناهيك عن فقدان ثقافة الثبات والمتغير في الحياة، أي فقدان معرفة تطبيق الحكم الشرعي، أو الجهل به أصلا مما يؤدي إلى تلك الانفعالات النفسية والاضطرابات السلوكية التي تنتهي في الغالب إلى الفشل والدمار.
بمن وثق الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء
وفي خضم هذه المفاهيم الحياتية تبقى مدرسة عاشوراء مصدرا للمعرفة والتعلم ونشر ثقافة الحياة، إذ لا يخفى على أهل المعرفة ما للحرب من أجواء نفسية معقدة، وما لها من آثار خطيرة لا يسع البحث إيرادها، مع ما تحمل واقعة كربلاء من خصوصية خاصة من حيث الأجواء العسكرية التي أحاطت بسيد شباب أهل الجنة عليه السلام، وهو موقن أن هؤلاء الذين تجمعوا من حوله عازمون على قتله، وقتل أبنائه وأطفاله وأخوته وأصحابه وتسليب بنات الرسالة المحمدية.
إنها أجواء انفردت بها واقعة الطف على مر العصور، فماذا أعد لها سيد الشهداء عليه السلام من عدة الثقة؟! وبمن استوثق؟.
إنّ جواب السؤال بات معروفا لكثير من أهل المعرفة، إلا أن الفارق في بيانه هو أن الإمام الحسين عليه السلام ابتدأ بعامل الثقة في أول عدته لهذه الحرب الطاحنة، فكيف هي الثقة عنده؟.
بمعنى آخر للسؤال هل وثق بالمال، أم بالأهل، أم بالأصحاب، أم بصحته، أم بمهارته في القتال وإتقانه فنون الفروسية فهو ابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن انه إمام معصوم مما يستلزم إحرازه لجميع الكمالات التي يحتج بها على المكلف يوم القيامة. ومن البديهي أن أهل بيته هم خير أهل بيت وأوصل، وأن أصحابه أوفى الأصحاب وأبرهم إلا أن السؤال ماذا أعد له ولهم في هذه الحرب وبماذا استوثق؟
وبمعنى آخر: إنّ الأهل والأصحاب هم في دائرة المتغير فقد فدوه بأنفسهم ورحلوا إلى ربهم فبماذا استوثق أبو عبد الله عليه السلام؟! سؤال هو يجيب عليه ــ بأبي وأمي ــ، قائلا: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب».
هنا يظهر الإمام صلوات الله وسلامه عليه الأمر الثابت الذي لا يتغير وهو الله عز وجل، فهو ثقته في كل كرب وليس في هذا الوقت، بل في كل كرب حدث قبل هذا الكرب أو سيحدث بعده ــ كما سيمر علينا ــ، فالثابت في كل ذلك هو الثقة بالله عز وجل.
لماذا يجب الوثوق بالله سبحان دون غيره؟
والسؤال المطروح هو: لماذا كانت ثقة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى دون غيره من الولد والأهل والأصحاب مع مالهم من الخصوصية الخاصة والتفرد في منحهم الثقة لسيد الشهداء عليه السلام؟ ثم بماذا تختلف ثقة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى عن ثقتنا به جلت قدرته؟.
والجواب: هو التوكل.
فالتوكل عند الإمام الحسين عليه السلام هو الثقة بالله وحده لا شيء معه، والتوكل عندنا هو التعلق بالأسباب بالولد والأهل والأقارب والأصحاب والعشيرة والمال والسلاح وفنون القتال، و... و... و... وما أكثرها! فهذه الأسباب هي سواء عند سيد الشهداء عليه السلام في وجودها وفقدها وجلائها وخفائها، ولا يبقى منها سوى الغريزة الإنسانية المتمثلة بالأبوة والأخوة والصحبة، ولذا بكى عليهم أشد البكاء لأنه مثال الإنسانية وعنوان وجودها.
فالتواصل مع هذه الروابط طريق لدوام الإنسانية وليس لغرض الإتكال عليها والاستغناء بها، فهاهم قد رحلوا عنه ــ بأبي وأمي ــ وبقي وحيدا على من يعتمد بعدهم، وبمن كان يعتمد قبلهم؟ إنّه الله تعالى.
والعلة في ذلك هو حقيقة التوكل التي تحملها الذات الحسينية المشرّفة.
ولذلك: نجده عليه الصلاة والسلام يظهر لنا في مدرسة عاشوراء عامل الثقة بالله ودوره في الهزيمة والنصر في جميع مجالات الحياة، فيعيد بيانه في دعائه مرتين؛ فيقول: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمرٍ نزل بين ثقة وعدة». (الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص579).
وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: (إن معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، والسبب التام الذي لا يختلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه. فالتوكل هو توجيه الثقة والاعتماد على الله سبحانه الذي بمشيته تدور رحى الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل). (تفسير الميزان: ج9، ص177).
وعليه؛ ما هو طريق تحصيل الثقة؟
حينما ظهر أن الثقة تنمو في النفس وتؤدي دورها من خلال حسن التوكل على الله عز وجل لزم من ذلك معرفة طريق تحصيل التوكل، والذي يمكن معرفته من خلال النقاط الآتية التي خلص إليها العلامة النراقي قدس سره:
1ــ بعد تقوية التوحيد والاعتقاد بأن الأمور بأسرها مستندة إليه سبحانه، وليس لغيره مدخلية فيها، أن يتذكر الآيات والأخبار المذكورة الدالة على فضيلته ومدحه، وكونه باعث النجاة والكفاية.
2ــ أن يتذكر أن الله سبحانه خلقه بعد أن لم يكن موجودا وأوجده من كتم العدم، وهيأ له ما يحتاج إليه، وهو أرأف بعباده من الوالدة بولدها، وقد ضمن بكفايته من توكل عليه، فيستحيل أن يضيعه بعد ذلك ولا يكفيه مؤونته ولا يوصل إليه ما يحتاج، ولا يدفع عنه ما يؤذيه، لتقدسه من العجز والنقص والخلف والسهو.
3ــ كما ينبغي له أن يتذكر الحكايات التي فيها عجائب صنع الله في وصول الأرزاق إلى صاحبها، وفي دفع البلايا والأسواء عن بعض عبيده، والحكايات التي فيها عجائب قهر الله في إهلاك أموال الأغنياء وإذلال الأقوياء وكم من عبد ليس له مال وبضاعة ويرزقه الله بسهولة، وكم من ذي مال وثروة هلكت بضاعته أو سرقت وصار محتاجا، وكم من قوي صاحب كثرة وعدة وسطوة صار عاجزا ذليلا، بلا سبب ظاهر، وكم من ذليل عاجز صار قويا واستولى على الكل، ومن تأمل في ذلك، يعلم أن الأمور بيد الله فيلزم الاعتماد عليه والثقة به.
4ــ والمناط: أن يعلم أن الأمور لو كانت بقدرة الله سبحانه من غير مدخلية للأسباب والوسائط فيها، فعدم التوكل عليه سبحانه ــ والثقة بغيره غاية الجهل، وإن كانت لغيره سبحانه من الوسائط والأسباب مدخلية فالتوكل من جملة أسباب الكفاية وإنجاح الأمور، إذ السمع والتجربة شاهدان بأن من توكل على الله وانقطع إليه كفاه الله كل مؤونة.
فكما أن شرب الماء سبب لإزالة العطش، وأكل الطعام سبب لدفع الجوع، فكذا التوكل سبب رتبه مسبب الأسباب لإنجاح المقاصد وكفاية الأمور، وعلامة حصول التوكل، ألا يضطرب قلبه، ولا يبطل سكونه بفقد أسباب نفعه وحدوث أسباب ضره.
فلو سرقت بضاعته، أو خسرت تجارته، أو تعوق أمر من أموره، كان راضيا به، ولم تبطل طمأنينته، ولم تضطرب نفسه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا، فإن من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب بفقده، ومن اضطرب لفقد شيء سكن إليه واطمأن به. (جامع السعادات للنراقي: ج3، ص186، 187).
إذن: ميزان الثقة في النفس وفي الآخر هو الله سبحانه وتعالى فمتى ما عظم إيماننا بالله وأيقنا بأنه مسبب الأسباب ومهيئ السبل وبيده مقادير الحياة والموت، والغنى والفقر، والصحة والمرض، عرفنا كيف نتعامل مع أنفسنا ومع من حولنا، وعرفنا كيف نبني الحياة ونحدد المستقبل، لأن المستقبل خاضع للمقدمات، ومداره مدار التوكل على الله تعالى.
وأيقنا أن الفشل والنجاح، والهزيمة والنصر، تنبع من معرفتنا بأنفسنا، ومواطن ضعفها وقوتها، ومحاسنها ومساوئها، وطرق تقويمها، ففاقد الشيء لا يعطيه لغيره وفاقد الإيمان بالله لا يعطي الثقة لنفسه ولا لأحد من حوله، ومصيره دائما الهزيمة والفشل.
ولذا نراه مضطرباً ومتردداً يحيطه الخوف ويؤرّقه الحذر، وما ذاك إلاّ لاختلال التوكل على الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
التعريف اللغوي لمفردة الثقة
تعرّف الثقة عند أهل اللغة بأنها مأخوذة من (الوثق) وهو مصدر قولك وثق به يثق، بالكسر فيهما.
وثاقة وثقة: ائتمنه، وأنا واثق به وهو موثوق به.
والوثاقة، مصدر الشيء الوثيق المحكم، والوثاق: اسم الإيثاق.
والحبل أو الشيء الذي يوثق به وثاق. (راجع لسان العرب لابن منظور، مادة (وثق): ج10، ص371).
ويقال: استوثقت من فلان وتوثقت من الأمر إذا أخذت فيه الوثاقة؛ وأخذ الأمر بالأوثق، أي: الأشد الأحكم. (المصدر السابق).
ومن هنا: نجد أن الإمام الحسين عليه السلام بدأ في أول خطوة في يوم الطف هو الأخذ بالأمر الأوثق والأشد والأحكم وهو الله جل جلاله.
الثقة حالة وسطية بين الغرور وبين الخوف والجبن
والثقة تدور مدار الإفراط والتفريط في النفس فتندفع للوقوع في تلك الانفعالات والاضطرابات السلوكية، فالإفراط بها يؤدي إلى الغرور والاستدراج، كمن يثق بالدنيا، أو بالقوة البدنية، أو المال، وكلها قابلة للتغير؛ والتفريط بها يؤدي إلى التراجع والتعثر، وضياع الهدف، وقتل الطموح، وفي جميع ذلك تتوقف النتائج على الأمر الذي نثق به.
من أين تبدأ الثقة؟ وبمن نثق؟
والسؤال المطروح هو: من أين تبدأ الثقة؟ وبمن نثق؟ وهل الثقة بالنفس كافية للخروج من المآزق أو نيل المقصود؟.
بالطبع لا يمكن أن يتخذ الإنسان من النفس مصدرا للتحرك، فكم من امرئٍ وقع في شباك الثقة بنفسه فأدى به الحال إلى الغرور، والتهور، والتعجرف، والاستهزاء بالآخر، وعدم التثبت من المعطيات، لتكون النتائج في كل ذلك وبالاً على صاحبها.
وكم من واثق بماله فيدفعه هذا الشعور إلى التعالي، والظلم، والخسران، بل وكم من واثقٍ بسلطانه فينتهي به الحال إلى الزنزانة أو القتل، وغيرها من مجالات الحياة التي تختلف فيها موارد التثبت والوثاقة.
إذن: ما هو المقياس في حالة الثقة؟
المقياس والضابطة: هو التفريق بين الأشياء الثابتة والمتغيرة، فالمال متغير، والسلطان متغير والصحة والعافية متغيرة، والصداقة متغيرة، والعلاقة الاجتماعية متغيرة، سواء أكانت فردية أم أسرية، لأن الثابت فيها هو ما بني على الإيمان بالله عز وجل.
ولو كانت هذه الأمور قابلة للثبات لما وضع الله تعالى أحكاماً وتشريعات ابتداءً من العلاقة الزوجية ثم الوالدية، ثم القرابية، ثم العشائرية، ثم العلاقة داخل المجتمع كالجوار، والصداقة، وجلسات التحاور، والتذاكر، وعقود المعاملات القائمة بين الناس، كلها وضع الله لها تشريعاتها لأنها من المتغيرات.
ولكونها كذلك صار الحكم الشرعي هو الثابت والضابط والمقياس الذي يعود إليه الناس لتعديل مسارهم الحياتي، وأسلوبهم المعاملاتي سواء الفردي أو الجماعي.
ومن هنا: فقد خلصت الدراسات العلمية الحديثة في مجال الصحة النفسية إلى أن الثقة تبدأ مع الإنسان منذ الرضاعة وإن الله تعالى قد جعل لها هارموناً في عقل الأم ينزل إلى الرضيع من خلال الرضاعة.
بل قالوا: (إن الرضاعة في حد ذاتها قائمة على الثقة بين الأم ووليدها، وإن الرضيع عندما يبدأ في الرضاعة تنطلق سلسلة متصلة من العمليات في دماغ الأم تؤدي إلى نشوء هرمون الثقة.
وقال فريق العمل في جامعة وورديك الذي أنجز البحث إنّ الهرمون المسمّى (أولسيتوسن) كان معروفا أنّه عند إطلاقه في الدم يسبب في انسكاب الحليب. لكن ما لم يكن معروفا أنّه عند إطلاق الهرمون (أوكسيتوسين) في الدماغ فإنه يساعد على تعزيز الرابطة بين الأم والرضيع من خلال الثقة التي تنشأ بين الطرفين.
وينشأ الهرمون في جزء الدماغ المسؤول عن التحكم في حرارة الجسم والعطش والجوع والغضب والتعب.
وخلص فريق البحث إلى أن الهرمون المذكور يفرز مشاعر ثقة الرضيع في أمه واتكاله عليها، فضلاً عن تقليص خوفه من العالم الجديد الذي وفد إليه). (صفحة علوم وتكنولوجيا bbcarabic.com).
ولذلك؛ أصبح العالم اليوم يعيش أزمة ثقة بسبب استغناء الأمهات عن الرضاعة الطبيعية فينشأ الإنسان وهو محروم من عامل نفسي مهم وهو الثقة ولا يعرف كيف ينميه في نفسه، بل حتى لا يعرف مفهوم الثقة، وكيف له أن يثق بنفسه أو بغيره من الأشياء التي يتعامل معها.
ناهيك عن فقدان ثقافة الثبات والمتغير في الحياة، أي فقدان معرفة تطبيق الحكم الشرعي، أو الجهل به أصلا مما يؤدي إلى تلك الانفعالات النفسية والاضطرابات السلوكية التي تنتهي في الغالب إلى الفشل والدمار.
بمن وثق الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء
وفي خضم هذه المفاهيم الحياتية تبقى مدرسة عاشوراء مصدرا للمعرفة والتعلم ونشر ثقافة الحياة، إذ لا يخفى على أهل المعرفة ما للحرب من أجواء نفسية معقدة، وما لها من آثار خطيرة لا يسع البحث إيرادها، مع ما تحمل واقعة كربلاء من خصوصية خاصة من حيث الأجواء العسكرية التي أحاطت بسيد شباب أهل الجنة عليه السلام، وهو موقن أن هؤلاء الذين تجمعوا من حوله عازمون على قتله، وقتل أبنائه وأطفاله وأخوته وأصحابه وتسليب بنات الرسالة المحمدية.
إنها أجواء انفردت بها واقعة الطف على مر العصور، فماذا أعد لها سيد الشهداء عليه السلام من عدة الثقة؟! وبمن استوثق؟.
إنّ جواب السؤال بات معروفا لكثير من أهل المعرفة، إلا أن الفارق في بيانه هو أن الإمام الحسين عليه السلام ابتدأ بعامل الثقة في أول عدته لهذه الحرب الطاحنة، فكيف هي الثقة عنده؟.
بمعنى آخر للسؤال هل وثق بالمال، أم بالأهل، أم بالأصحاب، أم بصحته، أم بمهارته في القتال وإتقانه فنون الفروسية فهو ابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن انه إمام معصوم مما يستلزم إحرازه لجميع الكمالات التي يحتج بها على المكلف يوم القيامة. ومن البديهي أن أهل بيته هم خير أهل بيت وأوصل، وأن أصحابه أوفى الأصحاب وأبرهم إلا أن السؤال ماذا أعد له ولهم في هذه الحرب وبماذا استوثق؟
وبمعنى آخر: إنّ الأهل والأصحاب هم في دائرة المتغير فقد فدوه بأنفسهم ورحلوا إلى ربهم فبماذا استوثق أبو عبد الله عليه السلام؟! سؤال هو يجيب عليه ــ بأبي وأمي ــ، قائلا: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب».
هنا يظهر الإمام صلوات الله وسلامه عليه الأمر الثابت الذي لا يتغير وهو الله عز وجل، فهو ثقته في كل كرب وليس في هذا الوقت، بل في كل كرب حدث قبل هذا الكرب أو سيحدث بعده ــ كما سيمر علينا ــ، فالثابت في كل ذلك هو الثقة بالله عز وجل.
لماذا يجب الوثوق بالله سبحان دون غيره؟
والسؤال المطروح هو: لماذا كانت ثقة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى دون غيره من الولد والأهل والأصحاب مع مالهم من الخصوصية الخاصة والتفرد في منحهم الثقة لسيد الشهداء عليه السلام؟ ثم بماذا تختلف ثقة الإمام الحسين عليه السلام بالله تعالى عن ثقتنا به جلت قدرته؟.
والجواب: هو التوكل.
فالتوكل عند الإمام الحسين عليه السلام هو الثقة بالله وحده لا شيء معه، والتوكل عندنا هو التعلق بالأسباب بالولد والأهل والأقارب والأصحاب والعشيرة والمال والسلاح وفنون القتال، و... و... و... وما أكثرها! فهذه الأسباب هي سواء عند سيد الشهداء عليه السلام في وجودها وفقدها وجلائها وخفائها، ولا يبقى منها سوى الغريزة الإنسانية المتمثلة بالأبوة والأخوة والصحبة، ولذا بكى عليهم أشد البكاء لأنه مثال الإنسانية وعنوان وجودها.
فالتواصل مع هذه الروابط طريق لدوام الإنسانية وليس لغرض الإتكال عليها والاستغناء بها، فهاهم قد رحلوا عنه ــ بأبي وأمي ــ وبقي وحيدا على من يعتمد بعدهم، وبمن كان يعتمد قبلهم؟ إنّه الله تعالى.
والعلة في ذلك هو حقيقة التوكل التي تحملها الذات الحسينية المشرّفة.
ولذلك: نجده عليه الصلاة والسلام يظهر لنا في مدرسة عاشوراء عامل الثقة بالله ودوره في الهزيمة والنصر في جميع مجالات الحياة، فيعيد بيانه في دعائه مرتين؛ فيقول: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمرٍ نزل بين ثقة وعدة». (الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص579).
وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: (إن معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، والسبب التام الذي لا يختلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه. فالتوكل هو توجيه الثقة والاعتماد على الله سبحانه الذي بمشيته تدور رحى الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل). (تفسير الميزان: ج9، ص177).
وعليه؛ ما هو طريق تحصيل الثقة؟
حينما ظهر أن الثقة تنمو في النفس وتؤدي دورها من خلال حسن التوكل على الله عز وجل لزم من ذلك معرفة طريق تحصيل التوكل، والذي يمكن معرفته من خلال النقاط الآتية التي خلص إليها العلامة النراقي قدس سره:
1ــ بعد تقوية التوحيد والاعتقاد بأن الأمور بأسرها مستندة إليه سبحانه، وليس لغيره مدخلية فيها، أن يتذكر الآيات والأخبار المذكورة الدالة على فضيلته ومدحه، وكونه باعث النجاة والكفاية.
2ــ أن يتذكر أن الله سبحانه خلقه بعد أن لم يكن موجودا وأوجده من كتم العدم، وهيأ له ما يحتاج إليه، وهو أرأف بعباده من الوالدة بولدها، وقد ضمن بكفايته من توكل عليه، فيستحيل أن يضيعه بعد ذلك ولا يكفيه مؤونته ولا يوصل إليه ما يحتاج، ولا يدفع عنه ما يؤذيه، لتقدسه من العجز والنقص والخلف والسهو.
3ــ كما ينبغي له أن يتذكر الحكايات التي فيها عجائب صنع الله في وصول الأرزاق إلى صاحبها، وفي دفع البلايا والأسواء عن بعض عبيده، والحكايات التي فيها عجائب قهر الله في إهلاك أموال الأغنياء وإذلال الأقوياء وكم من عبد ليس له مال وبضاعة ويرزقه الله بسهولة، وكم من ذي مال وثروة هلكت بضاعته أو سرقت وصار محتاجا، وكم من قوي صاحب كثرة وعدة وسطوة صار عاجزا ذليلا، بلا سبب ظاهر، وكم من ذليل عاجز صار قويا واستولى على الكل، ومن تأمل في ذلك، يعلم أن الأمور بيد الله فيلزم الاعتماد عليه والثقة به.
4ــ والمناط: أن يعلم أن الأمور لو كانت بقدرة الله سبحانه من غير مدخلية للأسباب والوسائط فيها، فعدم التوكل عليه سبحانه ــ والثقة بغيره غاية الجهل، وإن كانت لغيره سبحانه من الوسائط والأسباب مدخلية فالتوكل من جملة أسباب الكفاية وإنجاح الأمور، إذ السمع والتجربة شاهدان بأن من توكل على الله وانقطع إليه كفاه الله كل مؤونة.
فكما أن شرب الماء سبب لإزالة العطش، وأكل الطعام سبب لدفع الجوع، فكذا التوكل سبب رتبه مسبب الأسباب لإنجاح المقاصد وكفاية الأمور، وعلامة حصول التوكل، ألا يضطرب قلبه، ولا يبطل سكونه بفقد أسباب نفعه وحدوث أسباب ضره.
فلو سرقت بضاعته، أو خسرت تجارته، أو تعوق أمر من أموره، كان راضيا به، ولم تبطل طمأنينته، ولم تضطرب نفسه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا، فإن من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب بفقده، ومن اضطرب لفقد شيء سكن إليه واطمأن به. (جامع السعادات للنراقي: ج3، ص186، 187).
إذن: ميزان الثقة في النفس وفي الآخر هو الله سبحانه وتعالى فمتى ما عظم إيماننا بالله وأيقنا بأنه مسبب الأسباب ومهيئ السبل وبيده مقادير الحياة والموت، والغنى والفقر، والصحة والمرض، عرفنا كيف نتعامل مع أنفسنا ومع من حولنا، وعرفنا كيف نبني الحياة ونحدد المستقبل، لأن المستقبل خاضع للمقدمات، ومداره مدار التوكل على الله تعالى.
وأيقنا أن الفشل والنجاح، والهزيمة والنصر، تنبع من معرفتنا بأنفسنا، ومواطن ضعفها وقوتها، ومحاسنها ومساوئها، وطرق تقويمها، ففاقد الشيء لا يعطيه لغيره وفاقد الإيمان بالله لا يعطي الثقة لنفسه ولا لأحد من حوله، ومصيره دائما الهزيمة والفشل.
ولذا نراه مضطرباً ومتردداً يحيطه الخوف ويؤرّقه الحذر، وما ذاك إلاّ لاختلال التوكل على الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
1 التعليقات:
اشكرك اخي الكريم نبيل الحسني على هذا الموضوع اكثر من رائع
تعليقإرسال تعليق