كربلاء فاجعة العدل الكبرى

بقلم: الدكتور عبد المجيد عباس الحيدري

أيها القراء الكرام: هذا موقف رهيب رائع تتواثب فيه المعاني الجليلة الى ذرى الألباب وتتسابق فيه العواطف النبيلة الى معاقل الأفئدة وماض متأمل وقف يتأمل برهة وان قصرت في هذا الموكب الزاخر من الأفكار والمشاعر إلاّ وكساه التعجب رهبة وخشوعاً من روعة المشهد وجلال التضحية وامعان البطولة الخالدة في معارج العظمة المتناهية وليس بدعاً ان تقربنا هذه الذكرى التي نجددها في كل عام من ذلك المثل الأعلى الذي خطته يد الأقدار في تاريخ البشرية بدماء الشهادة ونور الإيمان. فلكل أمة من تاريخها نصيب في السمو ولكل امة من ماضيها عبر بالغة وعظات نافعات. ولكن الأمم ليست سواسيه في هذا الشأن وإنما تتفاوت حظوظها منه تفاوت الحوادث في شرف المغزى وبعد التأثير وما من أمة على ما نعلم جمع لها التاريخ في حادثة واحدة من العبر العجيبة والدروس البليغة مثل ما جمع لهذه الأمة الكريمة في فاجعة كربلا ومصرع الحسين (عليه السلام). ولا أحسب أن أحداً في هذا البلد يعوزه الإلمام بدقائق ذلك الخطب الجلل وتلح به الحاجة الى تتبع الخطوات التي بلغ بها نهايته الأليمة منذ ان ازمع الإمام شد الرحال الى الكوفة تلبية لنداء الواجب واستجابة لدعوة الحق الى أن وقف في صعيد كربلا مخذولا مخيراً بين اثنتين كلتاهما مركب صعب ففضل ركوب المنية على ركوب الذلة والمسكنة وصاح صيحته المشهورة (( والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد)) ثم صبر على كل ما يعز على الرجال ان يصبروا عليه ولقي كل ما يكره من الناس ان يلقوا وهو القادر في كل لحظة على ان يرفع عنه كابوس المحنة لو كان ممن يحيدون عن الحق قيد شعرة.

فحديث كربلا ومصرع الحسين (عليه السلام) انشودة الحزن التي يرددها الزمن على مسامع الخلود وحديث الألم الذي يعبر عن الآم البشرية حتى اللحظة الأخيرة ولن تخفى واردة منه ولا شاردة على كل من ينبض قلبه بالحب والولاء لآل البيت ولكن الأحداث الخطيرة والخطوب الجسيمة لا يقف معناها عند حدود الوقائع ولا ينحبس مغزاها بين فواصل الأجيال وإنما هي رمز قدسي خالد كلما تعرضت له صفحة جديدة من الحياة عادت منه بثوب جديد فلا عجب ان تمر العصور وتجري الحقب وتضحية الحسين (عليه السلام) تملأ القلوب وتسيل على الألسنة والأقلام ولا غرو أن يعرض لها الشعراء والخطباء والكتاب فلا يزدادون منها إلاّ إعجاباً فوق اعجاب حتى ليجد فيها كل جيل هدايته وتصدر عنها كل عبقرية بثمرة خالدة. وبالأمس القريب عرض لها الأديب العربي والكاتب الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد فأستجلى منها اسمى ما ينزع اليه العقل البشري من الافكار واستشف من مراميها انبل ما يجيش في الصدور الانسانية من الخوالج والاحاسيس فكان ذلك برهاناً جديداً على اتساع هذه السيرة المقدسة لأهداف الأجيال المتعاقبة واكتنافها لغايات الوجود الدائمة ولقد احسن الرجل كل الاحسان واجاد كل الاجادة فجزاه الله عن الاسلام وعن حب الخير احسن الجزاء وما كل انسان يؤتي من العبقرية ما ينيله استقصاء المثل المتسامية واقتناص المعاني الدقيقة المترامية ولكن كل انسان يستفيد من العبرة على قدر ما يدرك ويؤجر على قدر ما يستفيد ولو جاز لنا ان نصف مصرع الحسين (عليه السلام) بوصف فريد جامع لقلنا انه يمثل في مجموع معالمه ( فاجعة العدل الكبرى) في سجل البشرية من غير تردد ولا استثناء فما من حادثة وضحت فيها قرائن الحق وتمسك به فيها اهله كحادثة الطف وما من فاجعة برزت فيها عناصر الظلم واشتط فيها اهله كتلك الفاجعة فقد كانت حرباً بين النور والظلمة وصراعاً بين الضلالة والهدى وكفى فجيعة للعدل ان تظفر الظلمة بالنور وان تنال الضلالة من الهُدى وقديماً قال الحكماء ان العدل هو الفضيلة وان الفضيلة هي المعرفة واذا كانت فاجعة كربلا هي فاجعة العدل الكبرى فهي بلا امتراء اكبر فاجعة للفضيلة والمعرفـة وليس بنافع ان يـردد عمر بن سعد وغـيره ممن تألبوا على قتل الحسين (عليه السلام) انهم يعرفون قدره ويعترفون بحقه ولكنهم يجهزون عليه طمعاً بغُنْم أو تحاشياً لغرم تحت ضلال السلطة القائمة فينشد ابن سعد مثلاً أبياته المشهورة قائلاً:

فوالله مـا ادري واني لحـائر *** افكر في امري على خطريـن
أأترك ملك الري والري منيتي *** أم أرجع مأثوماً بقتل حسيـن
وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الري قرة عيني

ثم يقر قراره بعد ذلك على ان يزحف الى معسكر الحسين ويرميه بسهم من سهامه وهو ينادي (( اشهدوا لي عند الامير  انني اول من رمى الحسين)) فهذه المعرفة هي المعرفة الناقصة وهي شر من الجهل، وهذا الفهم للامور هو الفهم المختلط، وهو امر من الغباوة وادهى، وهما لا يقومان عذراً لمعتذر ولا يقدمان شفاعة لخاطئ. اما المعرفة الحقيقية فهي التي يدعمها الفعل ولا يخزيها السلوك وقد حدثنا العلماء المعاصرون ان الفكرة جزء من الفعل وان الفعل مظهر للفكرة ولا سبيل الى الفصل بينهما ومن كان فعله سيئاً ليس له ان يدعي بجمال التفكير ومن كان فكره سيئاً ليس بوسعه ان يأتي بفعل جميل، ولو كان لتلك الفئة التي اطبقت على الحسين (عليه السلام) شيء من المعرفة الحقيقية لكان لها شيء من الفضيلة ولو كان لها شيء من الفضيلة لكان عندها للعدل ميزان وحسبك من ضلالة القوم وظلمهم ان يخرج اليهم سبط نبيهم متقلداً سيف رسول الله وعليه عمامة رسول الله ورداؤه فيهيب بهم قائلاً (( انسبوني من انا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي..؟ ألست ابن بنت نبيكم..؟ الم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة..؟ ويحكم اتطلبوني بقتيل لكم قتلته أو مال استهلكته..؟))  ثم لا يجد منهم الا تمادياً في الغي ولجاجة في العداوة فهل من شك بعد هذا في ان تكون فاجعة كربلا فاجعة العدل والفضيلة والمعرفة في آن واحد وكأن العناية الألهية ارادت ان تمتحن مدارك البشرية جمعاء وان تخيرها خياراً لا لبس فيه بين طريق السعادة وبين طريق الشقاء، فجنى البشر على انفسهم وما زالت آثار تلك الجناية باقية حتى الوقت الحاضر وما زال الانسان يدعي معرفة الحق ويحيد عنه بفعله وما فتئت عوامل البغي واعراض الظلم تورثه اذى وخسراناً رغم ادعائه بمعرفة واسعة وعلم غزير اوليست هذه الحروب الحديثة التي تفنى فيها ملايين الأنفس وتشقى من جرائها ملايين أخرى من بعض المظاهر لفاجعة رئيسية واحدة هي فاجعة العدل والمعرفة..؟ أوليس اهتضام الامم القوية لحقوق الأمم الضعيفة وكيد الافراد للافراد في داخل الامم علة هذا البلاء في العالم الذي نعيش فيه اليوم..؟ وهل ينفع الإنسان المتمدن ان يطير في الهواء وان يغوص تحت الماء وان يستحدث من الذرة طاقة لا تقاوم اذا كان لا يستطيع ان يستعمل هذه المعرفة في سبيل الخير..؟ ليس المهم في المعرفة ان يسيطر العلم على قوى الطبيعة وان يسخرها لإشباع رغائب الإنسان وارضاء شهواته العابرة وانما المهم في المعرفة ان يسيطر العلم الى جانب ذلك على سلوك الإنسان نفسه وان يفعل مفعوله في ترتيب العلائق بين البشر على اساس العدل والفضيلة وسيبقى الإنسان بالغاً ما بلغ علمه يتخبط بين احضان الخوف والشقاء ما لم يتخذ من تلك العبرة التي انطوت عليها فاجعة كربلا مرشداً له ودليلاً في سلوكه ازاء اخيه الإنسان وليس في وجودنا هنا في هذه الساعة ما يؤجرنا شيئاً عند الله ولا ما يرفعنا في اعيننا قبل اعين البشر الآخرين ان لم نتعظ بتلك العظة التي ضحى من اجلها الحسين (عليه السلام) تضحية لا مثيل لها في سجل الابطال الخالدين ولم نجعل رائدنا هو العدل قولاً وفعلاً.. والسلام عليكم.

إرسال تعليق