دور المرأة في معركة الجمل

بقلم السيد نبيل الحسني
اختزن التراث الإسلامي في مواضع كثيرة منه سواء ما كتب في الحديث أو التفسير أو التاريخ أو التراجم أو سواء ما كتب في العقيدة وعلم الكلام أمر خروج عائشة إلى البصرة للمطالبة بدم عثمان بن عفان ويمكن أن نوجز هذه الحادثة بما اختصره الحافظ العيني في شرحه لصحيح البخاري، ثم نتوقف في دور المرأة في ساحة المعركة وآثار ذلك على المستوى النفسي والعسكري والعقائدي لما تحتله عائشة من موقعية في الإسلام بكينونة ارتباطها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعلقة الزوجية التي فرضت عليها حدوداً خاصة جاء بها القرآن الكريم في سورة الأحزاب، قال تعالى:

(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا). (سورة الأحزاب، الآيات: 32 و 33 و 34).

وعليه:
كان خروجها إلى قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد شكل مفصلاً من مفاصل الحركة الفكرية للمسلمين تجاذبت فيها الأقلام والأعناق آثار هذا الخروج وانعكاساته على عقيدة المسلم.

قال الحافظ العيني:
(كانت وقعة الجمل عام ستة وثلاثين من الهجرة وكان قتل عثمان بن عفان سنة خمس وثلاثين وكانت عائشة بمكة وكذلك أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في سنة خمس وثلاثين فرارا من الفتنة ولما بلغ أهل مكة أن عثمان قد قتل أقمن بمكة.

ثم لما بويع علي ــ عليه السلام ــ كان أحظى الناس عنده بحكم الحال لا عن اختيار علي لذلك رؤوس أولئك الذين قتلوا عثمان وفر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة وخرج طلحة والزبير في الاعتمار وتبعهم خلق كثير وجم غفير وقدم إلى مكة أيضا في هذه الأيام يعلى بن أمية ومعه ستمائة ألف ألف درهم وستمائة بعير فأناخ بالأبطح وقيل كان معه ستمائة ألف دينار وقدم ابن عامر من البصرة بأكثر من ذلك.

فاجتمع بنو أمية بالأبطح وقامت عائشة في الناس تحضهم على القيام بطلب دم عثمان وطاوعوها في ذلك وخرجوا وتوجهوا نحو البصرة وكانت عائشة تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار وكان هذا هو الذي يدلهم على الطريق وكانوا لا يمرون على ماء ولا واد إلا سألوه عنه حتى وصلوا إلى موضع يسمى حوأب بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الهمزة وفي آخره باء موحدة وهو ماء قريب من البصرة فنبحت كلابه فقالوا:

أي ماء هذا قال الدليل هذا ماء الحوأب فحين سمعت عائشة بذلك صرخت بأعلى صوتها وضربت عضد بعيرها فأناخته فقالت أنا والله صاحبة الحوأب ردوني ردوني تقول ذلك فأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى المسير حتى إذا كانت الساعة التي أناخت فيها من الغد جاءها عبد الله بن الزبير فقال النجاء النجاء، فقد أدرككم علي بن أبي طالب فعند ذلك رحلوا.

وأما حديث الحوأب:
فأخرجه أحمد في مسنده عن عائشة قالت إن رسول الله قال لي ذات يوم: «كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب». فعرفت الحال عند ذلك فأرادت الرجوع، وأما علي ــ عليه السلام ــ فإنه خرج في آخر شهر ربيع الآخر في سنة ست وثلاثين من المدينة في تسعمائة مقاتل وقيل لما بلغ عليا مسير عائشة وطلحة وزبير إلى البصرة سار نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة فيهم أربعمائة ممن بايعوا تحت الشجرة وثمانمائة من الأنصار ورايته مع ابنه محمد بن الحنفية وعلى ميمنته الحسن بن علي وعلى ميسرته الحسين بن علي وعلى الخيل عمار بن ياسر وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر وعلى مقدمته عبد الله بن عباس ثم اجتمعوا كلهم عند قصر عبيد الله بن زياد ونزل الناس في كل ناحية وقد اجتمع مع علي ــ عليه السلام ــ عشرون ألفا والتفت على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفا وقامت الحرب على ساقها فتصافوا وتصاولوا وتجاولوا وكان من جملة من يبارز الزبير وعمار فحمل عمار نحوه بالرمح والزبير كاف عنه لقول رسول الله: «تقتلك الفئة الباغية». وقتل ناس كثير ورجع الزبير عن القتال.

 وقال الواقدي: كان زمام الجمل بيد كعب بن سور وما كان يأخذ زمام الجمل إلا من هو معروف بالشجاعة ما أخذه أحد إلا قتل وحمل عليه عدي بن حاتم ولم يبق إلا عقره ففقئت عين عدي واجتمع بنو ضبة عند الجمل وقاتلوا دونه قتالا لم يسمع مثله فقطعت عنده ألف يد وقتل عليه ألف رجل منهم وقال ابن الزبير جرحت على زمام الجمل سبعاً وثلاثين جراحة وما أحد أخذ برأسه إلا قتل أخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل ثم أخذه الأسود بن البحتري فقتل وعد جماعة وغلب ابن الزبير من الجراحات فألقى نفسه بين القتلى ثم وصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك القوم من قتلة عثمان فضج الناس معها بالدعاء وأولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ فجعلت الحرب تأخذ وتعطي فتارة لأهل البصرة وتارة لأهل الكوفة وقتل خلق كثير ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة.

ثم حملت عليه السائبة والأشتر يقدمها وحمل بجير بن ولجة الضبي الكوفي وقطع بطانه وعقره وقطع ثلاث قوائم من قوائمه فبرك ووقع الهودج على الأرض ووقف عليها علي ــ عليه السلام ــ فقال السلام عليك يا أماه فقالت وعليك السلام يا بني فقال يغفر الله لك فقالت ولك وانهزم من كان حوله من الناس وأمر علي ــ عليه السلام ــ أن يحملوا الهودج من بين القتلى وأمر محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يضربا عليه قبة.

ولما كان آخر الليل خرج محمد بعائشة فأدخلها البصرة وأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي وبكت عائشة بكاء شديدا وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون عليها ثم أن عليا ــ عليه السلام ــ أقام بظاهر الكوفة ثلاثة أيام وصلى على القتلى من الفريقين.

وقال ابن الكلبي:
قتل من أصحاب عائشة ثمانية آلاف وقيل ثلاثة عشر ألفا ومن أصحاب علي ألف وقيل قتل من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة خمسة آلاف وكان في جملة القتلى طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة ثم دخل على البصرة يوم الاثنين ثم جهز عائشة أحسن الجهاز بكل شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وأخرج معها كل من نجا من الوقعة ممن خرج معها واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ووقف علي معها حتى ودعها وكان خروجها يوم السبت غرة رجب سنة ست وثلاثين وشيعها علي أميالا وسرح بنيه معها يوما.

وقال الواقدي:
أمر علي النساء اللاتي خرجن مع عائشة بلبس العمائم وتقليد السيوف ثم قال لهن لا تعلمنها أنكن نسوة وتلثمن مثل الرجال وكن حولها من بعيد ولا تقربنها وسارت عائشة على تلك الحالة حتى دخلت مكة وأقامت حتى حجت واجتمع إليها نساء أهل مكة يبكين وهي تبكي وسئلت عن مسيرها فقالت لقد أعطى علي فأكثر وبعث معي رجالا وبلغ النساء فأتينها وكشفن عن وجوههن وعرفنها الحال فسجدت وقالت والله ما يزداد ابن أبي طالب إلا كرما)( عمدة القاري للعيني: ج15، ص49 ــ 50).

أقول:
إن هذا الظهور للسيدة عائشة في ساحة المعركة وهي تحتل منها محل القطب من الرحى وبهذه العدة الممثلة بنوع المركب (الجمل الأدبب)( فتح الباري لابن حجر: ج13، ص45) ، وفي داخل الهودج اكسبها تحكما بسير المعركة وشحذ المقاتلين الذين استماتوا من حول الجمل الذي قتل من حوله (خلق كثير ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة)( عمدة القاري: ج15، ص50).

ويمكن ملاحظة بعض الآثار لوجود عائشة في المعركة.
1 ــ كونها زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أكسبها مقام تحريم الرجال عليها حرمة أبدية فلا يحق لرجل من المسلمين الزواج بأي امرأة من أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعلهن القرآن بمنزلة الأم لقوله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ). (سورة الأحزاب، الآية: 6).

ولذا: نجدها تنادي في الناس: (الله الله، يا بني أذكروا يوم الحساب)، حينما وصلت النبال إلى هودجها، بمعنى: أن وجودها في المعركة أكسب الحرب سمة عقائدية فضلاً عن كونها خصماً في هذه الحرب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

2 ــ فضلاً عن كونها في المنزلة السابقة فإن وجودها على رأس الهرم في هذه الحرب وهي امرأة جالسة في الهودج يدفع بالرجال من الناحية النفسية إلى الدفاع عنها وإظهار مظاهر الشجاعة التي أظهرها بنو ضبة فوقعت فيهم مقتلة عظيمة.

إلا أن وجود أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في الجهة المقابلة وتحت أمرته أربعمائة ممن بايعوا تحت الشجرة وثمانمائة من الأنصار أحدث اختلالا في ميزان القوى لما يشكله هذا النسيج العقائدي الممثل بشخص الإمام علي عليه السلم والمهاجرين والأنصار وسبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليجعل نهاية هذه الحرب لصالح أمير المؤمنين عليه السلام على الرغم من أن عدد المقاتلين من أهل البصرة الذين التفوا حولها كانوا ثلاثين ألفاً، أي بما يفوق أهل الكوفة والمدينة ومكة بعشرة آلاف مقاتل.

إذن:
تعطي وقعة الجمل مفهوماً جديداً لدى العسكريين والاجتماعيين يرتكز على معطيات جديدة في الحروب، وهي كالآتي:

1 ــ إن حضور المرأة في المعركة في المجتمع العربي يعطي زخماً قتالياً للمقاتل لما تفرضه التنشئة العربية على الإنسان العربي من قيم الرجولة والحمية وصون الحرم؛ إذ يشكل وجود المرأة في المعركة بما تحمله من ضعف في بنيتها الجسدية والعاطفية شعاراً بالانتقاص من ذكوريته ورجولته، ولذا يجد نفسه ملزماً بالدفاع عنها ومواجهة أقرانه.

2ــ إن المرأة حينما تحتل مركزاً عقائدياً وتكون على دفة القيادة فإن ذلك يدفع بالمقاتلين إلى التضحية والاستبسال بين يديها، ولعل التاريخ العربي غير غريب عليه هذه الحقيقة فقد مثل وجود زنوبيا ملكة تدمر، وبنات النعمان بن المنذر بعداً استتراتيجيا في المعركة.

إرسال تعليق