وظائف الصورة الحسية في الشعر الحسيني

بقلم: الأستاذ الدكتور صباح عباس عنوز

لقد هيمنت الصورة الحسية على الشعر الحسيني بشكل عام، فكان لوجودها ميزة خاصة استحوذت على مساحة كبيرة من الدلالات المقبرة، فأضافت وظائف ابلاغية وافهامية واقناعية في آن واحد، وأضحت الصورة الحسية الحسينية آلةً بيانية تليق بالمضمون، فتحولت إلى شبكة منتجة للمعنى، وكانت دالة ودلالة في وقت واحد، أي اصبحت وحدة دلالية تفيد شيئين:

أولهما: افادةٌ من خلال (القراءة الاسترجاعية

التي تقوم أساساً على التأويل بالطريقة التي نادى بها (ميكايل ريفاتير)([1])، وهذه خصيصة الشعر الحسيني تتجلّى في أن الحسية تقود إلى التأويل بوصف هذه الحسية علامة تاريخية، أي دال تاريخي يضم رموزا تضيء النص بعملية الاسترجاع لاحداث واقعة الطف واستحضار مشاهدها، فضلا عن ذلك فان فهم النص الشعري الحسيني بصورته الحسية قائم أصلاً على مستوى (العلاقة السيميائية) والادبية معاً.

مثال ذلك ما قاله عبد المنعم الفرطوسي([2]):

أهوى ابن حيدر فالابصار شاخصة   *** ترنو إلى علم ملقى على علم

فالصورة الحسية الحركية بدأت تتعانق مع الصورة البصرية لتحقيق الرؤيا بوساطة (أهوى، شاخصة، ترنو، ملقى) فعبارة (ملقى على علم) تفيد في استنتاج رؤية أخرى تأويلاً عبر ايماء الصورة الحسية، فالراية او العلم دلالة على الارتفاع والسمو وجاءت كلمة (علم) تورية والمقصود بها العباس (عليه السلام) فهو ايضا علامة للسمو والارتفاع في الموقف النبيل فتساوت الدلالتان في الايماءة المعنويّة.

أو ما قاله الجواهري ([3]):

كأن يدا من وراء الضريح    *** حمراءَ مبتورةَ الأصبع
يُمَدُّ إلى عالم بالخنوع   *** والضيم ذي شرقٍ مُترعِ

فثمة علاقة بين قضية الحسين عليه السلام واللون الاحمر، وربما كانت أكثرالصور الحسية تواجدا في المشهد الحسيني هي ما ُصبغت بالحمرة، وعودة الى البيتين السابقين نجد الدلالة الايحائية التي أظهرها اللون الاحمر جلية، فالشاعر حرص على أن يقدم صورته الحسية ملونة من خلال دلالة الاصبع المبتور المصبوغ بالدم، ليوميء الى عالم الخنوع شارحا قصة الشهادة التي يقدم من أجلها النفيس، كي يتعلم العالم من درسها، وفي الوقت نفسه يظل الفعل الحسيني شارة تدلي العابرين غبار الخنوع، المتطلعين الى اشراقة الحرية وصحوها.

فأدّت دلالات الصورة الحسية ايحائيتها عبر عملية الاسترجاع التي اشرنا اليها سابقا لتضع السامع تاريخيا على مشهد الطف موضع الرائي الحاكم على عنجهية جيش يزيد، فحضر التأويل عبر القراءة الاسترجاعية في عبارات (مبتورة الأصبع) و(يمدّ إلى عالمٍ بالخنوع ... مترع).

والأمر نفسه نجده في قول حيدر الحلي:

سلْ بِحِجر الحرب ماذا وضعت *** فثدِيَّ الحرب قد كن نصالا

لقد أعطى النص وظيفة شعرية تستشف من تأويل النص والوقوف على هول الحرب، وما تركته من أثار حتى على الطفل الرضيع وقام ذلك التأويل على استنطاق دلالات الصورة الحسية (حجر الحرب)، و(ثدي الحرب) و(قدكن نصالا).

ثانيهما: هيأت ــ الصورة الحسية ــ للشعر الحسيني جمهوراً لا تهيؤه أي قصيدة في العالم

لأنها تناغمت مع الوعي الجمعي، ولو قمنا بالتحقيق في ذلك لوجدنا أن بعضاً من القصائد الشعرية الحسينية تغلغلت في الوعي الجمعي فتجاوزت بعض ما خلّفه بنتاؤور المصري أو طاغور الهندي او جوته الالماني أو ما يكوفسبكي الروسي اوالمتنبي واضرابهم.

فالقاعدة عريضة بسبب التذوق الشعري والاكتشاف والارتياح للصورة الحسية الحسينية ودلالالتها في النفس وما تحمله من صدق الموضوع ومثال على ذلك القصيدة الميمية للفرزدق والتائية لدعبل والبائية للهندي واللامية للحلي والعينية للجواهري وهكذا فقد سكنت مثل هذه القصائد ذائقة المتلقي اكثر من شعر اصحابها، وكأنهم كتبوا هذه القصائد فحسب.


ثالثهما: وثمة فائدة أخرى للصورة فوظيفتها التمثيل الحسي للموقف

وترتبط هذه الوظيفة حتماً بالشعور المسيطر على الشاعر([4])، وكلما كانت الصورة أكثر ارتباطاً بذلك الشعور كلما كانت أقوى صدقاً وأعلى فنا([5])، وإذا لم يستطع الشاعر ربط العمل الحسي الذي يراه بجوهر شعوره فأن موقفه في أزاء الفكرة يضعف ([6])، بمعنى أنه لا يمكن أن يمثلها، لذا يحرص الشاعر على نقل شعوره صادقاً إلينا، حين يتعايش بقوة مع الحدث، فكيف إذا كان هذا التعايش عقائدي كالايمان بقضية الحسين (عليه السلام)، من هذا الباب تكون القصائد الحسينية المعبّرة عن الدلالة، عميقة الصورة.

يقول الشاعر ضرغام البرقعاوي، في صورة حسيّة ملونة رسمتها المجازات العقلية والاستعارات:

كيف ترتاعُ في الدما الكبرياء *** ولقد ضجّ في العروق الوفاءُ
يا صلاة الطفوف يا لغة الله  *** لها في فم الزمـان دعاءُ

وبالصورة الحسية يجعل الشاعر قضية الحسين (عليه السلام) لغة الله سبحانه وتعالى التي تظل خالدة؛ لأنها تحكي الشمم والكبرياء والموقف الإنساني الخالد، لذا أراد الشاعر مرة أخرى من هذه الحال أن يخاطب المتلقي لتُلهمه هذه الصور الحسية فضاء التحرر كي يعبر الصعوبات، وبان الشاعر رافضاً واقعه المعيش، إذ إن من وظائف الصورة الحسية تحفيز مفاهيم الرفض أو التمرد أو القبول بالنسبة للشاعر تجاه الوجود، وهنا تظهر وحدة الصراع جليةً، فهو يقول عبر الاستعارات:

إلهمينا فالهول جاث *** ورؤانا مع الزمان هباءُ
وارينا حلم الحسين بفجر *** رعفت بانبثاقه كربلاءُ
وخذينا إلى الحتوف حتوفاً  *** تشهد الأرض زحفنا والسماءُ

حققت الصورة الحسية وظيفةً مرئية اشترك بها الحس والذهن معاً عبر عبارتي (الهول جاثٍ) و(رؤانا هباءُ) فأخذ المحسوس بيد المعقول لإيصال وظيفة الصورة الحسية التي تحولت فيما بعد إلى صورة حسية حركية كما في قوله:

(وخذينا إلى الحتوف حتوفاً  *** تشهد الأرض زحفنا والسماءُ)

لقد دأب الشعراء الحسينيون إلى التجسيم فضلاً عن التشبيه الذي يحرص دائماً على طبع وجدان السامع بأشكال وألوان محسوسة؛ لأن الصورة التجسيمية " لا تقف عند حدِّ التجسيمات لمجرد الجمع بين صفات حسية وإنما تعنى بتقديم الصور الجزئية التجسيمية لإظهار شعور أو فكرة فلسفية في الصورة الكلية([7])".

تأمل قول الشاعر الوائلي في مستهل قصيدته:

هل من سبيل للرُّقاد النائي  *** ليداعب الأجفانَ بالإغفاء

بدأ الشاعر بالحكمة، فالرقاد البعيد الذي أراده ليداعب أجفانه بالأغفاء لكي لا يتذكر وجع الطف المؤلم حقق له وظيفةً لولوج القصيدة بصور حسية أسهم في رسمها التشبيه بقوله([8]):

فانقض مثل الصقر شام فريسةً *** وجلا الصفوف وجال في الإرجاءِ
حتى إذا دفع العدى عن شبله *** آوى إليه بلوعةٍ وبكاءِ
ألفاهُ معفرَّ الجبين تمازجت    *** حُمرُ الدماءِ بوجنةٍ بيضاءِ
ورأى شفار المرهفات تلاعبتْ *** بجمال تلك القامة الهيفاءِ
فجثا واقنع للسماءِ بشيبةٍ   *** مغمورةٍ بمدامعٍ ودماءِ

فنجد هنا وظيفة الصورة الحسية قد تجلت في جمع الصور الجزئية تحت مظلة صورةٍ كلية، إذ تآلفت الصور العضوية فيما بينها عبر انتقال الصور الجزئية انتقالاتٍ نفسيةٍ مفاجئةٍ، حققت الادراك لوحدة الصورة التي تمثلت في هذا المشهد الشعري الحزين، فكانت الصورة الحركية تتعاضد مع أخواتها من الصور الحركية في (فأنقض مثل الصقر) و(جلا الصفوف) و(جال في الإرجاءِ) و(دفع العدى عن شبله) و(رأى شفار المرهفات تلاعبت) و(فجثا واقنع للسماءِ بشيبةٍ).

الأمر الذي اضفى صورة حسية كلية هيأت للصورة المرئية الملونة في قوله:(ألفاهُ متعفر الجبين تمازجت حُمرُ الدماءِ بوجنةٍ بيضاءِ) و(مغمورةٍ بمدامع ودماءِ)، وبذلك بانت وظيفة الصورة الحسية في كونها لها القدرة على ضم الصور الجزئية بعضاً إلى بعض حتى آبت صورة كلية ملونة ومقنعة لدى المتلقي، فاخبرت هنا تاريخيا وصوريا عن حال الحسين(عليه السلام) وحركاته حين وجد ابنه وقد استشهد، بعدما قدم نفسه قربانا لقضيته، فلقى ربه ضمأنا معفرا بالدماء، ومن الوظائف المهمة للصورة الحسية أنها تسهم في إثارة النفس وجذب المتلقي عبر قدرتها الاقناعية في طبع تلك الصور الحسية في ذهن السامع، تأمل قول الشاعر مصطفى جمال الدين ([9]):

ذكراكَ، تنطفئُ السنينُ وتغربُ   *** ولها على كفِّ الخلودُ تَلَهّبُ
لا الظلم يلوي من طماح ضرامها    *** أبداً، ولا حقد الضمائر يحجبُ

فحققت الصورة الحسية عبر تراسل المدركات والحواس صوراً مقصودة، وكان التراسل مقصوداً في ((انطفاءة السنين وغروبها)) وفي ((التلهب على كف الخلود)) وفي ((ليّ الظلم من طماح الضرام)) و((حجب الضمائر))، الأمر الذي أسهم في منح الصورة الحسية إضاءة وجدانية تحققت عبر الانطفاء والتلهب والليّ والحجب، وهذه الوظيفة للصورة الحسية أنتجت وظيفة شعرية جمعت بين الفكرة والشعور، وواءمت بين الصيغ البيانية من جهةٍ وتراسل الحواس من جهةٍ أخرى، وتلك خصيصة شائعة في الشعر الحسيني، يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير([10]):

سما عظماً تاريخُكَ الأنجمَ الزهرا   *** وفاض بهاءً تستضيءُ به الذكرى
وفاض جهاداً.. ضمَّخ الأفق فجرهُ    *** دماءً بها الاسلام قد أدرك الثأرا

لقد كانت الصورة التعبيرية هنا ايحائية، وقد اسهم الرمز في تقويتها فنياً فضلاً عن الصورة الحسية التي كانت مرسومة ببناءٍ فني بان فيه تماسك اللغة وهدف الموضوع فمن سمو التاريخ الذي حرص عليه الشاعر في تطاوله (الأنجمُ الزهرا) إلى (استضاءة الذكرى به) حين فاض البهاء وفاض الجهاد، وحين صُبغ فجر الافق بدماء أبقت الطريق الاسلامي سالكاً خالياً من شوائب العبثية والرذيلة، وموشحاً بقيم الفضيلة، فتجلت وظيفة الصورة الحسية في كونها قادرة على ضم اللغة بشكل يخدم الصورة؛ لأن الكلمات خادمة طيعة للمتحدث ولها نوع من الاشعاع الخاص بها([11]).

فالصورة الحسية لها وظيفةٌ تعبيريةٌ ولها القدرة على ضم الشكل والمضمون معاً، باختيار سياق لغوي يهيؤ لعملية تراسل الحواس التي هي نتاج مهم للصورة الحسية، وبذلك تنوعت وظائف الصورة الحسية عند الشعراء على وفق الدوال التاريخية التي اخذوها من احداث واقعة الطف، فصّوروا المشاهد وغمسوها بوجدانهم وغذّوها بالحب الخالص لال البيت عليهم السلام فكانت هذه الصور الحسية منبثقة من الوجدان اليقيني للمنشيء ومخاطبة الوجدان اليقيني للمتلقي فاستقرت القصائد الحاملة لها في صفحة الزمن اصواتا انسانية شع بها الضمير فاستحقت الخلود.




([1]) البنيات الدالة لشعر امل دنقل /18.
([2]) ديوان الفرطوسي:72.
([3]) ديوان الجواهري:3/231.
([4]) ظ: النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال /444.
([5]) ظ: المصدر نفسه /444.
([6]) ظ: المصدر نفسه /445.
([7]) ظ: النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمة هلال /446.
([8]) ديوان الوائلي، شرح وتدقيق: سمير شيخ الأرض، 129.
([9]) الديوان، مصطفى جمال الدين /411.
([10]) ديوان أهل البيت (عليهم السلام)، د.محمد حسين الصغير /174.
([11]) ظ: النقد الادبي الحديث، محمد غنيمي هلال /451.

إرسال تعليق