إعانة الزوج لزوجته في المنزل منهج حضاري وأساس ديني

بقلم: السيد نبيل الحسني


ربما يجد البعض أن قيام الرجل بإعانة المرأة في إنجاز بعض أعمال البيت هو مما لا يتناسب مع مقامه الذكوري، بينما يجد البعض الآخر تحميل المرأة المشاق هو من نتاج فرض ذكوريته عليها.

في حين أن إسهام الزوج بالقيام ببعض أعمال البيت هو منهج حضاري يحقق للأسرة دوام المودة، ويشعر الزوجة بجو الرحمة، كما يدل على رسوخ المروءة في شخص الرجل.

وعند النظر إلى بيت فاطمة وعلي عليهما السلام نجد أن أمير المؤمنين عليّاً، كان أول من وضع هذا المنهج الحضاري في حفظ الأسرة وسلامتها.

فكان عليه السلام يعين البضعة النبوية في إنجاز بعض الأعمال المترتبة على عاتقها، فيقوم بـ(كنس الدار) كي يدل بهذا العمل الإنساني أن الدار التي تجمعه مع شريكة حياته تستحق أن يعتني بها لأنها حاضنة الحب الأسري، وهي الرمز لهذا لحب.

وهو في نفس الوقت يشير بهذا العمل إلى منهاج أخلاقي يسفر عن طباع الزوج اتجاه شريكة حياته وأم أولاده، فهذه الطباع لا يمكن أن تنكشف أو تظهر للطرف الآخر إلا من خلال المعاشرة.

وقد توصلت الأبحاث والدراسات المعاصرة: (أن الإنسان يظهر في مجرى معاشرته للناس الآخرين جوهره الأخلاقي من جهة، ومن جهة أخرى تبدو المعاشرة كوسيلة لتطوره الأخلاقي.

وعن طريق المعاشرة الحقيقية الحميمية الداخلية يحاول الإنسان التخلص من محدوديته ونواقصه وإيجاد ذاته الأخرى (atter eqo) وبسط مكامن روحه أمامه)[1].

وقد دلت: (أن أساليب التعامل التي تنشأ في الأسرة منذ مستهل الحياة الزوجية هي بمثابة العوامل الحاسمة التي تعمل على بقاء الأسرة أو انحلالها)[2].

بينما عدّت بعض الدراسات أن (الارتباط السيكلوجي والروحي يتوطد بين المحبين بالزواج مقترضاً قدرة عند كليهما للاعتناء أحدهما بالآخر ومساعدته، واحترام مشاعر الأسرة، ووجود قدرة أيضا على تبادل تحمل المسؤوليات)[3].

في حين أن: (الناس المحدودين روحيا وغير المستعدين للزواج الأخلاقي، لا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية أو امتلاك هذه القدرات)[4].

وكفى بالباحث المتبع لسبل السعادة الزوجية بالنظر إلى منهاج علي وفاطمة C في تبادل تحمل مسؤوليات الحياة الزوجية، وكفى ببيت فاطمة دلالة على نمو التوافق الزواجي في جميع جوانب الحياة الأسرية.

وذلك من خلال مجموعة من الصور الحياتية التي دلت عليها الروايات وهي كالآتي:

1ـ رعاية الإمام علي لفاطمة عليهما السلام وإيثارها على نفسه في تحمل عمل البيت


من الصور الحياتية الكاشفة عن طبيعة التعامل فيما بين علي وفاطمة عليهما السلام التي تقدم أنموذجاً جديداً في رفع مستوى الحب والمودة فيما بين الزوجين هو قيام الزوج بإيثار زوجته على راحته وحرصه في استحصال راحتها على الرغم من احتياجه إلى ذلك وهو ما كان مخالفاً ـ ربما ـ لكثير من الأعراف الاجتماعية لدى الناس؛ إذ غالباً من يقوم بالإيثار المرأة فهي تقدم راحة زوجها على راحتها لاسيما إذا كانت هذه المرأة قد نشأت في بيئات ذكورية أي: طغيان الجانب الرجولي على الجانب الأنوثي الذي يلقي بجل أتعابه على كاهل المرأة.

في حين نجد أن بيت علي وفاطمة عليهما السلام يعطي أنموذجا أخلاقياً ينطق عن روح القرآن والإسلام الذي يقدم المرأة في مجال الرفق والعطف والرأفة على الرجل ضمن قاعدة نبوية متوغلة في سيوكولوجية المرأة، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «المرأة ريحانة وليست قهرمانة».

ومن هذا النهج النبوي في التعامل مع المرأة ينطلق الإمام علي عليه السلام وهو التلميذ المطيع والمتبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع زوجته وشريكة حياته.

فقد روى شاذان بن جبريل القمي رحمه الله قائلاً: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي وفاطمة (وهما يطحنان الجاورس[5]، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أيكما أعيا؟ فقال علي عليه السلام: فاطمة يا رسول الله فقال لها: قومي يا بنية فقامت، وجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعها مع علي فواساه[6] في طحن الحب).

وتدل الرواية أيضاً:

ألف: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتساوي لهما وحرصه على إعانة المتعب منهما، سواء كان علي أو فاطمة عليهما السلام، في حين يكون الأمر لدى أغلب الناس تقديم الأب ابنته على زوجها لأنها الأقرب إلى قلبه فضلاً عن عاطفة الأبوة لكننا هنا: نلمس حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتساوي لهما، وهذا فيما يخص حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من موضع النبوة لهما.

باء: أما فيما يخص موضع التربية الأسرية فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم درساً تربوياً للآباء حينما يقومون بزيارة بيوت أبنائهم أو بناتهم أن يعتمدوا أعلى استخدام هذا الأسلوب التربوي الكاشف عن إظهار الحب لكلا الزوجين مما يعزز أوامر المودة فيما بين الأسرة فضلاً عن دفع الهواجس النفسية الغالبة أحياناً كثيرة في إشعار الطرف الآخر في تحميل المرأة فوق طاقتها.

جيم: امتثال فاطمة عليها السلام لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيامها دون أن تبادل علياً عليه السلام هذا الإيثار كان للأمور، منها:

1ــ طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «قومي يا بنية» فكان الامتثال أمراً واجباً.

2ــ إن الجانب الأنوثي في المرأة يدعوها بإشعار الزوج بأنها تستظل بظله ولا غنى لها عن عونه ورعايته ومن ثم سكوتها كاشف عن أنوثتها وتغليب هذه الصفة على غيرها من المشاعر كإظهار الرغبة في تحقيق راحة الزوج لاسيما إذا كان الأمر لا يشكل في الواقع عبئاً على الرجل أو يستلزم منه بذل جهود كبيرة كطحن الحب بالجاروس.

3ــ حقيقة حالها عليها السلام أنها كانت قد تعبت إلا أنها لم تجد من يعين عليّاً عليه السلام إذا قامت ولذا كانت أيضا قد آثرت علياً مع احتياجها للراحة.

2ـ تعظيم حق الأسرة وتهذيب النفس على خدمة العيال عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم


إن التتبع للروايات التي تتحدث عن طبيعة الحياة الزوجية لفاطمة عليها السلام يكشف عن برنامج نبوي مقتضب يتابع فيه أسلوب التعايش والمعاشرة فيما بين هذين الزوجين لغرض خلق البيت الأنموذج في الإسلام.

ولذا: ما فتئ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من تعدد زياراته لبيت فاطمة وكثرة متابعته للحياة الأسرية الجديدة.

من هنا: إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغل تلك اللحظات التي يدخل فيها إلى بيت علي وفاطمة كي يضع الأسس والضوابط في تقنين تلك الحياة ويرسم لكل منهما حدود ذلك التعايش المبني على قاعدة الحقوق والواجبات وقاعدة العرض والطلب.
وهنا: في هذه الصورة التي سنوردها نجد مجموعة من المعطيات سواء على المستوى الامتثالي بمن سبق من الأنبياء عليهم السلام أو على المستوى التهذيبي للنفس أو المستوى الإيماني ممثلاً في الأجر والثواب، أي تعزيز الشعور بمراقبة الباري عزّ وجل حرصاً على نيل الرضا منه سبحانه وتعالى.

فقد روى المحدث النوري نقلاً عن جامع الأخبار، عن علي عليه السلام قال: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَفَاطِمَةُ عليها السلام جَالِسَةٌ عِنْدَ الْقِدْرِ وَأَنَا أُنَقِّي الْعَدَسَ، قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اسْمَعْ وَمَا أَقُولُ إلاّ مَا أَمَرَ رَبِّي، مَا مِنْ رَجُلٍ يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إلاّ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ صِيَامُ نَهَارِهَا، وَقِيَامُ لَيْلِهَا وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ الصَّابِرِينَ، وَدَاوُدَ النَّبِيَّ، وَيَعْقُوبَ، وَعِيسَى، عليهم السلام.

يَا عَلِيُّ مَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ عِيَالِهِ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَأْنَفْ كَتَبَ اللَّهُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَوَابَ أَلْفِ شَهِيدٍ وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ ثَوَابَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عِرْقٍ فِي جَسَدِهِ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ.

يَا عَلِيُّ سَاعَةٌ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفِ حَجٍّ، وَأَلْفِ عُمْرَةٍ، وَخَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلْفِ رَقَبَةٍ، وَأَلْفِ غَزْوَةٍ، وَأَلْفِ مَرِيضٍ عَادَهُ، وَأَلْفِ جُمُعَةٍ، وَأَلْفِ جَنَازَةٍ، وَأَلْفِ جَائِعٍ يُشْبِعُهُمْ، وَأَلْفِ عَارٍ يَكْسُوهُمْ، وَأَلْفِ فَرَسٍ يُوَجِّهُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ، وَمِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ أَلْفِ بَدَنَةٍ يُعْطِي لِلْمَسَاكِينِ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ.

يَا عَلِيُّ مَنْ لَمْ يَأْنَفْ مِنْ خِدْمَةِ الْعِيَالِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَا عَلِيُّ خِدْمَةُ الْعِيَالِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ، وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَمُهُورُ حُورِ الْعِينِ، وَيَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ، وَالدَّرَجَاتِ، يَا عَلِيُّ لاَ يَخْدُمُ الْعِيَالَ إلاّ صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»[7].

والرواية ـ كما أسلفنا ـ تعطي جملة من المعطيات النبوية في تحديد نظام هذه الحياة الأسرية وتقنين حالة التعايش الحياتي بين الرجل والمرأة، وهي كالآتي:

ألف: مداومة الإمام علي عليه السلام على إعانة فاطمة عليها السلام في عمل البيت لاسيما في إعداد الطعام


إن أول أمرٍ ترشدنا إليه الرواية هو مداومة الإمام علي عليه السلام على إعانة زوجته في عمل المنزل وذلك من خلال دلالة الروايات في بيانها لهذه الصورة عند كل دخول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت فاطمة عليها السلام، فمرة يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجد عليا جالسا يطحن الحب بالجاورس ويعين فاطمة ومرة أخرى يدخل عليها فيجده يعينها في أمر الطبخ فينقي لها العدس.

مما يدل بوضوح على أن وقوف الزوج في المطبخ لإعانة زوجته في إعداد الطعام لم يكن من إفرازات الحداثة ولم يبتكره الحداثيون وإنما هو من صميم التربية الأسرية الإسلامية المخصوصة في بيت علي وفاطمة عليهما السلام.

بل إن ما قدِم إلينا من ثقافة أسرية ينادي بها أهل الاختصاص في علم الاجتماع بأنها نتاج جهد ودراسة متواصلة في رصد طبيعة العلاقة الزوجية وتقويمها فكان من بينها إعانة الزوج لزوجته في عمل المنزل هو في حقيقته جهد مسروق من الثقافة الإسلامية كان المسلمون الذين تخلفوا عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام هم المسؤولين عن تغييب هذه الثقافة عن المسلمين وهم المسؤولين عن سرقته فيما لو أردنا أن نضع ذلك المنهج ضمن حقوق الملكية الفكرية لبيت فاطمة عليها السلام.

وعليه: ينبغي بأهل الاختصاص في التربية والنفس والاجتماع وعلى رأسها علم الأخلاق الرجوع إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام لأخذ المعلومة الصحيحة فيما يبحثون عنه في مجالات بحثهم ودراستهم.

باء: حرص الشريعة المقدسة على حفظ الأسرة وصيانتها


يرشدنا قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما خاطب الإمام عليّاً عليه السلام قائلا: «يا أبا الحسن، قلت لبيك» قال: «أسمع وما أقول إلا ما أمر ربي».

يرشدنا إلى أن الأسرة في الشريعة الإسلامية لها من الحرمة الخاصة ما جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدّم هذه المقدمة في كلامه مع علي عليه السلام قبل أن يبدأ في بيان ما للرجل من الأجر والثواب والمنزلة عند الله تعالى فيما لو أعان زوجته وعياله.
وإلاّ كان يمكن أن ينتقل مباشرة بعد رؤيته لعمل الإمام علي عليه السلام وهو جالس ينقي العدس لفاطمة وهي واقفة بجانب القدر، إلى المباشرة في ذكر ما للرجال من الأجر والثواب عند الله تعالى.

ولكن أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقدّم حرمة الأسرة في الشريعة وحرصها الكبير على حفظها وصيانتها قبل التسلسل في بيان الأجر والثواب كي يعيَ المتتبع لسيرة أهل البيت عليهم السلام حجم هذه النعمة ويدرك خطورتها في بناء المجتمعات الإنسانية، ولذا اهتم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل هذا الاهتمام فقدم لها هذه المقدمة في حديثه مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

جيم: اهتمام الشريعة بالتربية النفسية الأسرية من خلال تهذيب الأنا الذكورية


ثم ينتقل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد بيانه لحرمة الأسرة وحرص الشريعة على صيانتها وتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها، ينتقل إلى مرحلة جديدة في هذا البيان وهو اهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بالتربية النفسية الأسرية من خلال تهذيب الأنا الذكورية فيقول: «ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة في بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله من الثواب ما أعطاه الله الصابرين».

واختصاص الرجل المعين لزوجته بثواب الصابرين لكونه مخالفاً للطبيعة الذكورية، بمعنى آخر اعتياد الرجل من وحي الأنا الذكورية على العمل والجهد خارج البيت وبما يتناسب مع تكوين الرجال فضلاً عن إظهار مظاهر الرجولة التي تفرض بطبيعتها عليه التحكم والقيمومية ومن ثم لا تسمح تلك الأنا للرجل بمزاولة أي عمل يدخل ضمن حدود عمل المرأة.

ومن ثم يشعر الرجل بأن وقوفه إلى جانب امرأته هو إعانته لرجولته وهو الذي يفترض أن يزاول الأعمال الصعبة والشديدة التي لا قدرة للمرأة على الإتيان بها.

وعليه: أن يصبر الرجل على ترويض نفسه وتهذيبها عبر التنازل عن ذكوريته والنظر إلى الرحمة والرقة وبناء حياة مطمئنة تنعكس على الأبناء فينهضون لبذل التعاون فيما بينهم فضلاً عن الاهتمام بالوالدين.

مما يترجم إلى عمل دؤوب في بناء العلاقات الاجتماعية التي قوامها التعاون والمشاركة.

دال: ما هي الحكمة في ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأنبياء الثلاثة (أيوب، ويعقوب، وعيسى عليهم السلام) وما علاقتهم بإعانة الرجل لامرأته


يحدد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من الأنبياء عليهم السلام في إحراز الرجل الذي يعين امرأته لثواب عملهم فما هي الحكمة في هذا التحديد، فهل أن بقية الأنبياء لم يكونوا يعينون عيالهم، أو أن الأمر له وجه آخر من الحكمة.

ونقول: نحن نؤمن بأن جميع الأنبياء هم على خلق واحد لأنهم مبعوثون من قبل إله واحد هو الله الواحد الذي لا شريك له ومن ثم لا يمكن حصول اختلاف في أخلاقهم.

فالأسرة والمرأة والأولاد هم جميعاً لهم حرمة عندهم وإن الإنفاق عليهم وإعانتهم وحفظهم من أساسيات الشريعة سواء كانت عند داود أو أيوب أو عيسى أو موسى أو غيرهم سلام الله عليهم أجمعين.

أما الحكمة في ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأنبياء الثلاثة فهي لما يلي:

1. أما ما يخص نبي الله داود عليه السلام فلكونه كان يعمل في صناعة الدروع وهو ما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}[8].

وهذا فيها دلالات عديدة تتناسب مع عمل الرجل في إعانة عياله وامرأته وذلك من خلال:

ألف: هذا التعاون بين الرجل والمرأة يقي الأسرة من التصدع إذ يترك وقوف الرجل بجانب زوجته وإعانتها أثراً كبيراً في شد أواصر المحبة ودوام الألفة ومن ثم ستكون هذه الأسرة محصنة.

باء: قد لا يخفى أن التعامل مع الحديد كما كان يصنع داود عليه السلام يتطلب جهداً كبيراً وصبراً أكبر كي يصل عليه السلام إلى إخراج الدرع وهكذا يكون عمل الرجل داخل البيت في إعانة المرأة فهو يتطلب جهد كبيراً في تهذيب النفس لما تفرضه طبيعة الرجل من أنفة في العمل داخل البيت ولذا يحتاج إلى صبر أكبر كي يصل الرجل إلى هدفه في تحصين أسرته.

جيم: لوجود التقابل في الدلالة اللفظية بين المرأة والدرع فكلاهما من اللباس الذي يلبسه الرجل والمرأة، كما دل عليه قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[9]، وهناك قال سبحانه: {صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}، كما أن المرأة لها نوع خاص من أنواع الملابس التي تتستر بها وهي المدرعة.

2. أما ما يخص نبي الله يعقوب عليه السلام فلكونه كان كثير العيال، وكثرة العيال تستلزم بذل جهود كبيرة في تنشئتهم ورعايتهم؛ فضلاً عن أنه قد ابتلي بفقدان أحد أبنائه وغيابه عنه فبات لفقده جاري الدمعة عظيم الحزن.

مما يعني أنه قد قدم صورة رائعة في تمثيل الجانب الأبوي والإنساني المتفرد في حب الوالد لولده.

أي: بيان حالة أنموذجية في التماسك العاطفي الوالدي.

3. أما ما يخص نبي الله عيسى عليه السلام فهو لدوره المتميز في بيان حالة أسرية خاصة قد أكدت عليها الشريعة المقدسة من آدم وإلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو بر الوالدة.

أي: يدور الأمر أيضاً في هذه الصورة الحياتية لأحد الأنبياء عليهم السلام في تكوين الأسرة وحرمة العائلة كما كان لداود ويعقوب وعيسى عليهم السلام، قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[10].

فالقرآن الكريم يتحدث في معرض بيانه لسيرة نبي الله عيسى عليه السلام عن دور الأم وما تفرضه الأمومة من جهد وجهاد وتعب منذ اللحظات الأولى للحمل وإلى يوم المخاض والولادة ثم السهر والمثابرة والاجتهاد في رعاية المولود إلى حين يصبح رجلاً كل هذه الرحلة يستعرضها القرآن من خلال جوانب متعددة في حياة نبي الله عيسى عليه السلام.

ولذا مثلما أوصاه الله بالصلاة والزكاة كذاك أوصاه بما يوازي ذلك، أي الصلاة والزكاة، وهو البر بوالدته.

فكان كل رجل يقوم بإعانة زوجته لاسيما في مرحلة الحمل وما بعدها ينال من الثواب المعدود للأبرار بالوالدين كما كان عيسى عليه السلام.

هاء: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يخصص ساعة في اليوم لخدمة العيال


من المناهج التربوية في صلاح الأسرة وبنائها التي تضمنتها الرواية الشريفة وضعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من منهاج للرجل في تخصيص ساعة في كل يوم يتفرغ فيها في خدمة البيت.

فقال: «يا علي ساعة في خدمة البيت خير من عبادة ألف سنة وألف حج وألف عمرة وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة، وألف مريض عاده، وألف جمعة، وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم، وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهه في سبيل الله، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ومن ألف أسير اشتراها فأعتقها وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة»[11].

واو: التهذيب النفسي قبل التنفيذ العملي


يسعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال هذا المنهاج في التربية الأسرية إلى خلق نموذج متميز من الرجال الذين تجتمع فيهم بحكم وجودهم في الأسرة صفة الرجولة والقيمومية والوالدية ومن ثم يلزم أن يكون هؤلاء الرجال صورة أنموذجية في هذا التكوين الإنساني الممثل بالأسرة.

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يقدم كل تلك الحوافز والدوافع الترغيبية في خلق هذا الأنموذج الأسري، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم يتدرج في هذا المنهاج ليصل بالقارئ إلى رتبة خاصة بالرجل ومرتبطة بتهذيبه نفسياً، أي إرجاع الأمر إلى التربية النفسية قبل أن تكون في التربية الأسرية.

بمعنى: من لم يدفعه المحفز الأخروي في استحصال الأجر في خدمة العيال ورعايتهم فلا أقل أن يحظى هذا الرجل بجانب من التربية النفسية.

بمعنى آخر: إن المانع الذي يمنع الرجل من السعي في استحصال الأجر الأخروي هو محصور بين أمرين؛ إما أن هذا الرجل يحتاج إلى التهذيب النفسي كي يتسنى له التنفيذ العملي في رعاية الأسرة وإما أنه من الأساس قد رقى إلى رتبة كمالية وأخلاقية متسامية ولذا فهو لا ينظر إلى الأجر الأخروي بقدر ما تدفعه سجيته الأخلاقية ورتبته الإيمانية إلى المضي في هذا العمل داخل الأسرة كما سيمر في الفقرة اللاحقة.

وعليه: نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الممتنع من رعاية العيال في رتبة المريض نفسياً ومن ثم يحتاج إلى علاج، وهو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا علي من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب».

بمعنى: أن هذا الإنسان الذي قدم على خدمة عياله هو في الحقيقة صحيح نفسياً ومن كان يأنف أي: يستنكف، فإنه مريض ومن ثم عليه أن يسعى في تغيير أخلاقه ويقوم بتهذيب نفسه.

فضلاً عن ذلك: فإن مجرد انتفاء الأنفة عن النفس حتى ولو لم يقم الإنسان في خدمة عياله لظروف عمله وصحته إلا أنه في حقيقة الحال لا يأنف من خدمتهم، ولذا فهو يؤجر على ذلك لانتفاء هذه الصفة السلبية عنه.

زاي: خدمة الرجل لعياله كاشفة عن مستواه الخلقي ومنزلته الإيمانية


يختم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حديثه حول هذا المنهاج التربوي للأسرة ببيان حال الرجل الذي يقوم بخدمة عياله ويكشف عن منزلته الإيمانية فيقول: «يا علي لا يخدم العيال إلا صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة».

بمعنى: أن خدمة العيال لها كاشفية عن حال الإنسان ومستواه الإيمان ومن ثم يمكن أن يستدل الإنسان سواء كان هو الذي قد قام بهذا العمل، أي: خدمة العيال أو من عايشه على حقيقة نفسه ودرجة إيمانه فليس لكل رجل أن يقوم بهذا العمل فقد أنيط بمن خصهم الله بلطفه.

وعليه: لزم من المسلم أن يهذب نفسه على السعي في خدمة عياله وأن يخصص لهم من وقته ولو ساعة وأن يحرص على هذه الخدمة فهي فضلاً عن ما ادخرته من أجر وثواب تقود الإنسان إلى الرقي والرفعة ليصل إلى تلك الرتبة التي كشف عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن يكون (صدّيقا أو شهيداً أو رجلاً يريد الله به خير الدنيا والآخرة).

ــــــــــــــــــ
[1] أخلاقيات المعاشرة لـ(غ.ب.بوتيليكو): ص28، ترجمة يوسف إبراهيم الجهماني ط دار حوران بدمشق.
[2] الزواج والاستقرار النفسي لزكريا إبراهيم: ص71ـ82، وعنه: محمد بيومي، سيكلوجية العلاقات الزوجية: ص16.
[3] أخلاقيات المعاشرة (لبوتيليكو): ص35 ط دار حوران بدمشق.
[4] المصدر السابق.
[5] الظاهر أن العبارة: يطحنان بالجاورس، والجاورس: جسم مجوف من حديد أو نحاس يضرب بمدقة يوضع في داخله الحب فيدق ليطحن.
[6] الروضة في فضائل أمير المؤمنين لشاذان بن جبريل القمي: ص56.
[7] مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج13، ص48 ـ 49، برقم (14706)2.
[8] سورة الأنبياء، الآية: 80.
[9] سورة البقرة، الآية: 187.
[10] سورة مريم، الآية: 32.
[11] جامع الأخبار: ص102 ـ 103.

إرسال تعليق