وقعة الطف وتأثيرها على الأدب العربي

بقلم: علي الخاقاني

صاحب مجلة البيان

لعل من المواضيع التي لم يتطرقها كاتب عن واقعة الطف هو هذا الموضع الذي يتجلى لكل باحث وأديب خطره وأهميته، وإذا ما درس الباحث وقعة الطف درساً تحليلياً يجدها قد أثرت على الأدب العربي فوسعت مواضيعه، وجددت له مواضيع أخر، وعليه فقد تجد ما اعتقده كل باحث من أن وقعة الطف أحد العوامل القوية التي بعثت بالأدب العربي الى سعته وتطوراته التي سيطلع عليها القارئ.

ولسنا في صدد البحث عن معرفة العوامل التي رفعت مستوى الأدب العربي الذي منها امتزاج الأدب الفارسي بالعربي وبذلك ظهر الأثر في (الأدب العباسي) حيث أمتزج فيه العنصران فنجم من ذلك اتساع دائرة الخيال في الأدب العربي وظهرت الفروق بينه وبين الأدب الأموي جلية واضحة.

وقد علم بأن أدب الرثاء عند العرب قبل الإسلام وبعده بقليل كان محدوداً وله قالب خاص لايحيد عنه الشاعر لضيق دائرة الميت والصفات التي فيه مهما بلغ الفقيد من العظمة حتى صار أكثر الأدباء يعتقدون من جراء ذلك بأن فن الرثاء هو أضيق دائرة من غيره من سائر فنون الشعر كالغزل والنسيب والمدح والفخر والحماسة والوصف إلى غير ذلك. ولعل البيت الذي تغنت به الركبان من كونه أحسن بيت قيل في الرثاء يعطينا صورة صادقة تؤيد ما أعتقده الأدباء في ذلك وهو قول ليلى بنت طريف ترثي أخاها:

أيا شجر الخابور مالك مورقاً    ****   كأنك لم تحزن على ابن طريف

ومع ما في هذا البيت من سمو فأنه يتصف أزاء فن الرثاء بعد وقعة الطف، ولعل لحقني بعد اطلاعي على أدب الرثاء عند الفراتيين وما ابتكروه من معان وما حصلوا عليه من متانة ممزوجة برقة وإنسجام.

وإذا ما أردنا أن نستعرض أدب الرثاء في القرون الإسلامية الأربعة عشر لاشك يحتاج الى زمن مشفوع بدراسة دقيقة ونظراً لأني صرفت زمناً في دراسة أدب الرثاء. بشكل تدويني ولم اتتبعه من الناحية التحليلية إلاّ مستطرداً وذلك في كتابي ( شعراء الحسين) الذي تضمن ترجمة ثلثمائة شاعر مع إثبات عيون ما قالوه في رثاء الحسين، وحتى الآن أنا جاد بكل قواي لإستيفاء هذا الموضوع الخطير الذي أرجوا أن أوفق للإحاطة والإشباع به، لذا تراني في بحثي هذا لم أخض إلاّ بشكل استطرادي، وكم كنت أود أن يتقدمني أديب شهير فيخوض هذا الموضوع بالشكل الذي أرومه لعلي أسير على ضوئه فلم أجد من كتب حتى أدى حرصي إلى أن أقترح على العلامة الكاتب الشهير عبد الله العلايلي في مقالي الذي نشرته في السنة الأولى من مجلة ( الغري) تحت عنوان (مقتل الحسين وعناية المؤلفين به) أن يكتب مقالاً تحت عنوان ( مقتل الحسين وتأثيره على الأدب العربي) في إحدى حلقاته التي أعدها حينذاك لتاريخ الحسين نظراً للثقة التي كسبها هذا الكاتب المبدع بين أدباء العرب وما اختص به من متانة الأسلوب ولا أدري هل قرأ هذا الإقتراح أو أنه لم يقف عليه أو كتب ولم يصلني منه شيء، ذلك ما تمنيت أن يكون لأسير أنا على ضوئه أولا وبعد ذلك من شاء فليكتب حيث أن هذا الموضوع يستوجب نهضة قلمية واسعة تقوم بإشباعه والكشف عن اسراره ولا أشك بأني قد أخذت على عاتقي هذا العبء مع قصر الباع المشفوع بقصر الزمن.

ولعل القارئ يشعر معي أن اشباع هذا الموضوع يحتاج الى سفر كبير وبالأخير يوشك أن يستوفيه من يحاول الكتابة عنه، وصحائف معدودة لا تكفل تأدية الـمقصود والوصول إلى البقية التي أحاولها، فإذا وجب عليّ أن أقوم بتأدية ما استطيعه مستمداً ذلك من استحضار الوقت.

ليست واقعة الطف من الوقائع التي خفيت على الناس لأقوم بتعريفها فقد مر عـليها أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي كما قال الشاعر الخالد السيد جعفر الحلي:

في كل عام لنا بالعشر واعية   ****   تطبق الدور والأرجاء والسككا
يا ميتـاً ترك الألباب حائرة  ****    وبالـعراء ثـلاثاً جسمه  تركا

أو كما قال الشيخ عبد الحسين الأعسم:

انست رزيتكـم رزايانا التـي   ****    سلفت وهونت الرزايا الآتية
وفجائـع الأيـام تبقـى مدة    ****    وتزول وهي إلى القيامة باقية

حقاً ما قاله هذا الشاعر فهي باقية خالدة وستبقى حتى يتلاشى الوجود بين طيات العدم ولفداحتها التاريخية وعدم مشابهة واقعة لها أوجب أن تصرخ الإنسانية لها صرخة لا تهدأ حتى تنـعدم الإنسانية من صفحة الوجود، وقامت زمر بالنياحة على ذلك الشهيد الذي خط بدمه الطاهر على صحيفة العدل الخالدة دروس الدين التي حاول الأمويون محوها من تلك الصحيفة الإلهية فخسئوا وكان عاقبة أمرهم الخزي والعار المؤبدين.

ولأثر هذه الفاجعة في القلب تعاقبت الزمر تلو الزمر يندبون بذلك البطل بشتى الأساليب وبمختلف اللغات وناحية شعراء القرون الإسلامية أجمع وفي طليعتهم شعراء القرون الأولى منهم سليمان بن قتة العدوي، والحسين بن الضحاك، وجعفر بن عفان حينما دخل على إمامنا جعفر الصادق  عليه السلام) ومثله دعبل الخزاعي، وعبيد الله بن الحر الجعفي، والفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، وعتبة بن عمرو العبسي وهو أول من رثى الحسين حسبما ذكر سبط بن الجوزي في كتاب ( التذكرة) قائلاً:

مررت على قبر الحسيـن بكربلا   ****    ففاض عليه من دموعي غزيرها
وما زلت أبكيه وأرثي لشجـوه   ****    ويسعد عيني مـدمعي وزفيرها
وناديت من حول الحسين عصائباً   ****    أطافت به  من جانبيـه قبورها

ومنهم ذو الحسبين الشريف الرضي ذلك الذي أفهمنا عنه التاريخ أنه زار الحسين وأخذ يطوف حول قبره وهو يرتجل مقصورته الشهيرة التي اعربت عن حقيقة الرثاء قائلاً في مطلعها:

كربلا  لا زلت كرباً وبلا    ****    ما لقى عندك آل المصطفى

فما اتمها إلاّ وقد أغمي عليه زمناً طويلاً، وتلميذه مهيار الديلمي ذلك الذي أدخل فناً على الرثاء لم يجيء بمثله من سبقه، وتراه يصف ضريح الحسين بإسلوب ثم عن بلاغة وسمو في الأدب يقول:

كأن ضريحك نشر الربيع   ****     مرّ عليه نسيم الخريف

ومنهم أبن الهبارية الحسين الشاعر الشهير الذي أبدع في الرثاء غاية الإبداع، ومثله من اسمه طابق مسماه بديع الزمان الهمداني.

وإذا ما حاولنا أن نذكر لك شعراء القرون الوسطى فتحتاج إلى أن نقدم لك سفراً ضخماً في أسمائهم كإبن أبي الحديد المعتزلي صاحب شرح النهج ومن في طبقته.

ولكن هلم فلتعرف فن الرثاء حينما أذكرك بشعراء القرون الأخيرة كالشيخ علي الشفهيني والشيخ جعفر الخطي، والسيد علي خان الشيرازي صاحب السلافة، والسيد ماجد بن السيد هاشم البحراني، والشيخ حسن الدمستاني، والسيد محمد الشاخوري، والشيخ يوسف أبو ذيب، والشيخ عبد النبي الخطي، والسيد حسين بن السيد علي الشاخوري، والشيخ محمد بن الشيخ يوسف البلادي، والشيخ علي بن حبيب الخطي، والشيخ شهاب الدين الحويزي، والشيخ سلمان الماحوزي صاحب كتاب (بلغة الرجال)، والشيخ داوود الجد حفصي، والسيد محسن البغدادي الأعرجي صاحب كتاب (المحصول)، والسيد سليمان الحلي، والسيد أحمد وولده السيد روؤف الجد حفصي، والشيخ لطف الله الجد حفصي، والشيخ سلمان الكبير، والحاج جواد بركت الحائري، والشيخ محسن أبو الحب، والشيخ أحمد قفطان، والشيخ حسن قفطان، والسيد مهدي بن السيد داوود الحلي، والشيخ عبد الحسين والشيخ عباس الأعسميين، والشيخ محسن آل الشيخ خضر، والشيخ محمد نصار، والسيد محمد القطيفي، والشيخ علي الخليعي، والسيد عبد المطلب الحلي، والشيخ أحمد زين الدين، والسيد مهدي القزويني، وأولاده السيد جعفر والسيد صالح والسيد محمد، والشيخ حسن إمصبح الحلي الذي أبدع في فن الرثاء إبداعاً لم يسبقه إليه أحد من عصبة الرثاء ولعله لا يأتي أحد من بعده فقد رثى الحسين بديوان ضخم وبضمنه ((روضة)) تشتمل على 29 قصيدة على عدد حروف المعجم يبتدأ بالحرف الذي ينتهي به بمتانة وإنسجام بالإضافة إلى ما قيد نفسه به، وهي على ما نسق ما صنعه الشاعر المبدع صفي الدين الحلي في الروضة التي خصها لمدح الملك المنصور.

ولعلك أيها القارئ استغربت في عدم ذكري لمشاهير عصبة الرثاء من الفراتيين المتأخرين الذي غنى بشعرهم أحمد شوقي وأخوانه المصريين كالشاعر الفحل السيد حيدر الحلي، والحاج هاشم الكعبي، والشيخ صالح الكواز، والسيد جعفر الحلي، ومن جاراهم في الحلبة كالسيد إبراهيم الطبأطبائي، والشيخ محمد رضا الخزاعي، والشيخ سالم الطريحي وهو الذي يقول:

عانقوا المرهفات حتى تهاووا    ****   صرعا في الثرى بحر الصيوف
وبقي ابن النبي لم ير عونـاً     ****   في الوغى غير ذابـل ورهيف
فأنثنى للنـزال  يكتال آجا    ****    لا فوفى بالسيف كل طفيـف
كم جيوش يلفهـا بجيوش    ****    وزحـوف يلفهـا بزحـوف
كلما هم أن يصول عليهم   ****     هـمت الأرض خيفة  برجيف
لم  يزل يورد المواضي نجيعاً   ****     من رقاب العدى بقلب  لهوف
فدعاه داعي القضاء فألوى   ****     عـن هوان لدار عز وريـف

لا انكر استغرابك حينما تجدني قد تأخرت عن ذكرهم فلعمري لهم بيت القصيد وروح البحث ونقطة الدائرة، وقل أبطال الخلود، فلقد ضربوا رقماً قياسياً مما عجز باقي الشعراء عن الحصول عليه.

ولا تصح الدعوى ما لم تشفع ببينة، فهاك أولاً ما يقوله السيد مهدي عم السيد حيدر الحلي:

تحملوا محناً لو بعضها حـمل  الـ     ****    سبع الطباق هوت ضعفاً على الترب
بساعة لو تكون  الساعـة  اقتربت    ****   منها تكـافأتـا في شـدة الكـرب
حيث الكريهة  ترمي للسما شـرراً  ****    كالقصـر نيرانها من شـدة اللهـب
وحين  قامت على ساق جثت غضباً    ****  لها بنو مضـر الحمـرا على الـركب
من تحتهم لو تزول الأرض لأنتضبوا   ****   على  الهوى  هضباً أرسـى من الهضب
أبطال حرب أذا عضوا نواجذهـم   ****   لا منـجد لأعـاديهم سـوى  الهرب
أفهل سبق أيها القارئ أن قرأت شعراً بهذا الأسلوب من الفن الذي مزج فيه الرثاء بالفخر والحماسة، ولعلك لم تعرف بأن إبن أخيه هو السيد حيدر الحلي الذي ولد 1246هـ- وتوفي 1304هـ قد سبق أبطال حلبة أدب الرثاء بشعره الذي سجله بمذاب القلب لقوله:
عـجباً للعـيون لم تفـد بيضاً   ****    لمصاب تحمر فيـه الدمـوع
وأسى شابـت الليـالي علـيه   ****    وهو للحشر في القلوب رضيع
أينمـا طارت النفوس شعاعـاً   ****    فلطير الردى عليـه وقـوع
فأبى أن يعيـش  إلاّ عـزيـزاً  ****    أو تجلـى الكفاح وهو صريع
فتلقى الجمـوع فرداً ولكـن   ****   كل عضو في الروع منه  جموع
زوج السيـف بالنفوس ولكن    ****  مهرها الموت والخضاب النجيع

أحسب أن هذه الأبيات لا تحتاج بمعناها إلى إيضاح لما حوته من نكت البديع بحسن الإنسجام ورصانة تركيب بقوله: (زوج السيف) ولابدع إذا كان مفتوناً المرحوم أمير الشعراء أحمد شوقي بشعر هذا الفحل حينما اجتمع أحد طلاب البعثة العراقية في طريقه إلى السوربون فقال له إقرأ لي شعراً فراتياً فقرأ له من شعر بعض الشعراء المعاصرين فقال له إقرأ:

عثر الدهر ويرجوا أن يقالا **** تـربت كفك من راج محالا
وقفوا والموت في قارعة **** لـو بها أرسـي ثـهلان لزالا
فأبوا إلاّ اتصالاً بالضبا **** وعن الضيم من الروح إنفصالا 
أرخصوها للعوالي مهجاً**** قـد شـراها منـهم الله فغالى
أيها الراغب في تغليسة **** بأمون قـط لم تشكـوا الملالا
اقتعدها وأقم من صدرها **** حيث وفد البيت يلقون الرحالا
وأحتفيها من لساني نفثة **** ضرما حولها الفيض مقالا
وإذا أندية الحي بدت **** تشعر الهيبة حشداً وإحتفالا
قف على البطحاء وأهتف ببني **** شيبة الحمد وقل قوموا عجالا
كم رضاع الضيم لاشب لكم *** ناشئ أو تجعلوا الموت فصالا
قوموها أسلاً خطية **** كقدود الغيد ليناً وإعتدالا
وأخطبوا طعناً بها عن السن **** طالما أنشأت الموت إرتجالا
وأنتضوها قضباً هندية **** بسوى الهامات لا ترضى الصقالا


حق لشوقي أن يعجب ويعجب لأنه لا يعرف العظيم إلاّ العظيم كيف لا وقد جللها فن البديع بأنواعه من مقابلة إلى جناس إلى تورية كما نجد فن (البيان) قد صف بها لإقتران اللفظ بالمعنى ولا ننسى أنه هو الذي يقول:

يلقى الكتـيبة مفـرداً    ****   فتفرُّ دامـية الجـراح
وبهامها اعتصمت  مخافة    ****  بأسه بيـض الصفـاح
وتسترت منـه حياءاً في  ****   الحشا  سمـر الرمـاح

أفهل سبق أن سمعت من المتقدمين والمتأخرين قائلاً:

وتسترت منه حياءاً في الحشا سمر الرماح وهل تعتقد بأن هذا شعر ينتزعه الإنسان من مخيلته ساعة أن يشاء كلا !!! بل كما قال الأستاذ الكبير الجواهري.

إنــه ذوب قلـوب    ****     صيغ من لفظ مذاب

ولعلك ترغب أن أثبت لك من هذه القطع القلبية وأن نكون للسيد حيدر فخذ قوله في وصف الحسين(عليه السلام) وفتيته البواسل وأصحابه الأشاوس بإسلوب تداخلت فيه جميع أنواع الشعر وإزدحمت عليه غير ان ظاهره الرثاء قوله:

غداة أبو السجاد جاء يقودها **** أجادل للهيجاء يحملن أنسرا
عليها من الفتيان كل أبن نثرة **** يعدُّ قتير الدرع وشياً محبرا
أشم إذا ما أفتض للحرب عذرة **** تنشق من اعطافها النقع عنبرا
من الطاعني صدر الكتيبة في الوغى **** إذا الصف منها من حديد توقرا
هم القوم إما أجروا الخيل لم تطأ **** سنابكها إلاّ دلاصاً ومغفرا
إذا ازدحموا حشداً على نقع فيلق **** رأيت على الليل النهار تكورا
كماة تعد الحي منها إذا انبرت **** عن الطعن من كان الصريع المقطرا
ومن يخترم حيث الرماح تضافرت **** فذلك تدعوه الكريم المظفرا
فما عبروا إلاّ على ظهر سابح **** إلى الموت لما ماجت البيض أبحرا
مضوا بالوجوه الزهر بيضاً كريمة **** عليها لثام النقع لاشوه  اكدرا
فإن يمس مغبر الجبين فطالما **** ضحى الحرب في وجه الكتيبة غبرا
وإن يفضي ضمآناً تفطر قلبه **** فقد راع قلب الموت حتى تفطرا


تجلى لك ماذا أدخله الشاعر على فن الرثاء من اسلوب بديع وفن مبتكر فبينما تجده في صدر البيت يرثي فيقول: فإن يمس مغبر الجبين. تراه قد إنتقل إلى الفخر والحماس بقوله: فطالما ضحى الحرب، وهو لا يزال في البيت نفسه وهكذا الذي قبله والذي بعده، ولو تأملت في بيت من هذه القصيدة الطويلة يعني به عقيلة آل البيت زينب الكبرى إبنة علي (عليهم السلام) لأستشعرت ما غمر أدب الرثاء من الفن العجيب والأسلوب الساحر بقوله:

مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع   ****   عمـاداً لـهـا إلاّ وفـيـه تـعثـرا

اهل سبق أن شاعراً خاطب مثكلة بفقد عزيزها بمثل هذه اللغة العجيبة.

ولا أحسب أيها القارئ لو حدثتك عن هذا الشاعر وعرضت عليك صوراً من شعـره أياماً وليالي أن يعتريك سأم أو يخامرك ملل كيف وهو ينحت من قلبه ويـقدمه لك كقوله:

وخائضين غمار الموت طافحة   **** أمواجها البيض بالهامات تلتطم
مشوا إلى الحرب مشي الضاريات لها**** فصارعوا الموت فيها والقنا أجم
فالحرب تعلم أن ماتوا بها فلقد **** ماتت بها منهم الأسياف لا الهمم
قومي الأولى عقدت قدما مآزرهم **** على الحمية ما ضيموا ولا أهتضموا
عهدي بهم قصر الأعمار شأنهم **** لا يهـرمـون وللهيابة الـهرم


ولا شك أن أصدق صورة لغية الشاعر شعره الذي تصعده نفثات صدره وفي شعره هذا اعرب عما كمن في قلبه من نار تركها هذا الفادح مما أدى أن يستنجد بقومه الذين قصرت أعمارهم لعدم قرارهم على الذل وما اجلاه حينما يستغرق في وصفهم بقوله:

متنـافسين على المنيـة بينهـم   ****     فكأنما  هي غادة  معطـار
سمة العبيد  من الخشوع عليهـم   ****    لله إن ضمتهـم  الأسحار
وإذا ترجلت الضحى شهدت لهم   ****   بيض القواضب إنهم أحرار

فهل تأملت هذه المقابلة البديعة: عبيد وأحرار وضحى وأسحار، وعبثاً أحاول أن أحيط بالجيد من شعر هذا الفحل الخالد فلعمري ما فيه من غث. وأنظر ما يقوله الشيخ محمد رضا الخزاعي.

سلو الضبا بيضاً وقد راودوا    ****   فيها المنايا السود لا الخردا

ولو أراد أديب شرح هذا البيت لأستطاع أن يقوم بتأليف رسالة في الأدب، ولكن نظرة سريعة تعطيك ما فيه من حلاوة وما تضمنه من إبداع ومقابلة بيض لسود، وتراه أدخل في هذا البيت اسلوب الغزل بقوله: راودوا فيها المنايا. وغير خفي أن المراودة هي المحاولة من قبل الرجل والتمنع والتهرب من جانب المرأة، وقد جعل الشاعر آل هاشم يوم الطف انزلوا المنايا منزلة الغادة الحسناء فراودوها فكانت تهرب من بين أيديهم وتخشاهم وهم يتبعونها، فهل مرَّ على خاطرك أيها القارئ من شعر العرب شيء من هذا الأسلوب، كلا!!!.. بل هذا ما أوجدته واقعة الطف في الأدب فخلقت شعراً شذَّ أن يحصل على مثلهم عند سائر الأمم.

وقد سبق هذا الشاعر الموهوب الشيخ محمد رضا الأزري فقد قام بجولة في ميدان أدب الرثاء أطلعنا فيها على فن عظيم فتراه يصف تهافت الهاتفين على الحرب ويقول:

حي من الشوس معتاد وليدهم   ****   على رضاع دم الأبطال لا اللبن

لعمر أبيه كيف اصطاد هذا المعنى ومن أوحى له بأن يفرغه بمثل هذا القالب الرصين، وترى الأزري الآخر وهو الشيخ كاظم يقول وهو العظيم:-

ما أبرقت في الوغى يوماً سيوفهـم  ****    إلاّ وفاض سحاب الهام بالمطـر
هم الأسود ولكن الوغـى أجـم   ****    ولا مخالب غير البيض  والسمر
قد غيرَّ الطعن منهم كل جارحـة   ****    إلاّ المكارم في امـن من الغيـر
قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها   ****   كالحمد لم يغنِ عنها سائر السور

ولقد تنوع في هذا المعنى شعراء فأفرغوه بقوالب جميلة أخرى منهم السيد مهدي بن السيد داوود الحلي قال:

سطت وأنابيب الرماح كأنها   ****  آجام وهم تحت الرماح أسود
ترى لهم عند القراع تباشراً   ****   كأن لهم يوماً الكريهة  عيـد

وجاء المرحوم السيد رضا الهندي فقال وأجاد:

أسد قد أتخذوا الصوارم  حلية   ****   وتسربلوا حلق الدروع ثيابا
تخذت عيونهم القساطل كحلها    ****   وأكفهم فيض النحور خضابا
يتمايلـون كأنـما غنـى لهم   ****    وقع الضبا وسقاهم  أكوابـا
برقت سيوفهم فأمطرت الطلى   ****    بدمائها والنقـع ثار سحابـا
وكأنهم مستقبلـون كواعبـاً   ****    مستقبليـن أسنـة وكعابـا

واظن لم يفتك ما في قوله من استعارة فنية وسبك جميل ((برقت سيوفهم فأمطرت الطلي)) وإذا ما حاولت أن تثبت لك صورة من أدب الرثاء في وصف عقائل النبوة وما أصابها من شدة العطش وفقدان الكفيل فإنما نثبت شظايا قلوب صورتها لنا تلك المأساة التي لم يمر على بشر مثلها في التاريخ كمنع الماء على رضيع وقتله وعلى أمرأة وسبيها وإليك ما يقوله الشيخ عبد الحسين شكر في  قصيدة طويلة:

أذيبـت برمضـاء الهجير قلوبـها   ****    فأسلبـن من آماقهن  مذابها
وأرياقها تشكوا النضوب من الظما    ****   فتوردهـا شمس الهجير لعابها

كيف صور هذا الشاعر شدة عطش النساء وقسوة بني أمية تجاهها في منع الماء عنها وهم بالقرب منه حتى أوجب أن تعطف الشمس على هذه الحرائر فتسقيهن من لعابها لتخفف عنهن مضاضة العطش، وهاك ما يقوله أمير فن الرثاء السيد حيدر:

كجمر الغضا أكبادهن من الضما   ****   بقفر لعاب الشمس فيه شرابها

وله من قصيدة يصف شكلهن فيقول:

تساقط الأدمع أجفانهـا   ****   كالجمر عن ذوب حشى الهبا
فدمعها لو لم يكن  محرقاً  ****    عاد به وجه الثـرى  معشبا

فلو سألت أيها القارئ أن هذا البيت من أي فن ماذا تجيب..؟ أمن فن المديح أم الفخر أم الحماسة أم الرثاء. لا أحسب إلاّ أن تقول أنه من نوع الفخر ولكن بعد التأمل يعتريك خلاف ذلك وهكذا حتى تصبح بين عوامل تتنازع في مخيلتك فلا توصلك إلى هدف، باعث ذلك نتيجة التوغل والإبداع في فن الرثاء، وإليك ما قاله المرحوم العلامة السيد محمد حسين الكيشوان من قصيدة طويلة:

يوم به الأبطال تعثر بالقنا **** والموت منتصب بست جهاتها
برقت به بيض السيوف فأمطرت **** بدم الكماة يفيض من هاماتها
فكأن فيه العاديات جآذر **** تختال من فرح على تلعاتها
حتى إذا نفذ القضاء وأقبلت **** زمر العدى تستن في عدواتها
نشرت ذوائب عزها وتخايلت **** تطوي على مر الظما مهجاتها
وتفيئت ظل القنا فكأنما **** شجر الأراك تفيئت عذباتها
وتعانقت هي والسيوف وبعد ذا **** ملكت عناق الحور في جناتها


فهل تصورت هذه القطعة وكيف صاغها ناظمها باسلوب مزج الغزل بالرثاء وقل مزج الفنون كلها وما احيلا قوله فكأن فيه العاديات جآذر.

والحق الذي دعي لئن تصبح الشيعة أعلى مظهر للأدب العربي وأقوى إتصالاً من غيرها وأكثر إبداعاً وإنتاجاً له حتى سار المثل (( وهل رأيت أديباً غير شيعي)) هو ما بعثته فيهم قصة الطف وكما اعتقدوه من هضم حقهم وضياعه بيد الأعداء وهامت فيهم النفوس وجرح الأسى أفئدتهم بجراح لا يصلحه ضماد وغمرتهم لواعج الأشجان فأبرزت مكنونات تلك المواهب فاعربوا عنها بلسان الموتور، ولا أنسى ما نقل لي بعض شبابنا المثقف حينما كان طالباً ( في دار المعلمين العالية ) ببغداد في العهد الذي ولى فيه تدريس الأدب العربي بها الزميل الأستاذ احمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة فقال: ((إن الشيعة إمتازت عن سائر الأمم بالأدب التمثيلي لتأثير واقعة الطف في قلوبهم وحرصهم على تصويرها)) وقد أصاب الهدف بقوله. ولكن لم تمتز بالأدب الـتمثيلي وحده وإنما إمتاز بجميع أنواع الأدب والآثار شاهدة على ذلك – ومثلي من يعرف- وليعلم وغيره بذلك من أن للحاج هاشم الكعبي تحسب على الأدب التمثيلي فأصدر حكمة وهي:

واقبلن ربات الحجال وللأسى **** تفاصيل لا يحصى لهن مفصل
فـواحـدة تحنو عليه تضمه **** وأخـرى عليه بالرداء تظلل
وأخرى بفيض النحر تصبغ شعرها **** وأخرى تفديه وأخرى تقبل
وأخرى على خوف تلوذ بجنبه **** وأخرى لما قد نالها ليس تعقل
وأخرى دهاها فادح الخطب بغتة **** فأذهلها والخطب يدهي ويذهل
وجاءت لشمر زينب أبنة فاطم **** تعنـفه عـن أمـره وتـعذل
تـدافعه بالكـف طوراً وتارة **** إليه بطاهـا جـدهـا تتوسل
أيا شمر هذا حجة الله في الورى **** أعد نظراً يا شمر إن كنت تعقل


وإني أتمنى بأن يتسع لي المقام لتزويد هذا الأستاذ الكبير وغيره بآلاف القصائد من هذا النوع مستخرجاً ذلك من كتابي (شعراء الحسين) أو((أدب الطف)) ولما حوته هذه القطعة من دقيق الوصف فقد تحدوا بالسامع لها أنه أمام مشهد فضيع مريع.

إرسال تعليق