أسبقية مدرسة أهل البيت عليهم السلام في تدوين السيرة النبوية وكتابة التاريخ الفلسفي والتحليلي

بقلم: السيد نبيل الحسني

أولا: أقدم المدارس الإسلامية

مما لا شك فيه أن مدرسة المدينة هي من أقدم المدارس الإسلامية الأخرى التي نشأت في الكوفة واليمن ومكة والشام([1]).
وإذا عدنا إلى النهج الذي اتخذه أبو بكر وعمر بن الخطاب في حرق الصحائف والكتب أو محوها ومنع تدوين السنة النبوية، حتى عام 143هـ كما ينص الذهبي([2])، وبإكراه من حكام بني أمية كما صرح الزهري([3]).
فإن مدرسة العترة النبوية عليهم السلام التي لا تعتقد نهج الشيخين قد سعت في الحفاظ على السنة النبوية وتدوينها، وهي بذاك تكون أقدم هذه المدارس الإسلامية قاطبة.

ثانيا: الاختلاف فيمن أول من صنف المغازي

وإذا رجعنا إلى الدراسات التاريخية قديما وحديثا، نجد أن هذه الدراسات خلصت إلى القول بأن أول من اهتم بدراسة المغازي هي مدرسة المدينة.
إلا أنهم اختلفوا فيمن أول من صنف في المغازي.

ألف ــ فقد ذهب البعض إلى (أن من أوائل من دونوا أشياء عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو (سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري) الذي لم تعرف سنة وفاته([4]).
علما؛ أن هذه الأشياء التي كتبها لم تعرف أهي له أم لأبيه الذي لم يعرف عنه أنه كان له شأن في التدوين.
وهذا قولهم: (وربما نظر فيها ــ أي هذه الأشياء ــ معدلا ما كتبه أبوه)([5])، وكان كتابه موجودا في نسخته الأصلية في أوائل العصر العباسي عند حفيده سعيد بن عمرو([6])، وأن قسما مما كتب قد وصل إلينا في كتب المساند مثل مسند أحمد بن حنبل.

باء ــ وقال البعض: (إن أبان بن عثمان بن عفان (توفي بين 95 ــ 105هـ) فهو محدث له ميل إلى دراسة المغازي، ومع أن أحد تلامذته كتب مغازيه، إلا أنها توصف بأنها من الحديث، وإذا استثنينا إشارة اليعقوبي ــ المؤرخ ــ فإننا لا نجد بين المؤرخين من نقل أو روى عنه، في حين أنه يروى عنه في كتب الحديث، ويبدو أن أبان بن عثمان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي)([7]).
ويبدو من خلال قولهم (إننا لا نجد بين المؤرخين من نقل أو روى عنه) دليل على إقحامه في تدوين السيرة النبوية لأغراض تتعلق بالسلطة الأموية، لاسيما وإن عبد الملك بن مروان قد سأله عن كتابة السيرة النبوية فأجابه: هي عنده حاضرة فلما رآها أمر بتخريقها([8]).
وهذه الرواية وإن كانت تدل على بشاعة ما قام به عبد الملك بن مروان فانها كذلك تدل على عدم تصريح أبان بن عثمان عن تصنيفه لهذه السيرة، لاسيما وهو على نهج الشيخين اللذين منعا التدوين.

ولذا: فالظاهر من الرواية أنه كان يحتفظ بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يصرح عن الشخص الذي صنفها، والظاهر أيضا أنها كانت محط استدلال من قال: إن أبان بن عثمان هو أول من صنف في المغازي.

جيم ــ وقال البعض الآخر: (إن عروة بن الزبير (توفي 94هـ) كان مؤسس دراسة المغازي، إذ كان أول من ألّف كتابا في المغازي، وقد وصل إلينا شيء من مغازيه في مقتبسات وردت عند بعض المؤرخين كالطبري، وابن إسحاق، والواقدي، وابن سيد الناس، وابن كثير، وهذه المقتبسات هي أقدم ما وصل إلينا في تاريخ المغازي)([9]).
أما سبب اهتمامه بالمغازي والسيرة النبوية فيعود إلى (أن البلاط الأموي سأله عن حوادث تتعلق بفترة الرسالة، فأجاب عن ذلك برسائل وصل إلينا بعضها في الطبري، وهي من أقدم القطع التاريخية التي وصلت إلينا ومن أوثقها)([10]).

ونستظهر من هذا القول ما يأتي:
1 ــ إن الكتابة عن السيرة كانت من طلب البلاط الأموي الذي له ما له من العداء لأهل البيت عليهم السلام.
2 ــ إن هذه القطع لم تكن معروفة إلا من خلال كتاب الطبري المتوفى سنة 310هـ، أي أنها لم تكن معروفة قبل هذا التاريخ.
3 ــ لم يكن عروة من أهل الاختصاص بالتاريخ والسيرة.
4 ــ إن هناك قطعاً أخرى مختلفة مع التي عند الطبري إلا أن التي عند الطبري هي الأوثق، ولا ندري من الذي وثقها.

ثالثاً: لا دليل على امتلاك مدرسة المدينة التي اتبعت نهج الشيخين لكتاب مستقل في المغازي والسير

لم نحصل من خلال الدراسات في علم التاريخ الإسلامي على نصوص أو نتيجة قطعية على امتلاك مدرسة المدينة، التي اتبعت نهج الشيخين لكتاب مستقل في المغازي أو السيرة النبوية؛ كما هو حال مدرسة العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام التي أثمرت كتابا مستقلا في المغازي والسير كـ: (كتاب سليم بن قيس الهلالي)، وكتاب المغازي والسير لابن اسحاق.
أما الخبر القائل بأن عروة بن الزبير ألف كتابا في (المغازي) فليس له مصدر قديم([11])، ــ كما أن ــ هناك قصة يتضح منها أن إجاباته عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ــ والتي كان قدمها مدونة ــ إنما اعتمدت على الأحاديث التي جمعها بنفسه([12]).
وذكر السخاوي: (أن الزهري وأبا الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل (المتوفى سنة 131هـ) قد رويا المغازي عن عروة)([13])، أي لم يكن لديه كتاب في السيرة قد كتبه بيده، لكي ينقل عن هذا الكتاب، وإنما هي عبارة عن حديث حدّث به. وهذا يدل على عدم اتباع هذه المدرسة منهج التدوين في علم السيرة النبوية كمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

رابعا: أسبقية مدرسة العترة تجليل الحدث التاريخي ونقده

فضلاً عن أسبقية مدرسة العترة بتقديم كتاب مستقل في سيرة الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من تصنيف سليم بن قيس الهلالي رحمه الله، فإن هذه المدرسة قد امتازت بتقديم الحدث، وهو خاضع للتحليل والنقد والبيان.
وهذا يكشف عن امتياز تلاميذ هذه المدرسة بالوعي التاريخي والتحليلي، أي أنهم سنوا المنهج النقدي قبل (فوستل) صاحب التاريخ النقدي بألف وثلاثمائة سنة. وقد أدى هذا المنهج التحليلي والفلسفي والتعليلي الذي انتهجته مدرسة العترة إلى نشوء التفسير التاريخي، فبدأت معه فكرة فلسفة التاريخ بشكل أولي في مدرسة المدينة.
إلا أن الفرق بين مدرسة العترة ومدرسة البلاط الأموي ــ التي أكرهت الزهري على التدوين ومن قبله طلبت من عروة بن الزبير مقاطع من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فكتب لها ذلك ــ الفرق هو أن مدرسة العترة كانت تحلل الحدث، وتنتقده، وتظهر علله وأسبابه ونتائجه، ثم تبني رأيها على هذه المعطيات ــ كما سيمر بيانه في كتاب سليم بن قيس ــ.
بينما مدرسة البلاط الأموي علّلت التاريخ، وفلسفت الحدث على حيثية إرادة الله تعالى، فكانت هي محور هذه الفلسفة، ومنها نشأ الفكر الجبري([14]).
(وإنا لنرى فكرة الجبر التي روج لها الأمويون واضحة في بعض أعمال عوانة بن الحكم، حيث يثبت دفاع بعض الأمويين عن حقهم ودفعهم مسؤولية بعض الأعمال عن أنفسهم، كقيام يزيد بن معاوية بقتل الإمام الحسين عليه السلام، وينسبون ذلك إلى إرادة الله، ويرون في سلطانهم أمرا إلهيا في مظاهر الجبر الإلهي، وإرادة الله الغالبة لكل شيء، ونجد بالمقابل فكرة حرية الإرادة، ومسؤولية البشر عما يقترفون ــ وهو رأي الأحزاب المعارضة للأمويين ــ نجدها واضحة في بعض ما كتب أبو مخنف، وبخاصة فيما يورده عن حركة ــ الإمام الحسين عليه السلام ــ وحركة التوابين)([15]).

خامسا: نشوء الفكر الجبري

إن أول بذرة بُذرت لنشوء الفكر الجبري كانت في زمن أبي بكر، ومنذ الأيام الأولى لتوليه الخلافة التي اتخذت ــ أي الخلافة ــ في بادئ الأمر مفهوم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم اتخذت مفهوم خلافة المسلمين، ثم أمراء وحكام.
فكانت البذرة لظهور الفكر الجبري هي عند قول أبي بكر: (إلا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل بمثل عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أقم به، كان رسول الله عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم ــ أي شعر الرأس ــ وأبشاركم ــ أي بشرة الجلد ــ([16]).
وهذا القول وإن لم يكن محوره (إرادة الله) وانه مجبر على فعله إلا أنه كان البداية لنشوء فكرة التخلي عن مسؤولية الأفعال الصادرة عن الخليفة لعلتين.
1 ــ لأنه لم يكن يوحى إليه، ولذا هو غير ملزم بما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يسدد بالوحي، ولذلك هو لا يخطئ أو إن لديه مبرراً في فعله وقوله وهو الوحي.
2 ــ إن له شيطاناً يعتريه فإذا غضب ووقّع أمراً في قطع رؤوسهم أو أعضائهم، وهو ما كنى عنه بلفظ (أشعاركم وأبشاركم)، فهو غير مسؤول عن هذا الصنع، لأنه مجبر على فعله بسبب اعتراء الشيطان له.
ومما يدل عليه: ما روي عنه بلفظ آخر: (أفتظنون إني أعمل فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ؟ إذن: لا أقوم بها إن رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ كان معه ملك، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم، ألا فراعوني)([17])، أي التخلي عن مسؤولية الأفعال وفي نفس الوقت انه مجبر على القيام بها.
ثم تبلورت هذه الفكرة في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، حينما خرج عليه معاوية بن أبي سفيان، وتحديدا تبلور هذا الفكر في حديث السيدة عائشة؛ التي لعبت دورا أساسياً في دعم خروج معاوية بن أبي سفيان لحرب علي بن أبي طالب عليه السلام، ومما يدل عليه:
ما رواه الذهبي، وابن عساكر، وابن كثير، وغيرهم، عن الأسود بن يزيد، قال: (قلت لعائشة، ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله في الخلافة؟.
فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار)([18]).
ولقد أعطى هذا القول دفعا قويا فيما بعد لحكام بني أمية، كما أنه أعطى نموا للفكر الجبري الذي ظهرت ثمرته في حكم يزيد بن معاوية، الذي يبدو أنه استخدم هذا الفكر بقوة للتخلص من الجريمة التي ارتكبها في حق الإسلام والمسلمين، حينما قام بقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، وسبي بناته وذريته.

 ومما يدل عليه:1 ــ ما رواه الطبري في أحداث سنة 61هـ، من قول عن يزيد بن معاوية وهو يحاول بث الفكر الجبري أمام الحاضرين في مجلسه، وهو يحادث علي بن الحسين عليهما السلام قائلا له: (أبوك نازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت)([19]).
2 ــ وقوله: (إن الحسين لم يقرأ قوله تعالى: ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))([20]))([21]).
3 ــ ولم ينحصر الفكر الجبري بيزيد بن معاوية، وإنما هو عند ولاته أيضا مما يدل على أن هذا الفكر منتشر في الساحة الإسلامية آنذاك.
ومن الشواهد على ذلك:
قول عبيد الله بن زياد والي الكوفة للعقيلة زينب بنت علي أمير المؤمنين عليهما السلام: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك!؟.
فقالت عليها السلام: «ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة»([22]).
أي: إن كنت تسأل عن صنع الله تعالى فالله لا يصنع إلا جميلا، وإن كنت تسأل عن فعل قتلهم فستحاج يوم القيامة وسيخاصمك الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعندها فانظر لمن يكون هذا الفعل الذي نزل بأخي وأهل بيتي أهو لله كما تزعم أم أن هذا الفعل فعلك يا ابن مرجانة.

سادسا: الخلط بين الخلافة والملك

هذه الشبهة التي وقع فيها بعض الصحابة لتتبلور في حكام البلاط الأموي، أي: الخلط بين الظهور بمظهر الخلافة وإن الحاكم إنما هو (خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الظهور بمظهر الملك والسلطان وإن الله تعالى اختار لملكه هذا الحاكم أو ذاك، أدى إلى الاضطراب في السلوك، لأن الخلافة تفرض من خلال موقعها وعنوانها الشرعي المتصل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تفرض على صاحبها السير ضمن الحدود الشرعية، وهو ما لم يتصف به الحكام والملوك، لأنهم لم يخضعوا لتلك الضوابط التي يخضع لها الخليفة، أي خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من ثم فهم لا يعلمون أملوك هم أم خلفاء؟.
ومما يدل عليه:1 ــ روى ابن سعد عن سفيان بن أبي العوجاء، قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أنا خليفة أم ملك؟ فإن كنت ملكا فهذا أمر عظيم.
قال قائل: يا أمير المؤمنين أن بينهما فرقا، فإن الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر([23]).
2 ــ وعن ابن سعد ايضا، عن سلمان المحمدي (الفارسي)، أنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟.
فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة؛ فاستعبر عمر([24]).
3 ــ روى الثعلبي في تفسيره، أن عمر بن الخطاب سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟.
فقال طلحة والزبير: ما ندري.
فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم في السوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بكتاب الله.
فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكن الله عز وجل ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا([25]).
ورب سؤال يفرض نفسه في البحث: مَنْ مِنَ الذين جلسوا على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت فيه هذه الصفات، التي ذكرها الصحابي الجليل سلمان المحمدي رضوان الله تعالى عليه؟ كي نعلم من منهم كان خليفة ومن كان ملكاً.
4 ــ قول عائشة الذي سبق، حينما سألها الأسود بن يزيد عن منازعة معاوية بن أبي سفيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من الطلقاء ــ أي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أطلقه من الأسر يوم فتح مكة هو وجميع المشركين، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء ــ فكان الأسود متعجبا من منازعة معاوية الصحابة في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالت: (وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار).
ويظهر من حديث عائشة:أ. إمكانية أن يجلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحكم المسلمين من يكون كفرعون ملك مصر أو غيره من الكفار، من ثم: ليس هناك من عجب في منازعة معاوية بن أبي سفيان؛ وهو من الطلقاء؛ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ب. الخلط واضح في الفكر السائد عند الرموز الإسلامية بين مقام خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين الملك الذي يمكن أن يظهر في كافر من الكفار كفرعون، لأن السائل يسأل عن خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعائشة تجيب عن الملك.
ج. وجود حالة من النزاع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مقام الخلافة أو الملك كلا منهم حسب فهمه لهذا الموقع.
د. إسكات الأصوات المعارضة لهذا النزاع، والتي تُظهر نسبة من الوعي والقدرة على تميز الدخلاء على موقع خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن غيرهم.
هـ. إفراغ موقع خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العنوان الشرعي من خلال المقارنة بينها وبين ملك مصر، في حين كان يلزم الأمر أن تكون المقارنة بين موسى عليه السلام وخليفته، وهذا يدعو إلى الاعتقاد منذ البدء بأنه ملك وليس خلافة مرتبطة بالسماء كما عنون لها القرآن: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)) ([26]). وهو نبي الله آدم عليه السلام.
ولذا حاول أولئك الحكام إصباغ موقعهم السلطوي بصبغة شرعية محورها إرادة الله، وأن الملك لله تعالى يهبه من يشاء، وعليه فيمكن أن يكون الحاكم أسوء من فرعون، ولا علاقة للحدود الشرعية في أمره ونهيه وفعله وتركه، وهو ما كان عليه حال المسلمين خلال القرون الماضية، وليس حالهم اليوم بأفضل من أمسهم.
إذن: لم تكن لمدرسة أهل البيت عليهم السلام الأسبقية في التدوين فقط، وإنما كان لها الأسبقية في الوعي التحليلي والفلسفي والنقدي، فقدمت مع الحدث تحليلا وبيانا يوضح الأسباب والنتائج التي كونت الحدث.
أما من حيث الأسبقية في تدوين (المغازي) فقد سجل هذا السبق إلى عبيد الله بن ابي رافع كاتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على مدة خلافته في الكوفة.
فقد قام بكتابة من شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام ــ في حروب الجمل وصفين والنهروان من الصحابة([27])، وهو (أول من صنّف في المغازي والسير والرجال في الإسلام لأنه لم يعرف من سبقه)([28]).
وأما من حيث تدوين سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع بيان المنهج التحليلي والفلسفي والنقدي للحدث؛ فقد برز سليم بن قيس الهلالي.

...........................................
المصادر:

([1]) راجع التاريخ والمؤرخون لمصطفى شاكر: الفصل الثالث والرابع. المدارس الإسلامية الصغرى والكبرى: ج 1، ص 113 ــ 160.
([2]) تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1، ص151 و229.
([3]) تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين: ج 2، ص 65.
([4]) تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين: ج 2، ص 65.
([5]) المصدر السابق.
([6]) التهذيب لابن حجر: ج 4، ص 69.
([7]) نشأة علم التاريخ لعبد العزيز الدوري: ص 19.
([8]) الموفقيات ــ الزبير بن بكار: ص322 ـــ 323.
([9]) نشأة علم التاريخ عند العرب للدوري: ص 19 ــ 20.
([10]) نشأة علم التاريخ عند العرب للدوري: ص 55.
([11]) تاريخ التراث الإسلامي لفؤاد سزكين: مج 1، ج 2، ص 70 ــ 71، نقلا عن كشف الظنون لحاجي خليفة: 1747.
([12]) تاريخ التراث الإسلامي: ج2، ص 71.
([13]) التهذيب لابن حجر: ج 9، ص 307 ــ 308.
([14]) الجبرية، هذه اللفظة أخذت من (الجبر) ومفهومه عند معتقديه هو نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى (الملل والنحل للشهرستاني: ج 1، ص 85).
ونشأ الفكر الجبري عند بعض المسلمين نتيجة لظهور الخلاف فيما بينهم في القيادة الفكرية (فحدّثت مذاهب واتجاهات ووجدت مناهج متباينة في المعارف الاعتقادية فاختلف المسلمون في هذا المجال إلى معتزلة وجبرية، وانقسمت المعتزلة إلى واصلية، هذلية نظامية، خابطية، بشرية، معمرية،مردارية،ثمامية،هاشمية،جاحظية،خياطية،وانقسمت الجبرية إلى: جهمية، نجادية، ضرارية.
([15]) التاريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى: ص 90 ــ 91.
([16]) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 212.
([17]) كنز العمال للمتقي الهندي: ج 5، ص 590. الغدير للعلامة الأميني: ج 7، ص 118.
([18]) سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 143. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 59، ص145. البداية والنهاية لابن كثير: ج 8، ص 140. شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج2، ص 159. الغدير للعلامة الأميني: ج 10، ص 173.
([19]) تاريخ الطبري: ج5، ص 461.
([20]) سورة آل عمران، الآية: 26.
([21]) تاريخ الطبري: ج 5، ص 464.
([22]) كتاب الفتوح لابن أعثم: ج 5، ص 122. مثير الأحزان لابن نما الحلي: ص 71. اللهوف لابن طاووس: ص 94.

([23]) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 307. الدر المنثور لجلال الدين السيوطي: ج 5، ص306.
([24]) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 306. تاريخ الطبري: ج 3، ص 279. الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3، ص 59.
([25]) تفسير الثعلبي: ج 1، ص 177.
([26]) سورة البقرة، الآية: 30.
([27]) التاريخ العربي لشاكر مصطفى: ج 1، ص 170.
([28]) الذريعة للطهراني: ج 4، ص 181. التاريخ العربي لشاكر مصطفى: ج 1، ص 170.


إرسال تعليق